خلال الأيام القليلة الماضية، خاصة بعد تصريحات ومبادرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التفتت المؤسسات الإعلامية ومراكز الدراسات الإستراتيجية والفعاليات المجتمعية المختلفة بشكل ملحوظ إلى الأزمة السودانية باعتبارها ملفًا ساخنًا يستحق الشرح والتبيان من جهة، و«ديجورًا» غامضًا لملايين الأشخاص حول العالم من جهة أخرى.
وخلال مشاركتي في عدد من هذه الفعاليات، وجدت تعاطفًا هائلًا مع القضية السودانية، وازداد هذا التعاطف بعد مجازر «الدعم السريع» البشعة بمدينة الفاشر، بيد أن هذا التعاطف صاحبه سيل من الأسئلة والاستفسارات حول هذه الوحشية والتشفي والإسراف في القتل والخراب من قبل المليشيات، ولذلك سنحاول خلال هذه السطور الإجابة عن بعضها.
حينما نتناول مشهد السلاح في السودان، فإننا في الحقيقة لا نتحدث عن مجرد قوتين متصارعتين في ساحة حرب، بقدر ما نتحدث عن مشروعين مختلفين جذريًا في الجذور والبنية والهدف وطبيعة التشكل والتكوين والانتماء، فبينما نشأت القوات المسلحة السودانية كأقدم مؤسسة وطنية جامعة عمرها أكثر من مائة عام، نشأت قوات «الدعم السريع» كامتداد لمليشيات قبلية صارت لاحقًا أداةً بيد أسرة واحدة تتحكم فيها من أعلى الهرم إلى أدنى وحدة ميدانية، وربما ساعد وجود هذا العدد الهائل من المرتزقة الأجانب في صفوفها بشكل مباشر على غياب الأصوات المنتقدة لتحكم أسرة دقلو في مفاصل القوات والجهات السياسية التابعة لها.
وهنا تتجلّى المعضلة الكبرى التي يعانيها السودان اليوم:
أيّهما يستحق وصف القوة الوطنية؟
وأيهما يمكن أن يكون أساسًا لإصلاح أمني حقيقي؟ وأيهما يحمل بذور البناء؟ وأيهما يحمل بذور الفوضى؟
«الدعم السريع».. مليشيا قبلية بإدارة عائلي
منذ نشأة «الدعم السريع»، لم يكن خافيًا أنه كيان نشأ من رحم التشكيلات القبلية التي اعتمدت عليها حكومة البشير في خمد التمرد بدارفور، ومع مرور الوقت، وكثافة التمويل والتسليح والاستقلال المالي، تحوّل هذا التكوين إلى منظومة مغلقة لا تخضع لقواعد العسكرية التقليدية ولا لهياكل الدولة، بل لولاءات شخصية وقبلية داخل دائرة أسرة دقلو، خاصة بعد سقوط نظام عمر البشير عام 2019م.
فالقائد هو محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ونائبه هو شقيقه عبدالرحيم دقلو، والمدير المالي شقيق آخر، وقيادات العمليات وقادة المحاور من أبناء العمومة والمقرّبين، وحتى القوات الميدانية وقيادات الوحدات تُختار وفق ميزان الولاء القبلي، لا وفق ميزان الكفاءة العسكرية، هذا ليس تحليلًا سياسيًا، بل بنية معلنة ومعلومة لكل من اشتغل على ملف الأمن السوداني.
بهذا الشكل، باتت «الدعم السريع» أقرب إلى مؤسسة أمنية عائلية ذات ذراع عسكرية، تتحكم فيها أسرة واحدة تملك مفاتيح القرار والثروة والسلاح، وهو وضع لا يشبه أي قوة نظامية في العالم، بل يشبه تشكيلات المليشيات التي تنهار بزوال الراعي أو بتبدّل الولاءات القبلية داخلها.
ومع تضخم أعداد المقاتلين من المرتزقة، تحوّلت هذه البنية إلى شبكة مصالح عسكرية واقتصادية تعتمد على التجنيد عبر الولاء والمال، كل ذلك جعل «الدعم السريع» قوة خطرة في لحظة السلم، إذ وُجدت تفلتات وخروقات كبيرة لجنودها حتى قبل سقوط نظام البشير، وأكثر خطورة في لحظة الحرب، لأنها تقوم على رابطة داخلية لا علاقة لها بمفهوم الدولة، وهذا ما يشاهد الآن من قتل وانتهاكات واسعة يتم توثيقها من الجنود أنفسهم وبثها على نطاق واسع باعتبارها انتصارات كاسحة تستحق الاحتفاء.
القوات المسلحة السودانية.. بوتقة مائة عام
في الجهة الأخرى، تقف القوات المسلحة السودانية التي يعود تاريخها إلى بداية القرن الماضي، التي تشكّلت عبر عقود طويلة من أبناء كل قبائل السودان وسحناته ومجتمعاته، جعل ذلك هذا الجيش مؤسسة لا تنتمي إلى جهة أو قبيلة أو بيت أسرة، وهذا ما جعله المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن يقول عنها السودانيون:
«الحارس مالنا ودمنا.. جيشنا جيش الهناء».
خلال مائة عام، مرّت أجيال كاملة عبر الكليات الحربية والمعسكرات والوحدات، وتشكلت عقيدة قتالية متصلة بالدولة لا بالأفراد، ويعبر عنها الجنود بشعاراتهم وهتافاتهم في الحرب والسلم، وحتى في أصعب مراحل الاضطراب السياسي، ظلّت القوات المسلحة –رغم الانتقادات–المؤسسة التي لم تُبنَ على أسرة ولا قبيلة، ولم ترتبط بثروة خاصة، ولديها تاريخ عريق في تسليم السلطة عبر الانتخابات الشفافة بعد كل انتفاضة أو ثورة شعبية، والشاهد على ذلك ما قام به قائد الجيش المشير عبدالرحمن سوار الذهب حين سلم السلطة لحكومة منتخبة عام 1986م.
وفي مقابل مليشيات تُبايع قائدها بصفته شيخًا أو زعيمًا قبليًا، كانت القوات المسلحة تُبايع السودان.
وهذه النقطة وحدها تجعل أي مقارنة بين الجيش السوداني و«الدعم السريع» نوعًا من العبث الفكري، فلا الجيش جيش أسرة كما فعل حافظ الأسد في سورية، ولا هو بنية طائفية أو جهوية، إنه مؤسسة وطنية قديمة بها أخطاء تحتاج إلى إصلاح، ولكنها أخطاء مؤسسة وطنية، لا أخطاء مليشيا عائلية.
من يستحق الإصلاح الأمني الحقيقي؟
الحديث عن إصلاح المنظومة العسكرية ضرورة وطنية لا يختلف فيها اثنان، لكن السؤال: من أين يبدأ الإصلاح؟
هل يبدأ من مؤسسة عمرها قرن، قابلة للتطوير والمراجعة، لديها سجل مهني واضح، وتقاليد انضباطية راسخة، وقابلية للاندماج في مشروع دولة حديثة؟
أم يبدأ من مليشيا تديرها أسرة واحدة، بلا تقاليد عسكرية، وبلا مؤسسية، وبلا تراتبية مهنية، وبلا دستور داخلي يمكن تقييمه أصلًا؟
أي محلل موضوعي يعرف أنه لا يمكن إصلاح مليشيا قبلية إلا بتفكيكها وإعادة دمج أفرادها في مؤسسات الدولة، لا عبر محاولة فرضها على رأس الدولة.
«الدعم السريع» نفسها لا تملك جوابًا لسؤال: هل تريد أن يكون جيشًا؟ أم قوة أمنية اقتصادية؟ أم سلطة سياسية؟ أم حرسًا عائليًا؟
بينما القوات المسلحة تعرف تمامًا من هي، وما دورها، وما عقيدتها.
المفارقة الغريبة.. أحزاب بلا قواعد تنادي بإصلاح الجيش
هنا نصل إلى المفارقة الأكثر إثارة للدهشة في المشهد السوداني اليوم.
فالجماعات السياسية التي تتصدر خطاب «إصلاح المؤسسة العسكرية» هي نفسها كيانات لا تمتلك مؤسسات داخلية محترمة، أحزاب بالكاد يتجاوز عدد عضويتها عدد قياداتها، تيارات تتشقق كل أسبوع، وتنقسم كل شهر إلى صمود وتقدم وتأسيس وغيرها، رغم أنها كانت كيانًا واحدًا قبل بضعة أشهر فقط، كيانات لا يعرف الناس عنها سوى أسمائها أو اسم رئيسها، مثل مجلس ياسر عرمان، أو الحركات المنشقة عن الحركات المنشقة أصلًا.
هذه الجماعات التي لا تملك قواعد، ولا خبرة تنظيمية، ولا قبولًا للرأي المخالف، ولا قدرة على عقد مؤتمر واحد شفاف، تريد أن تعطي الجيش المؤسسة التي عمرها مائة عام دروسًا في الإصلاح والديمقراطية.
بل إن هرم «ماسلو» لديها مقلوب تمامًا، فبدلًا من أن يتدرج التنظيم من قاعدة عريضة نحو قيادة صغيرة، أصبحت القيادة أكبر من العضوية، والزعيم أكثر من الحزب، والبيانات أكثر من الفعل.
فهل يمكن لمثل هذه الأحزاب الصغيرة أن تدير نقاشًا وطنيًا حول إصلاح الجيش؟ أم أن القضية تحولت إلى شعارات يرفعها العاجزون عن إصلاح أنفسهم أصلًا؟
من الذي يستحق أن يكون القوة الوطنية التي تحمي البلاد؟ هل هي قوة عائلية قبلية مسلحة، تديرها أسرة واحدة، وتتحرك وفق أجندات شخصية واقتصادية، ولا تعبّر عن تركيبة السودان ولا عن مشروع دولته؟ أم مؤسسة وطنية عمرها قرن، تضم كل قبائل السودان، وتملك القدرة على الإصلاح الذاتي، وعلى دمج كل القوى الوطنية في مشروع واحد؟
الإجابة ليست سياسية ولا انحيازية، إنها إجابة عقل سليم ونظام دولة طبيعي.
إن إصلاح المؤسسة العسكرية السودانية قد يكون ضرورة تاريخية، ولكن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن الجيش السوداني –رغم بعض العيوب–آخر مؤسسة وطنية باقية لم تبتلعها المحاصصات ولا العائلية ولا الجهوية.
أما «الدعم السريع»، فليس بحاجة إلى إصلاح، بل إلى تفكيك كامل، لأنه ليس مؤسسة دولة أصلًا ليُصلح، وإنما تكوين قبلي عائلي بلباس عسكري وجنود من المرتزقة الأجانب الذين لا يجمع بينهم لسان أو رؤية وطنية.
ولذلك، كيف تطالب أحزاب صغيرة لا تعرف معنى المؤسسية بإصلاح مؤسسة هي أكبر من تاريخها كله؟ وكيف يجرؤ من لا يستطيع إصلاح كتيّب حزبه الداخلي على طرح وصفة لإصلاح جيش؟
هذه هي المأساة الحقيقية في خطاب السودان اليوم، وهذه هي المعركة الفكرية الأعمق من معركة البنادق.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق