الأحد، 21 ديسمبر 2025

مرحبا بالستّين

مرحبا بالستّين

قبل خمس سنوات، صدر كتابي: “حياتنا بعد الستين”، ويومها علّق أحدهم قائلا: كيف لك ذلك، وأنت بعد لم تبلغ الستّين؟

أظنه، غاب عنه أنّ كل آتٍ قريب، وأنّ المسافة بين أَمْسنا ويومنا وغدنا أقصر من خطى العصفور، وأننا نكتب لمستقبلٍ ينتظرنا أكثر ممّا نكتب لحاضر يعيشنا أو ماضٍ عشناه..

عمومًا، ها أنذا يا صديقي بلغْت الستّين، وحقّ لي القول:

وماذا يبتغي الشعراء منّي

وقد جاوزْتُ حدّ الستّينِ!

أغلب مرضاي لا يصدّقون أنّني الآن ستّيني متقاعِد حسب نص القانون، ولهم كلّ الحقّ، فأنا أيضا لا أصدّق، ولا أريد أن أصدّق..

وددْتُ لو عقدتُ اتفاقية مبكّرة مع العمر تقضي بأن يمضي إلى حال سبيله ويتركني، ولكن أين يتركني؟

– هل في كُتّاب الشيخ محمد المنجي، أميل يَمْنة ويَسْرة كغصن شجرة، وأُتبعُ الفاتحةَ بالبقرة؟..

– أم في كفالة أبله سعاد، حيث رائحة بلاط الحضانة المغسول بالمطهّرات كالجروح تصيبني بالدوار والغثيان؟..

– أم في جُرننا الفسيح، أركض وراء الكرة الشراب ركضا لا يقطعه سوى أذان المغرب بصوت الشيخ محمد المسلماني؟..

– أم في طابور المدرسة الابتدائية ذات الفصول الطينية، حيث أتلو كلمة الصباح وأُرضي غرور همزتَي الوصْل والقطْع؟.

بين الوطن والغربة تَوزّعَت تلك الستّون بالتساوي، ولولا أنها كُتبت على هذا النحو بقلم القدَر، ووُزنت بميزانه الحكيم، لقلت كما قال الكِتاب العزيز: “تلك إذًا قِسمةٌ ضيزى” النجم ٢٢.

لِسلطنة عُمان نصيبٌ وافر من تلك الصفقة الستّينيّة، وأنا لها ممنون، وحبّها في القلب مكنون، غير أنّ الحنين إلى خاتمة دافئة في حضن وطن عظيم تظلّ أمنية الأماني..

فهل تكون؟!

منذ أيام، وكّلْت مَن ينوب عنّي لإنهاء إجراءات معاش نقابة الأطباء، فرفض الموظف بشدّة، والسبب: لا بدّ من حضوري بلحمي وشحمي! 

أغلب الظنّ أنّ النقابة لا تصدّق أنني حيّ يُرزق بعد كلّ هذا العمر المديد الذي أكلَت عليه الغربة وشربَت؟! شكرًا سيادة النقيب، واسمح لي باستعارة عبارة كريمان حمزة في صدر مذكّراتها: لِلّه يا زَمْري.

عندما بلغ المنفلوطي سنّ الأربعين كتب باكيًا كعادته: 

“وداعًا يا عهد الشباب، فقد ودَّعْتُ بوداعكَ الحياة”..

وكان له ما أراد، إذْ أدارت له الحياة ظهرها، ففارقها وفارقتْه في سنّ السابعة والأربعين، وكأن لسان حالها يقول: مَن باعنا بعْناه ولو بدراهم مزْجاة..

ولهذا، لا داعي لليأس من الحياة مهما بلغَت بنا السنون، أربعين كانت أو ستّين أو ثمانين..فكما أن المطر عطر السماء للأرض، فإن الستين هي عطر السنين للعمر.

لن أقول كما قال أبو العتاهية: ألا ليت الشباب يعود يوما، ولكن أقول: ألا ليت المَشيب يسير هوْنا..

ولن أقول كما قال أوسكار وايلد: الشباب فنّ، 

بل أقول: الستّون هي الأدب والفنّ. 

وأقول كما قال الرافعي: ما رأيت كالدِّين وسيلة تجعل الطفولة ممتدّة بحقائقها إلى آخر العمر في هذا الإنسان.

إِيهٍ أيّها الزمن القديم، القديم جدّا، حينما كان الغلام يحتلم وهو ابن ثمانين، ووقتما مات ولدٌ لأبينا آدم وهو ابن مائتين فبكتْه الإنس والجنّ لحداثة سنّه!!

أُوقن أنّ الأعمار مواسم، ولكلّ موسم ثمرته، وثمرة الستّين هي: الحكمة، والاستقامة، والصدق، وخبرة الحياة، والقدرة على التخلِّي، أو هكذا يجب أن تكون..

قد تحرمنا الستّون من بعض المتع الجسدية والماديّة، ولكنها تهدينا الكثير من المتع الروحية والعقلية.. فبعدما كنّا نعيش على هوى الآخَرين أكثر ممّا نعيش على هوانا، آن الأوان لكي نعكس هذه المعادلة، وحان الوقت لنتوقّف عن عصر الليمون على ما لا نستسيغه من أفكار وأشخاص وأحداث.

قد تكون الأنانية شيطانا في سنّ الشباب والكهولة، ولكنها في عمر الستين ليست كذلك. 

لقد دقّت ساعة السلام النفسي والأمان الروحي، ومعها لا بد للأنانية أن تتّشح بالملائكية؛ إذْ لم يَعُد الوقت ولا الجهد يتسع لِما يتوقّعه الآخَرون منّا. لقد امتلأت حقائب التضحيات وضاق بها الكاهل حقًّا وصدقا، وحلّت لحظة طرحها أرضا أو التخفّف منها على أقل تقدير..

ها قد جنحَت شمسُك للغروب ووصل نهرُك إلى مصبّه، فماذا أنت فاعلٌ يا منير؟

قد يتوقّف بي قطار الطب، وأقطع المزيد من خيوط التواصل، وأرتضي القليل من كلّ شيء، وأجنح إلى عزلة إيجابية أُوثر فيها الصمت على الكلام، وأُنحّي بها كلّ ما يعكّر صفو الصباح أو ينغّص هدوء المساء..

وبالتأكيد سأقرأ وأكتب، وأمشي دون أن أركض، وأهزّ رأسي وأصفح، وأجتهد في العبادة أكثر، وأتجهّز لرحيل أفضل ووداع أجمل..

وتظلّ الكلمة العليا للدعاء النبويّ المأثور: 

اللهمّ أَحْيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتَوفّني ما كانت الوفاة خيرًا لي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق