صناعة الرويبضة: كيف نقتل الدين بـ«الإعجاب» و«المتابعة»؟
في عصرٍ لم تعد فيه المعرفة تُقاس بعمق الفكرة، بل باتساع الانتشار، ولم يعد السؤال الجوهري:
“مَن قال؟” وما هي أهليته؟
بل صار:
“كم يتابعه؟” وما مدى تأثيره؟؛
نقف اليوم أمام مشهدٍ عبثي يستدعي القلق لا التصفيق، والمراجعة لا الانبهار.
نحن نعيش لحظة فارقة، انتقلت فيها المرجعية من “أهل العلم” إلى “أهل الترند”، وبات الدين والأخلاق محتوىً قابلاً للاستهلاك السريع، يُقدَّم منزوع السياق على ألسنة من لا يملكون أدواته.
حين يخرج فنان أو مشهور ليتحدث في تفسير آية أو معنى ديني عام، نرى تعليقات تتلقف كلامه بانبهار: “أول مرة أسمع تفسير بهذا العمق!”.
وكأن أربعة عشر قرنًا من التراث، وآلاف المجلدات التي سُودت فيها أعمار العلماء، لم تكن موجودة، حتى جاء هذا “المؤثر” ليكتشف لنا الدين من جديد.
المشكلة هنا ليست في الجملة ذاتها؛ فالحق يُقبل من أي وعاء خرج، وقد قال النبي ﷺ عن الشيطان: «صدقك وهو كذوب».
لكن الكارثة تقع حين نُحوِّل الاستثناء إلى قاعدة، وحين تصبح الشهرة هي “صك الغفران” و”شهادة الأهلية”، فيتحول الانبهار بالأضواء إلى بديل عن التثبت العلمي.
يتحدث أحدهم بوعظ رقيق عن أن “الدنيا زائلة”، بينما حياته وصورته العامة التي يُصدّرها يومياً قائمة على تقديس الإنجاز المادي، وتعظيم الذات، والترف الدنيوي؛ فنحن هنا لا نسمع موعظة، بل نشاهد عرضاً مسرحياً.
هذه الازدواجية تضع الجمهور في حيرة مربكة: أيهما نصدق؟ الكلمات الزاهدة أم الواقع المترف؟
الدين ليس “كابشن” مؤثر يُكتب أسفل صورة، ولا لحظة وجدانية عابرة أمام الكاميرا؛ بل هو منهج حياة متكامل.
والناس بطبعهم يتأثرون بـ “النموذج” (ما يرونه) أضعاف تأثرهم بـ “الخطاب” (ما يسمعونه).
وحين ينفصل القول عن الفعل، يفقد الدين هيبته في النفوس ويتحول إلى مجرد فلكلور.
يمتد الخلل حين يتجرأ البعض على إسقاط صفات الصحابة الكرام – كخالد بن الوليد رضي الله عنه – على أنفسهم أو غيرهم، لمجرد حماسة لحظية أو تشابه سطحي.
الصحابة ليسوا مجرد “صور بلاغية” نستعيرها لتلميع ذواتنا؛ هم المعيار، هم السقف الذي نقيس عليه ولا نقيسه علينا. هذا الخلط يُربك وعي المتلقي البسيط، ويهدم الحواجز النفسية بين “القدوة المعصومة” أو المحفوظة، وبين “المشهور” المليء بالتناقضات.
لماذا نعتبر هذا المشهد خطيراً جداً؟
لأن ما يحدث ليس مجرد “زلات” فردية، بل هو صناعة لمناخ عام. مناخ يُصدَّق فيه الكاذب إذا كان مشهوراً، ويُهمَّش فيه الصادق إذا كان مغموراً.
هذا بالضبط ما حذر منه النبي ﷺ حين تحدث عن “السنوات الخدّاعات”؛ فهو لم يصف الأشخاص بقدر ما وصف “البيئة” التي تفقد مناعتها العقلية والنفسية، فتصبح قابلة للانخداع بأي ناعق.
في هذا السياق، نفهم حديث النبي ﷺ عن الرويبضة:
ظهور الرويبضة وتصدرهم ليس مجرد علامة، بل هو “تهيئة” للأرض.
الدجال في المفهوم الإسلامي
الدجال في المفهوم الإسلامي ليس مجرد وحش سيظهر آخر الزمان، بل هو “أكبر فتنة”، وفتنته تعتمد أساساً على الخداع وتزييف الحقائق.
قصة تميم الداري رضي الله عنه ورؤيته للدجال، التي رواها النبي ﷺ، لم تكن لتحديد مكانه الجغرافي، بل لتأكيد حقيقة خطره.
الدجال لن يجد صعوبة في إقناع جيلٍ تَربّى على أن يأخذ دينه من “الستوري”، وحكمته من “الترند”، وقدوته من “الشاشة”.
الخطر الحقيقي ليس في يوم خروج الدجال فقط، بل في الأيام التي تسبقه، حين تتهشم الموازين، وتصبح العقول فارغة من المناعة، جاهزة لاستقبال أي دجل ما دام مغلفاً بصورة مبهرة.
في زمن الفتن واختلاط المفاهيم، النجاة ليست في اعتزال الناس، بل في اعتزال الباطل فيهم.
أعظم ما يمكنك فعله لنفسك اليوم هو ضبط “الميزان”:
أن تعرف عمن تأخذ دينك.
أن تفرق بين “المؤثر” و”العالم”.
أن لا يخدعك بريق الكلام عن بؤس الفعال.
نقبل الحق من الجميع، لكن لا نصنع من الجميع مرجعية. لأنك إن أضعت الميزان.. أضعت الطريق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق