أسئلة السودان الصعبة للاتحاد الأوروبي
أولا: الإنسانية المسيسة وتجاوز الدولة المقدمة
وسط الإدانات الدولية المتصاعدة لانتهاكات التمرد في دارفور وغيرها، يبرز قرار الاتحاد الأوروبي، تسيير جسر جوي للمساعدات إلى الفاشر، سواء كان ذلك مباشرة أو عبر الحدود مع تشاد، بوصفه مفارقة كاشفة لا مجرد خطوة إنسانية.
فبين خطاب الإدانة وممارسة التجاوز، تتجلى ملامح إنسانية انتقائية مسيسة تدار خارج الدولة، وتنفذ في مناطق خاضعة للتمرد، بما يفتح الباب لتطبيع واقع مفروض بالقوة، وتبييض السلوك المسلح عبر واجهة الإغاثة.
هذه المقاربة، التي يعيد السودان تجرع مراراتها منذ بعثة "شريان الحياة" في أيام الجفاف والتصحر، وعلى أعقاب بعثتي "يوناميد" و"يونيتامس"، تطرح سؤالا جوهريا: هل تنقذ المساعدات المدنيين حقا، أم تستخدم كجسر سياسي يتجاوز السيادة ويعيد إنتاج أخطاء التدخل الدولي باسم الإنسانية؟ أم هي رغبة للتدخل وإدارة الصراع إلى مرحلة أعقد؟
كيف يكافأ التمرد، وهو من صنع هذه الأوضاع الإنسانية المزرية، ودمر البنيات الأساسية والخدمات، ونهب ممتلكات المواطنين، وأفقرهم، وحملهم على الهجرة الداخلية قسرا والنزوح، وعطل دولاب العمل، وخرب المواسم الزراعية والمدن الصناعية، واضطرهم للجوء إلى دول الجوار؟
هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إجابات عاجلة، ومساعداتهم بهذا الشكل المسيء ستقود إلى تبعات ماكرة يضمرها الاتحاد الأوروبي من وراء جسره السياسي، بعواقب وخيمة على البلاد.
التوقيت ومدلوله
إذًا، فالتوقيت ليس بريئا، بل مرتبطا بتحولات ميدانية وسياسية، ومحاولة تثبيت وقائع جديدة على الأرض قبل أن تحسم المعركة السياسية أو العسكرية.
إن تنفيذ جسر جوي دون تنسيق مع أجهزة الدولة ومؤسساتها إلى مدينة خارج سيطرتها، يعد تجاوزا يحمل رسالة سياسية مقصودة، ويعيد إنتاج منطق:
- تدويل الأزمة وأطر الحل.
- نزع السيادة تحت غطاء إنساني.
- إضعاف متعمد للشرعية الوطنية.
- ورسالة هذا المسار الأخطر مفادها أن الدولة السودانية غير موجودة أو غير مؤهلة أو غير قادرة، ويمكن القفز فوقها إنسانيا.
- ثانيا: دروس التدخل الدولي وفشل المقاربات السابقة الإنسانية دون كرامة.. وصفة للفشل.
- السودانيون لا يرفضون المساعدة، لكنهم يرفضون:
- الإغاثة التي تقدَم كبديل عن الدولة.
- أو التي تدار من فوق رؤوسهم.
- أو التي توظف لإعادة هندسة المشهد العسكري والسياسي والأمني.
- لقد أثبتت تجارب "شريان الحياة" و"يوناميد" و"يونيتامس" أن أي تدخل لا يحترم السيادة، ولا يبني على المؤسسات، ولا ينطلق من رؤية وطنية، سينتهي بتعقيد الأزمة لا حلها.
ثانياً: من يوناميد إلى يونيتامس: إعادة إنتاج الفشل
أعاد قرار الاتحاد الأوروبي تسيير جسر جوي للمساعدات الإنسانية إلى مدينة الفاشر، خارج إطار التنسيق المعلن مع الدولة السودانية، فتح ملف شائك في الذاكرة الوطنية السودانية، ظل حاضرا منذ تجربتي بعثتي "يوناميد" و"يونيتامس"، حيث اختلط الإنساني بالسياسي، ودفعت السيادة الوطنية أثمانا باهظة تحت لافتة "حماية المدنيين"، والحرب تقارب عامها الثالث.
لا خلاف على فداحة الوضع الإنساني في الفاشر وغيرها من مدن وأرياف دارفور وكردفان، ولا على حق المدنيين في الإغاثة العاجلة، غير أن سؤال التوقيت والآلية يظل جوهريا.
فقد كانت الفاشر تحت حصار فعلي لأكثر من ثمانية عشر شهرا، ورفضت المليشيا المسيطرة مرارا الهدن الإنسانية التي طالب بها أمين عام الأمم المتحدة، بينما كانت غالبية مدن السودان وأريافه تعيش أوضاعا إنسانية كارثية مماثلة، دون أن يقابل ذلك بتحركات دولية استثنائية من هذا النوع.
تمثل تجربة يوناميد مثالا صارخا على فشل التدخل الدولي حين يدار خارج منطق الدولة. فقد دخلت البعثة بتفويض حماية المدنيين، لكنها لم تنهِ الصراع، بل أسهمت عمليا في إدارته، وأنتجت واقعا ميدانيا موازيا أضعف حضور الدولة، وكرس التعامل مع الجماعات المسلحة كأمر واقع، دون تحقيق الأمن أو العدالة للضحايا.
أما بعثة يونيتامس، التي جاءت في سياق سياسي مختلف عقب ثورة ديسمبر/كانون الأول، فقد تمدد دورها من الدعم الفني إلى التأثير المباشر في العملية السياسية، بما أحدث إرباكا سياسيا وهشاشة واضحة، مع عجز عن استيعاب تعقيدات المشهد السوداني. وعندما اندلعت الحرب، انكشفت محدودية هذا النهج، وانسحبت البعثة عمليا، تاركة فراغا سياسيا وإنسانيا عمق أزمة الثقة تجاه المقاربات الدولية.
في هذا السياق، يقرأ الجسر الجوي الأوروبي إلى الفاشر بوصفه إعادة إنتاج للنمط ذاته: تجاوز الدولة، والتعامل مع واقع فرضته المليشيا، وتقديم المساعدات كبديل عن المؤسسات الوطنية لا عبرها، بما يضعف السيادة ويشجع التمرد، ويفتح الباب لتدويل أوسع للأزمة.
ثالثا: المخاطر، حدود الدولة، وخلاصة الموقف
تبييض العمل الإنساني والمخاطر المترتبة
وسط الإدانات الدولية المتكررة لانتهاكات المليشيا في دارفور والفاشر تحديدا، وقبلها الجنينة ونيالا، يثير الجسر الجوي الأوروبي تساؤلا مشروعا حول ازدواجية المعايير. فبينما تدان الجرائم لفظيا، تتخذ خطوات عملية تتجاوز الدولة وتدار في مناطق خاضعة للتمرد، بما يؤدي عمليا إلى تبييض السلوك المسلح عبر واجهة إنسانية انتقائية، تضعف المساءلة، وتحول الضحية إلى أداة سياسية.
ومن أبرز المخاطر المترتبة على هذا المسار:
- إضعاف مفهوم الدولة كمنظم وحيد للعمل الإنساني.
- تشجيع المليشيات على استخدام المدنيين كورقة تفاوض.
- فتح الباب لتدويل أوسع تحت عناوين إنسانية.
- تقويض الحلول الوطنية وإفراغها من مضمونها.
- تحويل المساعدات إلى أداة نفوذ سياسي.
خطوط الدولة في مواجهة هذا التدخل
في مواجهة هذا النمط من التدخل، تمتلك الدولة السودانية- إن أحسنت إدارة الملف – خطوطا حاكمة لا تتعارض مع العمل الإنساني ولا المواثيق الدولية، لكنها تحمي السيادة الوطنية، أبرزها:
- التأكيد العلني على أن الدولة ليست ضد الإغاثة، بل ضد تجاوزها، مع الترحيب بأي دعم يتم عبر القنوات الرسمية.
- اشتراط التنسيق الكامل مع الجهات الحكومية المختصة في تحديد الاحتياجات والتخطيط والتنفيذ وآلية التوزيع.
- رفض أي عمليات إنسانية في مناطق التمرد دون ضمانات صارمة تمنع استفادة المليشيا سياسيا أو لوجيستيا.
- ربط العمل الإنساني بالضغط من أجل هدن إنسانية حقيقية تضمن الوصول الآمن والمتوازن لكل المحتاجين.
- توثيق أي تجاوزات أو انتقائية ورفعها للمنظمات الدولية والإقليمية كملف سيادي.
- إعادة طرح تجربتي يوناميد ويونيتامس كدروس رسمية في كل حوار مع الشركاء الدوليين.
- توسيع الشراكات الإنسانية مع أطراف تحترم السيادة، وتعمل على أساس الحاجة الوطنية الشاملة.
- خاتمة
إن أخطر ما في "الإنسانية المسيسة" ليس ما تقدمه من مساعدات، بل ما تخلقه من سوابق. فحين تستخدم الإغاثة لتجاوز الدولة، وتمارس بانتقائية تتجاهل السياق والانتهاكات، فإنها تتحول من أداة إنقاذ إلى أداة تبييض، ومن واجب أخلاقي إلى أداة نفوذ.
إن الجسر الجوي الأوروبي إلى الفاشر، على محدوديته من حيث الإعانات المتأخرة جدا، يعد خطوة متقدمة في التدويل خارج التنسيق الوطني، لا خطوة إنسانية خالصة، بل حلقة جديدة في سلسلة تدخلات لم تنتج سلاما مستداما للسودان.
والدرس الذي لم يتغير منذ "شريان الحياة" ويوناميد حتى اليوم هو أن الطريق إلى إنقاذ المدنيين لا يمر بتهميش الدولة، بل بإعادة بنائها وتمكينها. وما لم تراجع هذه المقاربات، فإن السودان سيظل يدفع ثمن "الإنسانية المسيسة" مرة بعد مرة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق