الثلاثاء، 23 ديسمبر 2025

عرب تحت السيادة الإسرائيلية

 عرب تحت السيادة الإسرائيلية

وائل قنديل


بكلماتٍ واضحة لا تقبل التأويل، ولا تحتمل ركاكة الاختباء وراء حجج الانتزاع من السياق أو الفهم الخاطئ، أعلن الكيان الصهيوني على لسان وزير الأمن، يسرائيل كاتس، ما يلي: 
"لن ننسحب مطلقاً من غزّة، وسنقيم بؤراً استيطانيةً شمالي القطاع مكان المجتمعات التي نزحت عندما يحين الوقت المناسب... نحن في مرحلة تطبيق السيادة عملياً". 

يحدث ذلك بينما التسكّع حول ما تسمّى "المرحلة الثانية" من اتفاق شرم الشيخ بشأن غزّة لا يزال مستمرّاً، الأمر الذي يفرض سؤالاً واجباً: 
هل حقاً توجد مرحلة ثانية؟! 
أم أن الحكاية من الألف إلى الياء كانت كفاحاً عربياً أميركياً مشتركاً من أجل إرغام المقاومة الفلسطينية على تحقيق كل أحلام العدو الصهيوني في استعادة جميع أسراه، وما تبقّى من جثث ورفات جنوده المقتولين خلال العدوان على غزّة، الذي استمر عامَيْن كاملَيْن؟

الشاهد أن الجانب الفلسطيني قد أوفى بالمطلوب منه كلّه في المرحلة الأولى من الاتفاق، فيما لا ينفّذ الاحتلال بنداً واحداً ممّا اتُّفق عليه، وبقي الذي يسيطر على أكثر من 54% من مساحة القطاع، ويرفض فتح معبر رفح بالاتجاهَيْن وفق الاتفاق، ويواصل انتهاكاته وخروقاته التي بلغت 740 خرقاً للاتفاق، وأسفرت (بحسب المعطيات) عن استشهاد 386 مواطناً، وإصابة 980 آخرين، إلى جانب 43 حالة اعتقال.
في الجانب الإنساني، وبحسب تقرير نشرته "الجزيرة" في موقعها، واصل الاحتلال تنصّله من التزاماته الواردة في الاتفاق، ولم يلتزم بالحدّ الأدنى من كمّيات المساعدات المتَّفق عليها، ولم يدخل قطاع غزّة سوى 14 ألفاً و534 شاحنة من أصل 37 ألفاً و200 شاحنة كان يفترض دخولها وفق الاتفاق. 
كما بلغ عدد شحنات الوقود الواردة إلى قطاع غزّة 315 شاحنة فقط من أصل ثلاثة آلاف شاحنة وقود يفترض دخولها، بمتوسّط خمس شاحنات يومياً من أصل 50 شاحنة مخصّصة وفق الاتفاق.
جملة "نحن في مرحلة تطبيق السيادة عملياً" الواردة في تصريح وزير أمن الاحتلال لا تشمل غزّة وكل فلسطين فقط، بل تنسحب على كل الأهداف الإسرائيلية في الوطن العربي، الذي يتنافس حكّامه في بلاغة الاستسلام والانهزام تحت شعار "الواقعية" التي باتت تجسّد في السياسة العربية معنى "الوقوعية" بشكل كامل؛ إذ بينما يمضي الاحتلال في بسط سيادته على المنطقة بالقوة، تنشط الحكومات العربية في التخلّص من كل عناصر القوة، قوة السلاح أو قوة التفاوض، فتعلنها حرباً على كل ما يضايق إسرائيل، وتمحو مفردة المقاومة محواً من قاموسها.
في فصاحة خلّابة، لا يضاهيها سوى خطابات الرئيس السوري المخلوع بشّار الأسد في القمم العربية، يتحدّث الرئيس اللبناني جوزاف عون، فيقول: "أبلغت حزب الله أن منطق القوة لم يعد ينفع، وأنه علينا الذهاب إلى قوة المنطق". 
شكل الجملة حلو وجميل، لكنّها فارغة من أيّ مضمون ومن أيّ قيمة، وخصوصاً منطق القوة الصهيوني يجعلها تعربد في ربوع لبنان وسورية، من دون أيّ منطق أخلاقي أو قانوني أو إنساني، وتفرض من خلاله ما تشاء من خرائط جغرافية وأوضاع سياسية على الحكومات العربية التي باتت المعادلة الحاكمة لها هي: 
هرولة صوب إسرائيل وقطيعة مع المقاومة الوطنية؛ وهي معادلة تفتقد أي ملمح من ملامح المنطق السليم، إذ لم يعرف التاريخ كله ما يثبت خطأ المعادلة الأصح والأعدل: "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة". وبالتالي، ليس ثمّة معنى لإسقاط هذه المعادلة من جانب الطرف المُعتدى عليه سوى أنه لا يريد استرداد شيء ممّا سُلب منه؛ فقط يطلب ودّ العدو ورضاه.
في الحالة السورية الجديدة ما هو أفدح؛ إذ لم يصدر تعليق رسمي بعد على نشر وزارة الخارجية والمغتربين السورية خريطة رسمية لسورية الجديدة هذا الأسبوع منقوصة من مرتفعات الجولان، كما ظهرت في منشور رسمي على حساب الوزارة في منصّة "إكس" بعنوان "سوريا بدون قانون قيصر"، احتفالًا برفع العقوبات. لم يعبأ أحد في النظام السوري الجديد بتوضيح الأمر الذي أشعل حريقاً هائلاً في منصّات التواصل الاجتماعي، تضمن اتهامات إلى الحكومة بالخيانة والتنازل عن الجولان، فيما انبرى المدافعون عن النظام لتصوير المسألة على أنها خطأ في التصميم؛ وبالتالي لا معنى للصمت الرسمي هنا سوى أنه رضوخ آخر لمنطق القوة المتغطرسة من جانب الاحتلال، استجابة لاعتبارات "الوقوعية الجديدة" أمام الأمر الواقع الإسرائيلي.
هو الواقع نفسه، و"الوقوعية" ذاتها التي تجعل صفقة الغاز الطبيعي الكارثية التي تمنح الاحتلال تحكماً في طاقة مصر تمرّ بهدوء من دون أدنى مقاومة شعبية، إن على مستوى النخب أو الجماهير، وكأن ثمّة توافقاً عاماً على العجز عن أيّ فعل، واليأس من أيّ كلام.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق