نقطة نظام
وَهْمُ الأَندَلُس: عندما يتمُّ تحويلُ التَّاريخِ
إلى فزَّاعة!
هناك كُتُبٌ تُكتَبُ لِتُضيفَ إلى الوعي، وكُتُبٌ تُكتَبُ لِتُضيِّعَه. وللأسف، يَنتَمِي كتابُ «وهمِ الأندلسِ» إلى الفئةِ الثانية؛ كتابٌ أراد أن يبدو عميقًا فخرج سطحيًّا، وطَمِحَ أن يكونَ تاريخيًّا فجاء دعائيًّا، وتخيّل نفسَه شُجاعًا فإذا به مجرّدُ مادّةِ تعبئةٍ عاطفيّةٍ تبيعُ الخوفَ تحتَ اسمِ القراءةِ التاريخيةِ.
المشكلةُ أنّ هذا الكتابَ لا يقرأُ الأندلسَ كحدثٍ حضاريٍّ مُعقَّدٍ فيه العلمُ والفلسفةُ والسياسةُ والفنُّ، بل يُحوِّلُه إلى فزّاعةٍ تُرفَعُ في وجهِ الغربِ لِتَبريرِ خطابِ التخويفِ. التاريخُ عنده ليس مساحةَ فَهمٍ ومراجعةٍ، بل وسيلةَ ضغطٍ نفسيٍّ وإثارةٍ شعوريةٍ. بدلَ تحليلِ أسبابِ فتحِ المسلمين للأندلس بعمقٍ ومسؤوليّةٍ، وطريقةِ حكمهم لها بموضوعيَّة، لا أريدُ أن تحملَ تبني المسلمين للفكرة، يكفي أن تحملَ إنصاف النصارى لها كما فعلت “زيغريد هونكه” في كتابها “شمس الإسلام تستطعُ على الغرب”! يتجه الكتابُ إلى أقصرِ الطُّرُقِ وأكثرِها سذاجةً؛ تفسيرٍ مبنيٍّ على هاجسِ الهويةِ والخطرِ الثقافيِّ، لا على التحليلِ الموضوعيِّ.
في الحقيقةِ، ما يَغفَلُهُ هذا الخطابُ أنَّ الأندلسَ لم تكن لحظةَ تهديدٍ للحضارةِ، بل كانت إحدى قِمَمِها المُضيئةِ. كانت الأندلسُ يومئذٍ فضاءً للعلمِ والفلسفةِ والطِّبِّ والفلكِ والرّياضياتِ، فيها جامعاتٌ سبقت عصرَها، ومكتباتٌ تضاهي خزائنَ العالمِ، ومدنٌ مزدهرةٌ بالإنسانِ والفكرِ والفنِّ، بينما كانت أوروبا في مُعظمِها غارقةً في عصورٍ قاسيةٍ من الجهلِ والصراعِ الدينيِّ والقمعِ الكنسيِّ وضيقِ الأفقِ العلميِّ. في ذلك الزمنِ، كان الأندلسُ يُؤسِّسُ لِمدنيّةٍ إنسانيّةٍ رحبةٍ، ويمنحُ أوروبا ذاتَها —بعدَ قرونٍ قليلةٍ— مفاتيحَ النهضةِ عبرَ الترجمةِ والاحتكاكِ العلميِّ، لكنَّ كتابَ «وهمِ الأندلسِ» يتجاهلُ كلَّ هذا الإرثِ الحضاريِّ العظيمِ، ويستبدلُه بصورةٍ مُتخيَّلةٍ للأندلسِ كخطرٍ داهمٍ، مع أنَّ التاريخَ يشهدُ أنَّها كانت نافذةَ تقدُّمٍ لا مصدرًا للخرابِ.
الأخطرُ من ضعفِ المنهجِ أنَّ الخطابَ يحملُ شُحنةً أخلاقيّةً سلبيّةً واضحةً. فالكتابُ يُقدِّمُ صورةَ المسلمِ في الغربِ كخطرٍ مُحتملٍ، ويُسهِمُ في تغذيةِ مشاعرِ الشكِّ والعداءِ بدلَ المساهمةِ في نقاشٍ حضاريٍّ هادئٍ ومسؤولٍ. إنَّه لا يدعمُ فكرةَ التعايشِ، ولا يُضيفُ شيئًا لصورةِ الإسلامِ والإنسانِ المسلمِ، بل يضعُ لَبِنةً جديدةً في جدارِ سوءِ الفَهمِ، وكأنَّ العالمَ يَنقُصُه مزيدٌ من الأصواتِ التي تُكرِّسُ الانقسامَ.
ثمّ يأتي التبسيطُ المُخِلُّ ليزيدَ الصورةَ هشاشةً. حكم المسلمين للأندلس ظاهرةٌ تاريخيّةٌ مُركّبةٌ شاركت فيها عواملُ داخليةٌ وخارجيةٌ، سياسيةٌ واقتصاديةٌ وعسكريةٌ ودينيّةٌ، ومع ذلك يُختزَلُ كلُّ ذلكَ في خطابٍ مباشرٍ شديدِ الابتذالِ يقومُ على ثنائيّةِ التهديدِ والخوفِ. هذا النوعُ من الكتابةِ ليس تفكيرًا نقديًّا، بل كَسَلًا فكريًّا يختصرُ التاريخَ في شِعاراتٍ.
من الناحيةِ الثقافيةِ، لا يُضيفُ الكتابُ قيمةً حقيقيّةً للمكتبةِ الجادّةِ. لا يُثري النقاشَ، ولا يفتحُ أفقًا فكريًّا، ولا يحترمُ حساسيّةَ الموضوعِ الذي يتعاملُ معه. إنَّه ورقٌ كثيرٌ وضجيجٌ مرتفعٌ، لكن بلا محتوى معرفيٍّ راسخٍ ولا رؤيةٍ فكريّةٍ مسؤولةٍ.
وفي النهايةِ، ربما كان الاسمُ الأكثرَ دقّةً لهذا العملِ أنَّه هو نفسُهُ وَهْمٌ؛ وَهْمٌ أنَّه قراءةٌ للتاريخِ، ووهمٌ أنَّه دفاعٌ عن الهويةِ، ووهمٌ أنَّه يحمي المستقبلَ. أمّا الحقيقةُ فهي أنَّه نصٌّ يُكتَبُ بالخوفِ لا بالعقلِ، وبروحِ الصِّدامِ لا بروحِ الفَهمِ، ويقفُ على الضفّةِ التي تزيدُ النارَ اشتعالًا بدلَ أن تبحثَ عن ضوءٍ يُساعِدُ الإنسانَ على الرؤيةِ!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق