في سنتي ٦٥٧–٦٥٨هـ (١٢٥٩–١٢٦٠م) بدا المشرق الإسلامي منسحقًا تحت وطأة اندفاعة مغوليةٍ تكاد تُطبق على ما تبقّى من مدنه وكياناته؛ بعد أن سقطت بغداد في ٢٠ محرّم ٦٥٦هـ (١٠ شباط/ فبراير ١٢٥٨م)، وتقهقر ما تبقّى من النظام السياسي المركزي، وانكسر المعنى الرمزي الذي ظلّ قرونًا يسند المخيلة الإسلامية عن ذاتها.
لم يكن سقوط بغداد “مدينةً” فحسب، بل نقصانًا في رصيد الطمأنينة التاريخية؛ ولذلك حين اندفع جيش هولاكو غربًا، سقطت حلب في كانون الثاني/ يناير ١٢٦٠م، ثم دَخل جيشه دمشق في ١ آذار/ مارس من العام نفسه بقيادة نائبه كتبغا، وبدت مصر على مشارف طورٍ جديد من الاختبار. كانت الحواسّ كلها تقول إن “الحسم” واقع لا محالة؛ فالموقف إزاء قوة مغولية كثيفة، وجهاز حربي ضارب، وهيبة تروّع المدن قبل أن يصلها الجيش، ومجال سياسي عربي–إسلامي مبعثر الإرادة. لكن التاريخ، بوصفه نسيجًا من عوامل متشابكة، لا يستجيب لحدس الحتميّات بهذه السهولة.
قراءة مركبة للتاريخ: بين أزمة الخلافة ورسالة هولاكو
في أقصى الشرق، على أسوار حصن صينيّ بعيد، وقع حدثٌ سيغيّر الموازين في الشام من دون أن يَحسب له أحد حسابًا. توفي الخان الأعظم مُنْكُو خان أثناء حصار دياويُوتشنغ قرب تشونغتشينغ في آب/ أغسطس ١٢٥٩م (ذو القعدة ٦٥٧هـ). أدّت الوفاة إلى اضطرابٍ في مركز الإمبراطورية، وانفتاح أزمة خلافة عريضة، فاضطر هولاكو إلى الرجوع شمالًا لتثبيت سلطته الإلخانية، وترك في الشام قوّةً أصغر بقيادة كتبغا. هكذا، تداخلت واقعةٌ في أقصى الشرق مع قرارٍ في أقصى الغرب، وانفتحت نافذةٌ للمماليك لم تكن قبل أسابيع مرئيةً في خرائط القوة، ثم انتهى ذلك كله إلى معركة عين جالوت يوم ٣ أيلول/ سبتمبر ١٢٦٠م (٢٥–٢٦ رمضان ٦٥٨هـ)، حيث قُتل كتبغا وانكفأت القوة الإلخانية من الشام.
من هو مُنْكُو؟ هو الحاكم الأكبر الرابع (١٢٥١–١٢٥٩م)، حفيد جنكيز خان وابن سلالة تُولوي، آخرُ من أمسكَ عمليًّا بخيوط سلطةٍ مركزية واسعة قبل أن تتشظّى الإمبراطورية. مات في ساحة الحصار، وتختلف الروايات في سبب الوفاة بين إصابةٍ بالمقاليع/ المقذوفات وبين وباءٍ معويّ، لكن التوقيت ثابتٌ في صيف ١٢٥٩م وأثرُه السياسيّ حاسم، ارتداد هولاكو إلى منغوليا للمشاركة في مجلس انتخاب الخان (القورلتاي)، إلا أن اشتعال الصراع بين شقيقي منكو خان الآخرين (قوبلاي وأريق بوكا) جعل هولاكو يتراجع إلى مركز سلطة الإلخانيين (في أذربيجان وبلاد فارس) لحماية قاعدته الإقليمية بسبب الصراع على السلطة، ولتطور الأحداث في الشام.
وإذا كان كثيرٌ من السرديات المدرسية يفسّر انسحاب هولاكو من الشام بالمنافسة على الخلافة، فمصادر الدبلوماسية تقدّم طبقةً أخرى من التفسير؛ إذ تكشف رسالةٌ لاتينية بعث بها هولاكو من “مراغة” إلى لويس التاسع (مؤرخة في ١٠ نيسان/ إبريل ١٢٦٢م) (وهي الرسالة التي نشرها بول ميفارت في Viator عام ١٩٨٠)، أن الإلخاني قد سوّغ التحركات على نحوٍ يُبرز أيضًا اعتبارات التموين وقيظ الصيف، ويطلب في الوقت نفسه تنسيقًا عسكريًّا ضدّ المماليك، واعدًا بإعادة القدس إلى المسيحيين. الرسالة، كما تتابعها الأبحاث اللاحقة (بوربونه وآخرون)، تكشف أسلوبًا لغويًا لاتينيًّا كتبه كاتبٌ غربي في البلاط الإلخاني، وتشي بخطابٍ إمبراطوري يجمع صرامة الصيغة المغولية مع تطييبٍ مسيحيٍّ سياسيٍّ يهدف لجذب لويس إلى تحالفٍ ضدّ القاهرة. هذا بحد ذاته يدلّ على أن الانسحاب لم يكن منحصرًا في تقدير ميداني، بل كان جزءًا من شبكة دوافع، منها أزمة الخلافة، والاعتبارات اللوجستية، وربما اعتبارات دبلوماسية متعلقة بالتحالف مع “الفرنجة”. ولعل هذه الصورة تكون أدقّ من التفسير الأحاديّ السبب.
على الضفة الأخرى، اتّخذ المماليك قرارًا لا يقوم على يقين النتيجة، بقدر ما يقوم على رفض البديل: أن لا تُقاتل يعني أن تُسلّم بالانسحاق. حشد قُطُز وسط إحساس في القاهرة بأنّ المواجهة لا بدّ منها؛ والقرار هنا عقلانيّ استراتيجيّ أخلاقيّ في آن واحد: إذا كانت البدائل جميعها تفضي إلى زوالٍ بطيءٍ أو سريع، فتعديل المعادلة يمرّ عبر مفاجأة الخصم، ونقل المعركة إلى ساحةٍ يُجيد فيها الجيش المملوكي الضربَ والالتفاف.
في موضع عين جالوت استُدرجت القوة الإلخانية الأصغر، وتولّى بيبرس تكتيك الكرّ والفرّ، والالتفاف بضربةٍ على قلب القوة بقيادة كتبغا، وهو أمير نيماني مسيحيّ المعتقد، في موقعٍ قياديّ تركه له هولاكو حين ارتد شمالًا. وقد أحكم المماليك التعبئة على أرض يعرفون شعابها، فيما كانت خطوط الإمداد المغولية ممتدةً ومثقلةً بعد انكماش القوة الرئيسة. وقد أفضت المعركة إلى مقتل كتبغا وانكفاء الذراع الإلخانية غرب الفرات، لتبدأ حربٌ طويلة باردة وساخنة بين المماليك والإلخانيين امتدّت عقودًا.
نقد الحتميّة السياسية والإيمانية: شبكة السنن وحدود التفسير
هذه المقدمة التاريخية يمكن تحويلها إلى حجر الزاوية في نقد “الحتميّات”. فلو قرأنا اللحظة في مطلع ١٢٦٠م قبل أن يصل إلى الشام أثر وفاة مُنْكُو خان الذي كان في آب/ أغسطس ١٢٥٩م لقلنا: لا أفق. ولو قرأناها بعيون أيلول/ سبتمبر ١٢٦٠م بعد عين جالوت لقلنا: “انقلبت الموازين”. الواقع أن الموازين لا “تنقلب” دفعةً واحدة، بل تتشكّل من تداخلات؛ كما في هذه الحالة: موتُ حاكمٍ بعيد، وصراعُ خلافةٍ في المركز، واعتباراتُ تموين ومناخ، وقرارٌ مملوكيّ بالمواجهة، وتكتيكٌ ميدانيّ مناسب. التاريخ، إذن، ليس جدولَ قوّةٍ يحسب “النتيجة” بمجموع الأرقام، ولا “خوارزميةَ وعدٍ” تُخرج “غلبةً” تلقائية. إنما هو نسيجُ احتمالاتٍ يتشابك فيه المرئيّ والمستور، والسياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ والدبلوماسيّ والنفسيّ، مع “عناصر مفاجئة” لا يمكن إدخالُها في الحساب سلفًا، ثم لا يمكن إنكار أثرها لاحقًا.
من هنا يبدأ نقد الحتميّة السياسية. هذه الحتمية تميلُ إلى قراءة “موازين القوى” باعتبارها تكفي لإنتاج النتيجة. لكنها لن تحيط بنيويًا بجميع العوامل، لاسيما غير المنظورة، من قبيل صراعات الميراث السياسيّ، واضطرابات المركز، والفصول المناخية وتأثيرها في الرعي والعلف وحركة الجند، وإرهاق الجيوش الممتدة، وأعطاب التموين، وحسابات التحالفات وتقلّبها. إدراج هذه العوامل يعيد إلى التحليل مجاله الاحتمالي، وحينئذ ينهار وهم اليقين التحليلي، ولا يبقى إلا الترجيح بوصفه أفقًا ممكنًا. وهذا يعصم العقل السياسيّ من الوقوع في غفلة “النموذج المغلق”.
وعلى المقلب الآخر، يبدأ نقد الحتميّة الإيمانية التي هي رغائبية في حقيقتها. هذه الرغائبية تُنزِل النصوص منزلة “القوانين الميكانيكية”: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم﴾؛ تُقرأ وكأنها “معادلة نتيجة” زمنية، و﴿وَكانَ حَقًّا عَلَينا نَصرُ المُؤمِنينَ﴾[8] تُعامل كأنها شيكٌ مؤرّخٌ لصالح جماعةٍ محدّدة في وقتٍ محدّد. لكن منهج النص القرآني نفسه يقاوم هذا الفهم بحياكته شبكة من الشروط والمقاصد والتكاليف والابتلاءات، وسُنَنٌ تُقرأ في “المآل” لا في مجرّد تفاصيل لحظةٍ واحدة. إذا أردتَ درسًا فلسفيًا في نفي الميكانيكا عن القضاء والقدر، فانظر إلى قصة يوسف المكونة من سلسلة ظواهر في ظاهرها لا تؤدي إلى “النتيجة”، الرمي في الجبّ، والخطف، والبيع بثمن بخس، والتهمة الملفقة، والسجن (بضع سنين)، ثم تأتي الخاتمة في توقيتٍ لا يملكه بشرٌ تعجيلًا ولا تأجيلًا؛ فالتوقيت نفسه جزءٌ من شبكة الحكمة، لا ثغرة فيها. وكذلك في وعد الروم: ﴿غُلِبَتِ الرّومُ في أَدنَى الأَرضِ وَهُم مِن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبونَ في بِضعِ سِنينَ لِلَّهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ وَيَومَئِذٍ يَفرَحُ المُؤمِنونَ﴾؛[9] فقد أكد القرآن أنّ أمر النصر لله من قبل ومن بعد، لكنه شاء أن تجري الأسباب في خطّةٍ مركّبةٍ بأزمنةٍ لا يقيسها العقل البشري ولا يملك تعجيلها.
وإذا أمعنّا النظر في سورتي يوسف والروم؛ برز عنصرٌ جوهريّ في نقد الحتميّات: الإشارة المقصودة إلى “بضع سنين”. ليست هذه الإشارة تفصيلًا عابرًا، بل تعليم قرآنيّ لطبيعة الزمن حين يتعلّق بسنن الله؛ فالتغيير لا يقع معجّلًا وفق رغبة الإنسان، ولا يأتي مقطوعًا عن شبكة الأسباب التي ينغرس فيها. “البضع” هنا ليس رقمًا، بل حدّ فاصل بين توقّع البشر وضبط القدر، بين الرغبة في استعجال النتيجة وبين مسار تكتمل فيه عناصر لا نحيط بها. ولهذا يجيء التعقيب: ﴿لِلَّهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ﴾ ﴿وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ﴾؛ أي إنّ الإنسان لا يدرك سرّ التوقيت، ولا يملك أن يطوي المسافة بين إرادته وتمام الحكمة. الزمن الإلهي، هنا، أي فيما نحن بصدده، ليس خطًّا مستقيمًا يتقدّم بقدر خطو الإنسان، بل هو سياق تتراكم فيه أسبابٌ متشابكة، يَظهر بعضها ويَخفى أكثرها، فلا يكون الإمهال تأجيلًا بلا معنى، ولا يكون التعجيل استجابة لحدس البشر، بل انفتاحًا لطورٍ جديد حين يكتمل ما لا نعلم. إعادة تركيب هذه الرؤية تخلّص الإيمان من وهم “الضمان السياسي”، وتحفظ له مقام “توجيه المعنى” لا “حسم النتائج”.
ويدعم هذا المعنى ما رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “كل ما هو آتٍ قريب، ألا إن البعيد ما ليس بآت، لا يعجّل اللهُ لعَجَلةِ أحدٍ ولا يَخفّ لأمرِ الناس؛ ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الله أمرًا ويريد الناس أمرًا، ما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مقرِّبَ لما باعَدَ اللهُ ولا مُبْعِدَ لما قرَّب الله، ولا يكون شيء إلا بإذن الله”.[11] هذا الأثر يمنح البصيرة تصورًا أعمق عن طبيعة التدبير الإلهي، فالقرب والبعد ليسا قياسين بشريين، بل مقادير تُحدّدها حكمةٌ لا تتبدل برغباتنا أو استعجالنا. ما نراه “متأخرًا” قد يكون جاريًا ضمن شبكة أسبابٍ لم تكتمل بعد، وما نراه “قريبًا” قد يكون أبعد ما يكون في ميزان الله.
إن التصورات الغيبية الميكانيكية، أو تلك التي تُضمر استحقاقًا على الله بنتيجةٍ زمنيةٍ مخصوصة، تُنتج غالبًا طمأنينةً زائفة منفصلة عن الواقع؛ إذ تغلق عينها عن تعقيد الأسباب وتوقيتاتها، وتتعامل مع الوعد كأنه صكٌّ مُسبَق. وحين تتأخّر النتائج أو تجري المقادير على غير المأمول، قد تنقلب الطمأنينةُ ذاتُها إلى سوءِ ظنٍّ بالله، وربما إلى رفضٍ ميتافيزيقيٍّ شامل، لأنّ صورة التدخّل الإلهي كانت منذ البدء خاطئةً في بنائها. الفهم الرشيد للغيب لا يَعِد بنتيجةٍ بعينها، ولا يُنزِل الحكمة الإلهية على جداول توقيتنا؛ بل يُبقي الإيمان مُتنبِّهًا لحدوده، ويُحرِّر القلب من وهم الضمان، فلا يركن إلى طمأنينةٍ مجانية، ولا ينجرف، عند العسر، إلى يأسٍ مُتعجِّلٍ يؤسِّس لقطيعةٍ معرفية وأخلاقية مع أصل الإيمان ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَعبُدُ اللَّهَ عَلى حَرفٍ فَإِن أَصابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ وَإِن أَصابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الخُسرانُ المُبينُ﴾.[12]
وهنا يظهر توتر ثالث يتصل بطبيعة تلقّي الخطاب نفسه؛ إذ كثيرًا ما يُساء فهم التحليل السياسي حينما يقرؤه بعض المتدينين ضمن معيارٍ غير معياره، فيظنون أن كل تحليل سياسي هادئ يجب أن يتضمن إسنادًا غيبيًا أو تثبيتًا وجدانيًا أو إشارة تعبويّة. هذا التوقع يُنتج قراءةً مضطربة؛ فهو يحمِّل التحليل ما ليس من أدواته، ويضع الغيب في مقامٍ ليس مقامه. التحليل يعمل داخل حدود ما يمكن فحصه واستنباطه من الوقائع، بينما النظر الإيماني يعمل داخل أفق المعنى والحكمة. وإقحام أحد المقامين في الآخر يُنتج معرفة منقوصة: تحليلًا يفتقد أدواته، وإيمانًا يُفرَّغ من عمقه حين يُختزل في تفسيرات زمنية مباشرة. إنّ التمييز بين المقامين (مقام تفسير الواقع بأدواته، ومقام تأمّل الحكمة وسنن الله) ضرورة منهجية لا لحماية التحليل من الإيمان، بل لحماية الإيمان نفسه من أن يتحول إلى خطاب يُفرض على الوقائع قبل اكتمال دلالاتها.
“المقاومة وظيفة”: حفظ الإمكان في عالم قابل للانغلاق
ومن هنا تتولد فكرة “المقاومة وظيفة”. ليست المقاومة “وسيلةً” لتحقيق غلبةٍ دنيويةٍ في تقويمٍ عاجل فحسب، بل “وظيفة” لحراسة شرطٍ أخلاقيٍّ للوجود؛ لولاها لتمدّد الباطل حتى يطبق على العالم؛ ﴿وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى العالَمينَ﴾.[13] هذه ليست صيغة وعظ، بل توصيف لنظام العالم، فالظلم قابلٌ للرسوخ إن تُرك بلا مدافعة، والحقّ لا يقوم بذاته دون فاعل بشريّ ينهض به، ولو لم تَعِد المدافعةُ بنتيجةٍ محددة. إنّ الامتناع التام عن المدافعة ليس حيادًا، بل تسليم للباطل بشرعية الرسوخ. لذلك يصبح القيام بالفعل، حتى حين تُخطئ الحسابات أو تتعقّد النتائج، شرطًا لمنع انغلاق العالم في قبضةٍ واحدة.
ومع ذلك، فإنّ تأطير المقاومة بوصفها وظيفة؛ لا ينبغي أن يُفهم على نحوٍ يُضفي على معاناةِ شعبٍ ما، كأهل غزّة أو غيرهم ممن يقفون في خط المواجهة، معنىً تجريديًا يجعل آلامهم مجرّد ثمنٍ مقبولٍ لحفظ توازنٍ عالميّ أوسع. فالمقاومة ليست تكليفًا تُحمّله فلسفة التاريخ لضيفٍ دائمٍ في جغرافيا واحدة، ولا تصنيفًا يُجزّئ البشر إلى “من يقوم بالوظيفة” و”من يجني ثمارها”. إنما هي توصيفٌ بنيويّ لطبيعة العالم من حيث قابليةُ الظلم للتمدد، وقابليةُ الحقّ للاضمحلال إن لم يجد من يقيمه.
الذين يواجهون القصف والموت والفقد ليسوا عناصر في معادلة، بل ذوات كاملة وحقوق كاملة، ولا يملك أحدٌ، لا نظريًا ولا أخلاقيًا، أن ينقل تبعة العالم إلى أكتافهم. وظيفة المقاومة، بهذا المعنى، لا تُشرعن دوام الألم، ولا تُحوّل تضحيات الناس إلى مادة في تفسير كونيّ، بل تُذكّر بأن الواجب موزّع على البشر بقدرهم وسعتهم، وأن دور المجتمعات والدول والعالم كلّه تخفيفُ الكلفة عن الذين يُضطرون إلى حمل النصيب الأكبر من المواجهة، لا تبرير تحمّلهم لها. هنا يصبح مفهوم الوظيفة جزءًا من نقد الحتميّات، لا صيغةً تُخفّف من ثقل الدم والدمار، لأن الاعتراف بتركيب العالم لا يلغي حق البشر في الحياة الكريمة ولا يجوز أن يُعطّل الالتزام الأخلاقي والسياسي بمساندة المقهورين وتخفيف المعاناة عنهم.
تُمارَس هذه الوظيفة على مستويين متداخلين: تكليفٌ فرديٌّ لا يسقط ولو خان الجمع أو غلب الباطل؛ ففي فترات الفتور الطويلة يبدأ التاريخ غالبًا من ضميرٍ فرديٍّ يرفض الاستسلام “وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ”، ﴿فَقاتِل في سَبيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلّا نَفسَكَ وَحَرِّضِ المُؤمِنينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذينَ كَفَروا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنكيلًا﴾.[ وهنا تبرز النماذج القرآنية كرجلي سورتي القصص وياسين، اللذين جاء كل واحد منهما يسعى من أقصى المدنية. هذه أمثلةٌ على أن الضمير الفردي قد يكون رافعةَ الإمكان حين ينغلق المجال العام. ليست العبرة بأن الفعل الفردي يُنتج النتيجة وحده، بل بأنه يمنع انغلاق الإمكان ويُبقي مسار التاريخ مفتوحًا نحو تراكمٍ لاحق، ثم يتراكم الفعلُ حتى يصير جهدًا جماعيًا ممتدًا: جيلٌ يُسلّم جيلًا. بهذا فقط نفهم أن النصر ليس لقطةً قصيرة بقدر ما هو حفظُ إمكان عبر الزمن؛ إمكان الحقّ، وإمكان الكرامة، وإمكان العبادة والاختيار. ويُعاد بهذه الرؤية ضبط مفهوم “النصر والهزيمة”: فكم من أنبياءَ قُتلوا ولم تكن رسالاتُهم فاشلةً، وكم من نبي يأتي يوم القيامة وحده ولم يؤمن به أحد “عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ”، وكم من جماعاتٍ مؤمنةٍ لم تُنصَر عسكريًا، كالمؤمنين المحرقين في نار الأخدود، وظلّ فعلُها هو الذي يحرس للإنسانية شروط وجودها الأخلاقيّة.
تعود بنا عين جالوت، بتفاصيلها، لتجسّد هذا المنطق. لقد التقت فيها ثلاثة عناصر: (١) قرارٌ بشريٌّ بالمواجهة مهما كانت الكلفة؛ (٢) واقعةٌ غير محسوبة (وفاة منكُو وما تبعها من أزمة خلافة وانكماش قوّةٍ ميدانيّة)؛ (٣) حسابٌ ميدانيّ ذكيّ (اختيار الأرض، والاستدراج، والالتفاف). هذه العناصر لا تتلخّص بواحدٍ منها؛ فلو تعطّل القرار المملوكي لَمَا كان لوفاة منكُو أن تُنتج إمكانية النصر، ولو لم تحدث الواقعةُ البعيدة لما نفع التكتيك وحده أمام كتلةٍ مغوليةٍ مكتملة. والتفسير الدبلوماسي الرسمي في رسالة ١٢٦٢م، بما فيه من تبرير لانسحابٍ صيفيٍّ وطلبِ تنسيقٍ ضدّ المماليك ووعدِ القدس، لا “ينفي” أثر أزمة الخلافة، بل يكشف كيف تُدار الصورة الإمبراطورية في خطابٍ إلى أوروبا كما هو ظاهر من مزجُ دعوةٍ لتعاونٍ ضدّ القاهرة مع رطانةٍ تبشيريةٍ إمبراطوريةٍ رشيقة، مما يوضّح أنّ صانعي القرار حاولوا تحويل الانسحاب إلى محطةٍ في سرديةٍ أكبر. (القراءة الأكاديمية لهذا كله، ميفارت، وبوربونه، وأميتائي–برايس، كامبريدج، تمنحنا صورةً مركبة؛ تُنقذنا من شهوة التفسير الواحد).
وإذا وسّعنا العدسة أكثر، استفدنا أنّ عين جالوت ليست نهاية قصة، بل مطلع فصلٍ طويل من سجالٍ مملوكي–إلخاني امتدّ نحو ستة عقود، تخلّلته حروب وهدنٌ وتراشق دبلوماسي وحملات متبادلة. وضعُ الواقعة في “بنيةٍ زمنيةٍ أطول” يحمينا من تحويلها إلى أسطورةٍ مكتفيةٍ بذاتها، ويذكّرنا أن “النتيجة” في التاريخ خطوةٌ ضمن مسار، لا “قفل” للتاريخ. وهذا ما تؤكده دراسات الحرب المملوكية–الإلخانية المتخصصة.
بهذا نصل إلى خلاصة نقد الحتميات:
أولًا: الحتمية السياسية
يُخطئ هذا المنظور حين يعامل موازين القوى كأنها معادلةٍ مغلقة، قادرةٍ بذاتها على إنتاج النتيجة، وكأن التاريخ يجري في مختبرٍ معزول لا يتسلل إليه عامل غير محسوب. إنّ التجربة التاريخية، ومنها مثال عين جالوت، تُظهر أن ما يبدو “ميزان قوة” مستقرًّا ليس إلا واجهةً سطحية لبنيةٍ معقّدة تتفاعل فيها عوامل لا تظهر في لحظة التقدير مثل اضطراب مركز الحكم كما في أزمة خلافة منكُو، والتغيرات المناخية والتموينية التي تُثقل حركة الجيوش، والإرهاق البنيوي للدول الممتدة، وتقلّبات التحالفات البعيدة.
وتكشف رسالة هولاكو إلى لويس التاسع، بلهجتها التي تخلط الخطاب المسيحي الاسترضائي مع التبرير العسكري، كيف يُعاد تأويل القرار في لغةٍ سياسيةٍ قابلة للتسويق لدى المخاطَب، بحيث تُختزل شبكةٌ معقدة من العوامل في سرديةٍ قابلة للتداول. وهذا ما يمكن تسميته “التسييل السياسي” (إعادة تشكيل الخطاب ليُسَوَّق تحالفيًا)، لا بوصفه كذبًا سياسيًا، بل بوصفه إعادة صناعة للصورة في فضاء التحالفات.
إنّ إدراك هذه الطبقات يجعل “النتيجة السياسية” أمرًا مرجّحًا لا مقطوعًا به، ويفتح التحليل على احتمالاتٍ أوسع من النموذج الحسابيّ المحض. ليست هذه دعوةً لإلغاء التحليل الماديّ، بل لإعادته إلى حجمه الطبيعي؛ بمعنى قراءة خطوات الفاعلين ضمن شبكة أسباب أكبر منهم، لا فوقهم.
ثانيًا: الحتمية الإيمانية
ويقع الخلل هنا حين تُقرأ النصوص بوصفها قوانين ميكانيكية، تُسقِط الوعد الإلهي على واقعةٍ لم تكتمل، أو تُحمّل النص ما لم يُرِد أن يفصح عنه في لحظةٍ زمنية محددة. إنّ بنية السنن القرآنية ذاتها ترفض هذا الفهم؛ فهي لا تربط النتيجة بزمنٍ معلوم، ولا تجعل الإيمان ذاته صكّ ضمانة دنيوية.
ولذلك تأتي الإشارة القرآنية المتكررة إلى “بضع سنين” في سورة يوسف وفي سورة الروم؛ لا بوصفها رقمًا حسابيًّا، بل بوصفها تعليمًا في معنى الزمن: كيف يعمل القدر من وراء ما يراه الناس، وكيف تجري الحكمة في توقيتٍ لا يملك البشر تعجيله أو تأجيله.
هذه الرؤية تنفي عن القدر صفة “الاستجابة للترقّب البشري”، وتمنع تحوّل الإيمان إلى يقينٍ زائف باستحقاقٍ على الله، ثم إلى خيبةٍ مَرَضيّة حين تتأخر النتائج. فالسنن لا تنقض الوعد، لكنها تمنع استغلاله في بناء “طمأنينةٍ رغائبية” منفصلة عن الواقع، أو “سوء ظنّ” لاحق عندما لا تأتي النتائج وفق توقّعاتٍ أنتجها فهم خاطئ لطبيعة التدبير الإلهي.
ما بعد نقد الحتميات: تأسيس مفهوم المقاومة بوصفها وظيفة لحراسة شرط الإنسان، لا مشروعًا لإنتاج نتيجةٍ مضمونة
يتكامل نقد الحتميتين السياسية والإيمانية مع إعادة تعريف موقع “المقاومة” نفسها في بنية التاريخ، وفي فهم وظيفة الفعل البشري. فالمقاومة لا تُدرَس بوصفها أداةً من أدوات “تحقيق النتيجة”، فحسب كما قد يتصور التحليل السياسي الحائر في حساباته، ولا بوصفها “وسيلةً مضمونة الغلبة” كما يفترض الفهم الرغائبيّ الذي يجعل الإيمان تعاقدًا مع الغيب على زمنٍ محدد. إنما تتحدد قيمتها حين نعيد وضعها في مستواها الأعمق من جهة حماية إمكان الإنسان في عالم مهيأ بطبيعته لقبول تغوّل القوّة إن تُركت دون مدافعة.
الباطل لا يستمدّ رسوخه من “قوة نظرية” بقدر ما يستمده من الفراغ، فحين ينسحب الفعل البشريّ، يتمدّد، لأن غياب من يقاومه يترك العالم منفتحًا أمام تغوّله، لاسيما مع سيولته الأخلاقية وإمكاناته المادية. في هذا المعنى، تصبح المقاومة، أيًّا كانت صورتها؛ سياسية، أو معرفية، أو اجتماعية، أو عسكرية؛ شرطًا لحفظ “قابلية العالم للعدل” ﴿لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَديدَ فيهِ بَأسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ﴾. نحن لا نتحدث عن ضمان لتحقيق العدل، بل عن جهد مستمر لمنع إغلاق الباب على ظلمٍ واحد يصبح غير قابل للتراجع.
ومن هنا تظهر خطورة القياس على “النتيجة” بوصفها معيارًا وحيدًا للحكم، فالنتيجة، بما فيها من تداخل العوامل المرئية والمفاجئة، ليست معيارًا لتقويم “الوظيفة”. كثيرٌ من أشكال الفعل الإنساني لا تُقاس بجدوَاها اللحظية، بل بأثرها البنيوي: أنّها تمنع الانسداد التاريخي “إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ”. حين نقول “حفظ الإمكان” فلا نعني تلطيفًا لغويًا، بل توصيفًا لجوهر الفعل الأخلاقي والسياسي في التاريخ.
والأهمّ أن هذا المفهوم لا يجعل من الذين يقفون في خطوط المواجهة أداة في مشروعٍ تجريديّ، ولا يصنع من آلامهم مادةً تفسيريةً تُهمل أشخاصهم وحقوقهم؛ بل يحمّل المجتمعات والدول والعالم مسؤولية توزيع الأعباء، وتخفيف الكلفة، وعدم تحميل أهل موقعٍ معيّن عبءَ العالم وحده. الفكرة هنا ليست أن جماعةً بشرية مكلّفة بإصلاح الكون، بل أن الكون، بما هو نظامٌ تُحرّكه القوى، يحتاج دائمًا إلى فعل بشري يمنع انغلاقه على الظلم، وأن هذا الفعل ينبغي أن يكون موزّعًا، ومتكاملًا، ومتساندًا.
وبهذا يتأسس معنى “المقاومة وظيفة” في مستوى فلسفي لا يضيق بأفق النتيجة ولا يتساهل مع القراءة الميكانيكية للغيب أو للتاريخ. الوظيفة هنا ليست شعارًا بل توصيف لطبيعة العالم؛ عالمٌ لا تنفذ فيه الإرادة الخيّرة إلا بالسعي، ولا يرتدّ فيه الظلم إلا بالفعل، ولا يتحقق فيه الشرط الإنسانيّ إلا بحراسة مستمرة لإمكان العدل، ولو لم تُجب كل معركةٍ بنتيجةٍ مكتملة. بهذا وحده يمكن تجاوز ثنائية (النصر/ الهزيمة) بوصفهما حكمين فوريين، إلى رؤيةٍ تتعامل مع التاريخ بوصفه سيرورةٍ طويلة لا يضيع فيها أثر الفعل مهما بدا محدودًا في لحظته.
وليس معنى ذلك تبرئة الحساب أو تهميش التحليل والتخطيط؛ بل المقصود إقامة “توأمةٍ منهجية” فيها التحليل السياسيّ يشتغل على قابل القياس ويعترف بحدوده، والإيمان يُنير المعنى ويعترف بمُواربة القدر، والمقاومة تُمارَس بوصفها وظيفةً لا يَعد صاحبها العالمَ بالفردوس الأرضيّ، بل يمنع تحوّل الأرض إلى جحيمٍ دائم تحت قبضة مشروعٍ أحاديّ. عندئذٍ يمكننا تفكيك الوهمين معًا؛ وهم “النتيجة المضمونة” سياسيًا لأن الأرقام كبيرة أو تبدو دقيقة، ووهم “النتيجة المضمونة” دينيًا لأننا مؤمنون. كلا الوهمين يقود إلى قرارات عمياء؛ الأول يستخفّ بالمفاجآت والصدف التاريخية وطبقات القرار غير المرئية؛ والثاني يختزل الإيمان في صفقة توقيتية ويُسقط معنى الابتلاء والصبر والتراكم والتأجيل.
وفي تفاصيل عين جالوت يعود درس الإرادة؛ اختار المماليك القتال لا لأن النصر محتوم، بل لأنّ الاستسلام هزيمة وجودية. هذا الضبط مهمّ؛ لأنه يمنع القراءة الرجعية التي تُحوِّل كل خطوة إلى حكمةٍ كانت مرئيةً مسبقًا لجميع الفاعلين. الحقيقة أن حكمة الاختيار تُفهم حين نضعها في سياق البدائل الواقعية، لا حين نراها بعد اكتمال الصورة. كذلك يمنع هذا الضبط القراءةَ التمجيدية التي تصنع من الواقعة معجزةً تُبطل الأسباب؛ إذ لا معجزة هنا تُلغي التدبير البشري كالتعبئة، واختيار الأرض، والتكتيك، وتوقّع نمط حركة الخصم، وإرادة صمود لا تَعِد بنهايةٍ سعيدةٍ بل بشتلاتِ إمكان. وما كان لوفاة منكُو أن تصنع فرصة لولا أن وُجد من يصنع خطته في الميدان.
ومثلما نُنزِّل هذا الميزان على عين جالوت، يمكن أن يُنزّل على مساحاتٍ أخرى. في التاريخ الإسلامي وفي العالم، تتكاثر الأمثلة على وقائع مفاجئة غيّرت مساراتٍ كبرى؛ بعضها في بنية الطبيعة (مناخٌ، وباءٌ)، وبعضها في بنية السياسة (موتُ زعيم، انقسامُ مركز). لا يعني ذلك أن التاريخ صدفة، بل يعني أنه مركّبٌ من عناصرَ لا يستوعبها نموذجٌ واحد في لحظةٍ واحدة. بهذا المعنى، لا يضمن الحسابُ الماديُّ النتيجة، ومن الطبيعي أن تُخطئ الحسبة في توقّعها؛ كما لا يحتّم الاعتقادُ الإيمانيُّ الغلبةَ الزمنية، ومن الطبيعي أن يكون الوعد مؤجل النفاذ أو يُعاد توزيع نتائجه على أجيال. وبين هذين القطبين يلزمنا التواضعُ المعرفيّ والروحيّ؛ نعترف بحدود القياس والتحليل، ونعترف بحدود التعيين على القدر.
هنا تصبح الإشارات القرآنية إلى “بضع سنين” في الروم، وإلى “بضع سنين” في سجن يوسف، أداةً لتربية الحسّ التاريخي لكي نفهم أنّ الزمن ليس خطًّا مستقيمًا يُقاس باليوم والأسبوع وفق رغباتنا، بل شبكةُ تهيئةٍ تُنسج فيها عناصر كثيرة قبل أن تُفتح البوابة. ليس تأخُّر الغلبة نفيًا للوعد، بل تأديب لوعينا كي لا نحاكم القدر بأهوائنا. هذا يَصون الإيمان من الرغائبية، ويُصلِح السياسة من الغرور.
ولكي يكتمل البناء، نُعيد وضع “المقاومة” في موقعها الصحيح: وظيفةٌ لإبقاء الباب مفتوحًا. لا أحد يستحق على الله نتيجةً زمنيةً محددة؛ الواجب أن نؤدّي ما علينا، وأن نُبقي في العالم إمكانًا للعدل. في ضوء ذلك تُفهم الشهادة ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَداءَ﴾[20]: بأنّها ليست خسارةً بل ذروة تأدية الوظيفة؛ لا بوصفٍ دوغمائيّ بل بوصفٍ للصلة بين الفعل والمعنى في أفقٍ يتجاوز قيود اللحظة. وتُفهم أيضًا مسؤولية الفرد ﴿لا تُكَلَّفُ إِلّا نَفسَكَ﴾: لا تُحوِّل العمل إلى انعزال، لكنها تمنع سقوطه بحجّة غياب الإجماع. ومن الفرد يتراكم الجهد إلى جماعة، ومن الجماعة إلى أمة، ومن الأمة إلى إنسانيةٍ أوسع، لأن ترك المشروع الاستعماري–الهيمني يتمدّد بلا مقاومة لا يعني سحق جغرافيا بعينها فحسب، بل إغلاق إمكان الإنسان في غيرها كذلك.
خلاصةُ الدرس إذن أنّ التاريخ لا يُفهم بلا أسبابه، ولا يكتمل بلا معناه، وأنّ التحليل السياسيّ الرصين يعترف بحدوده ويتّسع لغير المتوقع، وأنّ الإيمان الواعي يعترف بمُوارَبة القدر ويرفض تحويل الوعد إلى معادلةٍ زمنيةٍ مغلقة، وأنّ المقاومة تُؤدَّى بوصفها وظيفةً تحرس الإمكان، لا بوصفها صكًّا بنتيجة.
خاتمة: بين تواضع العقل وتواضع الروح
وعند هذا الميزان، تغدو عينُ جالوت، بسلسلة عللها المادية والمفاجئة والدبلوماسية، بوفاة منكُو في دياويُوتشنغ وما ترتّب عليها، برسالة هولاكو إلى لويس وإغرائها بتحالفٍ ووعدِ القدس، بقرار المماليك وإرادتهم للقتال وتكتيكهم في الميدان، نموذجًا صارخًا لكيف يَفضُّ التاريخُ عقد الحتميّات، وكيف يُجبرنا على تواضعٍ مزدوج، يتواضع فيه العقل أمام ما يستعصي على حساباته سلفًا، وتتواضع فيه الروح أمام حكمةٍ وتوقيتٍ لا نملك تعجيلهما. هذه القراءة لا تُمجّد المصادفة ولا تُبطل الإعداد؛ إنها تقيم المصادفة والإعداد معًا في معادلةٍ واحدة تقول مفاوزُ القدر لا تُقطع إلا بسعي البشر، وسعيُ البشر لا يُثمر إلا في توقيتٍ يفتحه الله حين تكتمل شبكة العناصر. عندئذٍ فقط نفهم أنّ “المقاومة وظيفة”، وأن وظيفةَ التاريخ نفسِه أن يظلّ قابلًا للعدل وألا يُقفل على ظلمٍ واحد.
المصدر: موقع جريدة السبيل

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق