الأربعاء، 24 ديسمبر 2025

الثورة عند نهاية الإنسانية.. تراجيديا الحرية

الثورة عند نهاية الإنسانية.. تراجيديا الحرية


 في مشهد يبدو مألوفا للغاية، تخرج جماهير كبيرة لتملأ الميادين هاتفة للحرية، ومطالبة بالتغيير وإسقاط أنظمة الفساد والتطبيع، حيث تربعت على كرسي السلطة قوى أوليغارشية، لم تسلم من ظلمها وخيانتها الأرض والتاريخ والهوية.

ومن موجات الربيع العربي لحراك الريف، وصولا إلى طوفان الأقصى، يتبادر إلى الأذهان سؤال الثورة والحرية، في زمن تجتاحنا خيباته وآلامه جراء الخذلان والخديعة، اللذين يقفان أمام أي نهضة مستقبلية للأمة، أو بالأحرى ضد أي مشروع تحرري من شأنه أن يُخرجنا من التيه.

فاللحظة التاريخية لا تتعلق بالحرية ولا بالكرامة والديمقراطية، بقدر ما تعيد إنتاج «فعل المقاومة» بوصفه شرطا وجوديا لبلوغ «منازل الحرية»، المستعصية على كثير ممن آثروا العبودية الطوعية على أن يكونوا في صفوف الرفض العالمي.

وما بين الأجيال المتلاحقة، ومشاريع الهيمنة المتعاقبة، وإرادة شعبية لا تُختزل في جيل بعينه، يقارب المقال مسألة الخروج من الأحكام المسبقة والموجهة حول حراك الشعوب وتجاربها القاسية في الحياة، نحو فهم التحولات المتسارعة والحقوق المغيبة، ونقد مركزية «اللاهوت السياسي العربي» القابع في سراديب طقوس العبودية.. فهل نشهد حقا آخر فصول طوفان التغيير؟

الحرية ليست اغترابا عن المجتمع بالضرورة، ولا تمردا على سلطة تستأثر بالحكم، ولا هي انتقال رؤوس الأموال في أسواق منفتحة؛ بل تكاد تكون «مسؤولية ذاتية» لمسار البشرية نحو خلاصها النهائي

أليسوا بشرا؟!

ثمة دوافع كثيرة تدفع الإنسان إلى الانتفاض، منها رفضه الفقر والظلم، لكن ما يجعل الثورة مفتاحا لخلاص البشر هو تمسكهم بمنطق الحرية والاستماتة في سبيلها، حتى يهلك أحد الفريقين ممن تناقضت غاياتهم.

وعند النظر إلى الحرية في جوانبها النفسية فإننا نرصدها «اختيارا صعبا» حينما تتعب الآدمية من جور الحياة، فلا حاجة لنا بها عندما يتعلق الظلم بالآخرين، إلا إذا رأينا الصورة ذاتها تُستنسخ في أسماء متعددة وأناسي مختلفة.

الحرية ليست اغترابا عن المجتمع بالضرورة، ولا تمردا على سلطة تستأثر بالحكم، ولا هي انتقال رؤوس الأموال في أسواق منفتحة؛ بل تكاد تكون «مسؤولية ذاتية» لمسار البشرية نحو خلاصها النهائي، حيث المستقر إذ تبدو طلائع النجاة فيه مكلفة ومؤلمة للغاية، فأن ننتفض ضد التاريخ والهوية والسلطة أقرب إلى التعبير عن حضورنا المتشابك معهم، لكن يصعب التمرد على رغباتنا وطموحاتنا التي تزيد شهوة التملك والصراع «حضورا» في كل محفل وثورة.

من منظور آخر، تبدو الحرية منطلق صراع تاريخي بين قوى التغيير والرفض، لكنها تمثيل هوياتي لقيم الآدمية التي أعلنت الحضارة موتها، إذ لا يمكن تحييد الإنسانية عن مكتسبات الحرية والثورة ما لم تصبح لعنة التغيير عبئا على أولئك الحالمين والعائدين من التيه، في سبيل تحرير أوطانهم وانعتاق ذواتهم، فلا معنى للأرض والتاريخ والهوية إلا أن يكون اختيار الإنسان بداية للحياة، لا منطلقا تسرده الخيبات وتجتاحه ظلال الموت، وحيث ترسم المأساة تراجيديا الحرية المرعبة، يظل البحث مستمرا عن آدميتنا، وماهيتنا، وخلاصنا الأبدي.

النهاية لا تعني بالضرورة انقضاء فترة زمنية تحدد مصائر العالم والإنسان، إنها بداية ما يفترض أنه تاريخ مستقبلي نشاهد أماراته تعلن عن استفاقة ثورية، إيذانا بإعادة إنتاج ذوات تقتفي خطى البوعزيزي والساروت والكنداكة والسنوار

الحياة عند بداية الموت

عند كل صراع ولحظة تاريخية تأذن بزوال السرديات المضللة والأساطير القابعة على تاريخ وثقافة شعوبنا، يتبادر سؤال الحياة والموت، وجدوى أن تخرج الجماهير لتنال الجائزة الكبرى عن انتفاضتها، والتي لا تحيد عن سياق الاعتقال أو الاختفاء أو القتل بشتى صنوفه، حتى إن مسألة الحرية في كثير من اللحظات الحاسمة والتاريخية كانت لوحة سوداء قاتمة، معنونة بمصائر الإبادة والتهجير والتجويع.

إن الموت آية الزمان وظل الحياة، وهو بعد لا يسع الإنسان إلا أن يكون منفيا عن تاريخه وهويته وثقافته، وهذا النفي ليس اغترابا أو اضطرابا يصيبه بالفزع أو الخوف جراء الفقد المستمر للأشياء وعالمها، إنه إلغاء لحضور آدميتنا وطبيعتنا، أعني متى نستطيع التجرد من أنانيتنا في لحظة حاسمة، تدخلنا مفترق طريق يتيح لنا الخروج من نفق الظلم والقهر.

يختلف عمر العالم عن ذاك الذي يحيط بنا نحن البشر، فالزمن هنا هو اللاعب الحقيقي في تعريف الموت والحياة، والثورة والحرية، والأرض والتاريخ، ولكل منها سجل حافل بصور التأويل التي ألقي بها في ذاكرة منفية، ولا يوجد بينها إلا زمن أزلي متعلق بالحضارة لا البشرية، فمتى سقطت ورقة الاعتراف بإنسانيتنا، حقت علينا مصائر الموت.

نريد أن نجعل للثورة زمنا يليق بنا، وعمرا قصيرا نبصر مآلاته المتسارعة، كما أننا لا ننتقد تلك «الحرية المفرطة» التي تجعل الآخرين، الذين يقاومون آلة الموت بأجساد عارية وأصوات عالية وذوات مستعصية على الخضوع، مقاولي ثورة التغيير، وحالمين بإسقاط أعتى قوى اللاهوت دكتاتورية.

ربما علينا الإنصات جيدا للزمن كونه السلطة الخالدة، ذاك الذي يحاكي أسطورة مغيبة وتاريخا ماضويا يستغيث ليخرج من براثن السرديات المضللة، علنا ندرك حقيقة الأشياء وعالمنا وذواتنا، ولننظر إلى اللحظات التاريخية والثورية: أنى لها أن تعيد صياغة ما يفترض أنه عناوين كبرى للحضارة والإنسانية؟

النهاية لا تعني بالضرورة انقضاء فترة زمنية تحدد مصائر العالم والإنسان، إنها بداية ما يفترض أنه تاريخ مستقبلي نشاهد أماراته تعلن عن استفاقة ثورية، إيذانا بإعادة إنتاج ذوات تقتفي خطى البوعزيزي والساروت والكنداكة والسنوار.

كل جيل يفهم الحرية ضمن خصوصيته، لا كفعل ثوري يحمّل الذات المنتفضة وعيا ومسؤولية باللحظة الحاسمة لاستكمال مشروع التغيير

بين جيلين

إن الصراع المحتدم بين الهامشي والسلطوي لا يخرج عن مركزية الثروة، ومطلب المنتفضين في ميادين الحرية المعنون بالكرامة والعدالة، إلا أن فهمنا للتغيير يصطدم في كثير من الأحيان بواقع متأزم يخاف الحرية أكثر من خشيته الدكتاتورية، وسبب ذلك مرده إلى الانتقال من صراع الهامشي ضد السلطوي، نحو صراع أكثر حدة وعنفا بين الهامشي على مختلف أجياله، حينها توالت الصدامات واللعنات بين الأجيال.

فالآن، وعلى مقربة من تجربة دامية وتراجيديا الحرية المؤلمة في منطقتنا العربية، يوصف من يدعو إلى إسقاط حكومات وأنظمة فشلت في تحقيق العدالة الاجتماعية والرعاية الصحية لشعوبها بأنهم "جيل زد"، وهذا التوصيف ليس إلا اختزالا للمأساة الوطنية التي أنتجتها قوى النظم المتحكمة في الاقتصاد والسياسة.

علينا «الحذر» من تقسيمات هي بالضرورة ثقافية واجتماعية، قابلة للتغيير والاستبدال وفق المتغير التاريخي والاجتماعي، فالتكنولوجيا أصبحت أداة تمييز بين الأجيال، شأنها شأن اللحظة الثورية التي استدعت جيلا للانتفاض ضد البراميل المتفجرة وسياسات التطبيع.

ولفهم تلك التقسيمات نقترب أكثر من الاعتراف بأحقية أي جيل في الاعتراض على ما هو سائد ومطنب في تمجيد ثقافة لا تصلح له، فكل جيل يفهم الحرية ضمن خصوصيته، لا كفعل ثوري يحمل الذات المنتفضة وعيا ومسؤولية باللحظة الحاسمة لاستكمال مشروع التغيير.

إن نهاية الإنسان ليست مرهونة بالموت، فهو الآخر يخشى من زوال البشرية ليحين دوره، فنهاية العالم أكبر من هلاك البشرية جمعاء، وهذا العالم إنما هو بذر في سؤال الحقيقة، حيث تمنحنا الحياة أجوبة عن الحرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق