الاستقطاب الفكري ودعم الاستبداد
قراءة في الخطاب التمهيدي لكتاب «داعش»، للدكتور عمار علي حسن
إعاقة الفهم الأكاديمي السليم للظاهرة التي يتعرض لها الكاتب ومحاولة خلط الأفكار وتضخيم حالة الاستعداء ضد احد مكونات المجتمع المدني المصري وقبول بعض رموز النخبة الفكرية ان تكون أحد فواعل النظام العسكري في تثبيت حالة التشتت المجتمعي وتمزيق النسيج الوطني
أصبحت أهم الظواهر التي تعيق عملية التغيير في المجتمع وتداول السلطة تداولا طبيعيا عبر آليات التغيير المعترف بها دوليا.
لا يشكّل الاستهلال المُقدَّم لكتاب شبه دولة:
القصة الكاملة لداعش، مدخلاً تحليلياً محايداً لدراسة ظاهرة داعش، فحسب، بل هو وثيقة تعكس ، بخطابها وأدواتها ، ظاهرة أعمق وأخطر:
توظيف نخبةٍ فكريةٍ ومثقفةٍ لخطابٍ استقطابيٍ وإقصائيٍ لتبرير نظم سلطوية واستبدادية، تحت شعار محاربة الإرهاب. يقدم هذا النص نفسه كجزء من ،حرب الأفكار، لكنه في جوهره يكرّس لاستقطابٍ سياسيٍ وثقافيٍ يخدم أجندةً ضيّقة، ويُعقّد مهمة فهم الظاهرة الإرهابية ومعالجتها جذرياً.
المحور الأول: إشكالية الخلط العمد: من الدراسة إلى التبرير السياسي
1- تكتيك ،الخلط الاستراتيجي، :
الخطاب لا يكتفي بدراسة ،داعش، بل يسارع إلى ربطه عضويّاً بكل أشكال العمل الإسلامي السياسي المنظم، خاصة ،الإخوان المسلمين،.
هذا الربط ليس تحليلياً بل تكتيكي؛ فهو يهدف إلى:
تضخيم التهديد:
لتصبح مواجهة الإخوان ، وهم خصم سياسي مساويةً في الأهمية والأولوية لمواجهة تنظيم إرهابي عالمي مثل داعش.
تسويغ القمع:
إذا تم تسويق فكرة أن ،الإخوان، هم الوجه الآخر لـ داعش، أو بيئته الحاضنة، فإن أي إجراء قمعي ضدهم يصبح مبرراً تحت مظلة الحرب على الإرهاب،. هنا، يتحول الخطاب الفكري إلى أداة لتلميع وتبرير الممارسات الاستبدادية للنظام العسكري في مصر بعد 2013.
تصفية الحساب الأيديولوجي:
يستغل المؤلف الرعب الذي يثيره داعش لتسديد ضربة شاملة لكل التيارات الإسلامية السياسية، معفياً نفسه من ضرورة النقاش الموضوعي مع أفكارها السياسية والاجتماعية، ومختزلاً إياها إلى مجرد تمهيد للتطرف.
2- المغالطة التاريخية والمنطقية:
الربط السببي المُفتَرض بين فكر الإخوان (كمشروع سياسي إصلاحي في أصوله) وظهور ،داعش، (كمشروع تكفيري عنيف يستهدف الدولة والمجتمع) مغالطة كبرى. فهو يتجاهل الدور الحاسم للسياقات الدولية (العراق، سوريا)، وفشل بناء الدولة الوطنية، والسياسات القمعية التي دفعت قطاعات نحو التطرف، والتحولات الجوهرية في الفكر الجهادي العالمي الذي صار ينظر إلى جماعات مثل ،الإخوان، كأعداء لأنها قبلت بمنطق الدولة والديمقراطية النسبية.
المحور الثاني: النخبة المثقفة كأداة في تكريس الاستبداد
1- التخلي عن دور الناقد المستقل:
يكشف هذا الخطاب عن انزياح خطير في دور جزء من النخبة المثقفة العربية. بدلاً من أن تكون صوتاً ناقداً للسلطة بجميع أشكالها، ومنارة للعقلانية والتحليل المعقد، فإنها تتحول إلى:
كاتب سيناريو للتبرير: تقدم رواية فكرية متماسكة لتبرير إجراءات السلطة، معطيةً لها غطاءً مدنياً، وفكرياً، يخفي طبيعتها الأمنية القمعية.
مُشَرْعِنٌ للاستثناء الأمني:
تحوّل حالة الطوارئ الدائمة والاستثناء الأمني إلى حرب أفكار، ضرورية وشرعية، مما يطمس الخط الفاصل بين مكافحة الإرهاب الحقيقي وقمع المعارضة المشروعة.
محارب في معركة السلطة:
تضع نفسها في خندق مواجهة مع خصوم النظام السياسي، متخلية عن حيادها النقدي، ومشاركة في عملية، تخوين، واسعة لكل معارض.
2- خطاب الاستعلاء والتكفير المعنوي:
يعيد الخطاب إنتاج نفس الآليات التي ينتقدها، ولكن بصيغة علمانية/ليبرالية مزعومة. فـ العصبة المؤمنة والفرقة الناجية، يتم استبدالها بـ النخبة العاقلة، التي ترى الحقيقة المطلقة وتتفرد بتشخيص الداء (الإسلام السياسي بجميع أشكاله) والدواء (القضاء عليه). كل من يخالف هذا التشخيص يُشكَّك في عقله ووطنيته، بل ويُلمَّح إلى أنه شريك غير مباشر مع “داعش”. إنه تكفيرٌ معنويٌ وإقصاءٌ فكريٌ بآليات جديدة.
المحور الثالث: العواقب: إعاقة الفهم وتأجيج الاستقطاب
1- إعاقة الفهم الحقيقي لـ داعش:
عندما تُختَزَل دراسة تنظيم مثل، داعش، إلى مجرد حلقة في سلسلة الإسلام السياسي ، تُهمَلُ تحليلاتٌ حاسمةٌ حول: اقتصاد الحرب، الصراعات القبلية والمناطقية، الديناميكيات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، فشل نموذج الدولة الوطنية، وسوسيولوجيا العنف. الكتاب، بهذا المنطلق، قد يقدم معلومات، لكنه يفشل في تقديم إطار تحليلي شامل لأن نقطة انطلاقه أيديولوجية وسياسية في الأساس.
2- تأجيج الاستقطاب المجتمعي وتعطيل المصالحة:
هذا النوع من الخطاب يحفر الخنادق أعمق في المجتمعات المنقسمة أصلاً بفعل النظام العسكري. فهو يرسخ فكرة أن الصراع هو بين ،معسكر النخبة الوطنية العاقلة، (المؤيدة للنظام) ومعسكر التطرف والخيانة، (الذي يضم من الإخوان إلى داعش). هذا يستبعد أي إمكانية لحوار وطني جاد أو مصالحة، ويجعل من المستحيل بناء توافق حول مستقبل البلاد.
3- منح الشرعية للاستبداد:
الإنجاز الرئيسي لهذا الخطاب هو منح شرعية فكرية ونخبوية لاستبداد النظام. فهو يقدم للجمهور المحلي والدولي صورة مفادها أن القبضة الحديدية ليست خياراً سياسياً، بل هي ضرورة حتمية، في مواجهة ،سرطان، وجودي. وهكذا، تتحول النخبة المثقفة من حارس للحرية إلى سجانٍ فكريٍ لها.
نحو خطاب بديل
بعد اقتراب المئوية الأولى للإخوان المسلمين وتجذرهم في عمق المجتمعات العربية والإسلامية، وقناعة الشعوب بمنهجها وفكرها
اصبح الخطاب الاستقصائي خطابا مملا ولم يعد له رواد من غالبية تلك المجتمعات غير الطبقة المتسلقة من بعض رموز النخبة الفكرية والسياسية التي لم تدرك بعد أن الزمن يتجاوز تلك التوجهات وأصبحت هناك حالة من الوعي الجمعي بشكل يذيب كل محاولات ترسيخ حالة الاستعداء والاستقطاب.
لذلك لابد من فصلُ المجالات:
الفصل التحليلي الصارم بين دراسة التنظيمات الإرهابية العنيفة (كـ داعش )، وبين تقييم أداء الحركات الإسلامية السياسية في الحكم أو المعارضة. كل مجال له أدوات تقييمه ومقاييس نجاحه وفشله.
استعادة استقلالية المثقف:
ضرورة عودة المثقف إلى دوره الناقد المستقل، الذي يحاكم السلطة والمعارضة بمقاييس واحدة: العدالة، الحرية، الكرامة الإنسانية، وسيادة القانون. معارضة الاستبداد العسكري لا تعني التغاضي عن أخطاء أو مخاطر أي فصيل آخر.
تبنّي تحليلٍ معقّدٍ متعدد الأبعاد:
فهم ظاهرة كـ داعش يتطلب تجاوز الرؤية الأمنية، الأيديولوجية الضيقة، إلى رؤية تشمل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية والدولية.
رفض منطق إما معنا أو مع الإرهاب:
هذه هي المغالطة الكبرى التي تخدم الاستبداد. الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان ومحاكمة الجميع بمقياس القانون، هو الدرع الحقيقية ضد التطرف من جميع الجهات.
الخطر ليس فقط في تنظيم ، داعش ، بل أيضاً في تلك العقلية الداعشية ، بمعنى الاستئصال والإقصاء والتكفير – التي يمكن أن تستوطن أذهان النخب الفكرية والسياسية تحت أي شعار كان. مواجهة الأولى تتطلب نبذ الثانية، وهذا ما يفشل خطاب الكتاب التمهيدي في إدراكه، بل يساهم في ترسيخه.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق