الأحد، 21 ديسمبر 2025

حين اعتذر الطريق.. سيرة الفضيل بن عياض

 حين اعتذر الطريق.. سيرة الفضيل بن عياض

لم يولد الفضيل بن عياض في فراغٍ أخلاقي ولا في

 مدينة علمٍ عامرة، بل وُلد سنة (107هـ تقريبًا) في

 خراسان، في زمنٍ مضطرب، تتنازع فيه السلطةُ

 والقبيلةُ والطريقُ والتجارة. نشأ في بيئةٍ بعيدة عن

 مراكز العلم الأولى، ثم انتقل شابًا إلى الكوفة، حيث

 اختلطت السياسة بالفقه، والزهد بالفتنة، والعلم

 بالهوى.

تذكر كتب التراجم -كـ«سير أعلام النبلاء وحلية

 الأولياء»- أن الفضيل في شبابه كان قاطع طريقٍ

 مشهورًا بين أبيورد وسرخس، حتى صار اسمه

 مرادفًا للخوف في القوافل. ولم يكن مجرمًا هامشيًا،

 بل زعيم عصابة، صاحب سطوة، يعرف كيف

 يُطاع.

في ظلمات الليالي حيث تتهاوى الأقنعة، وتنكشف

 النفوس على حقيقتها، كان اسمه يُهمَس خلف الجدران

 لا يُعلَن في المجالس… الفضيل بن عياض. قاطع

 طريق تخشاه القوافل، وتُخيف به الأمهات أطفالهن.

 لم يكن لصاً بدافع الجوع، ولا قاطع طريقٍ بدافع

 الثأر؛ بل كان الذنب قد استوطنه حتى صار عادة،

 وصارت المعصية طريقاً، وصار الطريق اسماً له.

الليل كان رفيقه، والخوف كان رزقه يُوزعه على

 المارين.

اللحظة التي انكسر فيها السيف

تسلق جدار بيت في ليلة من ليالي القدر، لا ليصلي،

 بل ليسرق. وفجأة، من داخل البيت، انساب صوتٌ

 هادئ كالندى، صوت قرآن يتلو آية ليست له، حتى

 صارت له:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}

توقف الزمن. لم تسقط قدماه من على الجدار، بل

 سقطت كل جدران نفسه. 

قال كلمة واحدة، كلمة استسلام: 

«بلى يا رب… قد آن».

وما أروع لمسات القرآن الكريم حين تهتز بها القلوب

 في لحظة صفاء وصلاحية أجهزة الإستقبال في

 التواصل المباشر مع الروح والقلب، حينها تشرق

 الشمس من جديد. بلى يا رب قد آن .

لم يحتج إلى خطبة، ولا إلى ناصح. كان الذنب قد

 أنهك روحه، وكانت الآية آخر ضربة في جدار قلبه.

 نزل… ليس هارباً، بل معتذراً إلى الله بصمت.

الاعتذار الذي لم يُنطق

لم يقل الفضيل: “تِبتُ”. لم يقل: “غُفر لي”. بل فعل

 شيئاً أبلغ: غيّر طريقه. ذلك كان اعتذاره.

ترك الطرق، لكنه لم يترك الذكرى. صار كلما ذُكرت

 معصيته بكى، وكلما ذُكرت توبته ارتعد. كان يقول:

 «لو أن الله قبل مني سجدة، لوددت أن أموت بعدها».

 هذا ليس كلام زاهد يتظاهر، بل كلام رجل لا يزال

 يرى ظل ذنبه يقف خلفه.

حين صار الخوف علماً

صار الفضيل عالماً، لكن العلم لم يمحُ الانكسار من

 قلبه. كان إذا ذُكر الله شهق، وإذا ذُكرت النار ارتعد،

 وإذا ذُكرت الجنة خاف ألا يكون منها. قال تلاميذه:

 «ما رأينا أحدًا كان الله في صدره أعظم من

 الفضيل». لم يكن يخاف أن يُقال له “زاهد”، بل كان

 يخاف أن يُقال له “منافق”.

رفض الولاية: خوفاً على الدين لا فراراً من المسؤولية

عُرض عليه منصب القضاء. قيل له: أنت أهله. فقال:

 «إن استطعت أن لا تُعرف فافعل». ولما ألحّوا عليه،

 بكى وقال: «والله لأن أُضرب بالسياط أحبّ إليّ من

 أن أتولى القضاء».

لم يكن يفر من المسؤولية، بل كان يعرف كيف أفسدته

 المعصية، فخاف أن تفسده السلطة حتى باسم

 الصلاح.

موقفه مع الخليفة: نصيحة بلا مجاملة

دخل عليه الخليفة هارون الرشيد، لا بصولجان

 السلطة، بل بقلب يطلب النصيحة. فقال له الفضيل:

 «يا حسن الوجه، إنك مسؤول عن هذه الأمة… فاتق

 الله». وبكى. فبكى الرشيد.

لم يمدح، لم يطلب، لم يعتذر عن حدته. كان الفضيل

 قد اعتذر عن ماضيه، فلم يعد بحاجة إلى أن يعتذر

 لأحد في الحق.

مجتمع يراقب التائب ولا يتوب!

وأين نحن اليوم من هذه الروح؟ مجتمع يفرح بفضيحة

 التائب قبل أن يفرح بتوبته، ويصنع من خطاياه مادة

 للسمر، ولا يصنع من تجربته درساً للعبرة. 

كم من “فضيل” بيننا اليوم يريد أن ينهض، فتسحقه

 نظرات الشماتة، وتقتله ألسنة اللوم؟

مجتمع يطلب الكمال من الناس، وينسى أن الكمال لله

 وحده. مجتمع يريد المصلحين، لكنه لا يريد أن يرى

 الجروح التي عالجتها التوبة. إن الفضيل لم يخف من

 ذنبه القديم بقدر ما خاف من رياء المجتمع الجديد

 الذي قد يرفعه فوق منزلته، أو يهدمه دون رحمة.

دروس تربوية ثابتة

الاعتذار الحقيقي هو تغيير المسار، لا تغيير الكلام.

من عرف فساد نفسه خاف على صلاحه من فساد

 المنصب.

التوبة لا تمحو الذكرى، بل تجعل الذكرى حارساً

 للضمير.

ليس كل من صلح للعلم صلح للحكم.

أصدق الزهاد من يخاف القبول لا الرفض.

دروس للحركة الإسلامية المعاصرة: 

حين يكون الفضيل مرآة لا أسطورة

ليس الفضيل قصةً تُروى للتأثر العاطفي فقط، بل

 ميزانًا فكريًا وأخلاقيًا يصلح لأن يُوضَع أمام

 الحركات الإسلامية اليوم، لا لتقديسه، بل للاعتبار

 به.

1- التحول الحقيقي يسبق التمكين

الفضيل لم يبدأ بالدعوة، ولا بالتصدر، ولا بالمطالبة

 بالإصلاح العام. بدأ بإصلاح نفسه.

الحركات التي تقفز إلى السلطة قبل أن تُنقّي دوافعها،

 تُعيد إنتاج الاستبداد باسم الدين.ولم نرى دوافع غير

 اصلاحية من الحركات الإسلامية عندما تمكنت ولو

 لفترات قصيرة، بل كانت تسعى الى النهضة

 والتحرير والتغيير بعمق .

2- الخوف من الله أعلى من نشوة الجماهير

الفضيل خاف أن يُقال له: زاهد، أكثر مما خاف أن

 يُقال له: عاصٍ.

بينما كثير من العاملين اليوم يخافون فقدان الشعبية

 أكثر من فقدان الإخلاص.

3- ليس كل صالحٍ مؤهلاً للحكم

رفض الفضيل القضاء لا تهربًا، بل فقهًا.

وهنا درس قاسٍ: الصلاح الفردي لا يكفي لإدارة

 السلطة، ومن لم يعرف فقه المنصب أفسد الدين من

 حيث أراد خدمته.

ومن زاوية أخرى فإن في الحركة الإسلامية

 المعاصرة رجال دولة من طراز فريد يستطيعون

 إدارة الدول بمنظومة قيمية واضحة وثابتة وأخلاق

 وبناء دول قوية وعادلة ونهضة حضارية تتسع

 للجميع.

4- النصيحة لا تُقدَّم بلغة المساومة

لم يقل الفضيل للخليفة: أنت خير الناس، ولم يطلب

 إصلاحًا تدريجيًا يُرضي الجميع.

قال الحق وبكى. فبكى السلطان.

الحركات التي تُجمّل للسلطة أخطاءها تفقد دورها الرسالي، ولو

أخيرا: الاعتذار الذي صار حياة

لم يكتب الفضيل اعتذاره في رسالة، ولا ألقاه في

 محاضرة. لقد عاشه. ومن يوم قال «قد آن»، لم يعد

 كما كان، ولم يرد أن يكون.

ولهذا بقي اسمه حياً، لا لأنه كان عابداً فحسب، بل

 لأنه كان صادقاً مع الله قبل أن يكون صادقاً مع

 الناس.

موعظة في حراسة القيم: بين الرحمة والفوضى

ليس معنى الرحمة أن نُسقِط الحراسة، ولا معنى

 الستر أن نُطفئ المصابيح.

لقد تاب الفضيل في مجتمعٍ كان يعرف معنى الخطأ،

 ويعرف معنى الصواب، ويضع بينهما حدًّا أخلاقيًا

 واضحًا. لم يكن الناس معصومين، لكنهم لم يكونوا

 محتفلين بالمعصية، ولم يكونوا يسمّون الانهيار

 “حرية شخصية”.

إن أخطر ما يهدد المجتمعات اليوم ليس كثرة العصاة،

 بل تفكيك مفهوم القيم نفسه، حتى يصبح الناصح

 متهمًا، والمُذكِّر متطفلًا، والحارس الأخلاقي رجعيًا،

 بينما يُقدَّم المستهتر بوصفه شجاعًا، والمتفلّت بوصفه متحررًا.

المجتمع الذي لا يحرس قيمه، لا يرحم التائب، لأنه

 يسحب الأرض من تحت قدميه.

فكيف يتوب إن كان الخطأ لا يُسمّى خطأ؟

وكيف يعود إن كان الطريق قد مُسح، واللافتات

 أُزيلت، والهاوية سُمّيت خيارًا شخصيًا؟

إن دعوى “الحرية الشخصية” حين تُنتزع من سياق

 المسؤولية، تتحول من حقٍ إنساني إلى معول هدم.

 فالحرية التي لا تعرف حدود القيم، لا تُحرر الإنسان،

 بل تُفككه، وتُحوّل المجتمع إلى أفراد متجاورين بلا

 روح جامعة، ولا ضميرٍ مشترك.

شيوع الرذيلة في المجتمع وتداولها على نطاق

 إعلامي واسع لا يسوغ التماهي معها او الدفاع عنها

 من منطلق الحرية الشخصية.

لم يكن الفضيل بحاجة إلى مجتمعٍ يُصفّق لمعصيته،

 بل إلى مجتمعٍ يعرف أن ما كان يفعله خطأ، ليشعر

 بثقل الذنب، ثم بحلاوة التوبة.

ولو وُلد الفضيل في زمنٍ يُقال له فيه:

“عش كما تشاء، ولا شأن لأحد بك”

لربما مات قاطع طريق، ولم يولد الزاهد.

إن حراسة القيم ليست تجسسًا، ولا وصاية، ولا قهرًا للناس على التدين،

بل هي حراسة المعنى:

أن يبقى الخير خيرًا،

والشر شرًا،

والتوبة بابًا،

لا مادة للسخرية،

ولا استثناءً مُحرجًا في مجتمعٍ فقد بوصلته.

وحين يسكت المجتمع عن الانهيار الأخلاقي بدعوى

 “عدم التدخل”، فإنه لا يكون محايدًا، بل شريكًا.

فالحياد أمام الفساد ليس حيادًا، بل انحيازٌ صامت له.

الفضيل لم يطلب من الناس أن يُعصموا، بل أن يدلّوه

 على الطريق حين ضل،

ونحن اليوم لا نُطالَب بأن نُكره الناس على الطاعة،

بل أن نحرس الطريق من أن يُهدم،

حتى إذا أراد العائد أن يعود… وجد طريقًا يعود إليه.

فهل نتعلم من الفضيل كيف نكون مجتمعاً يرحم

 التائب، ويشجع المنيب، ولا يتحول إلى شرطي

 يحاسب على الذاكرة ولا على التغيير؟

الفضيل كان قاطع طريق فتاب، ونحن قد نكون

 قاطعي آمال وأحلام فمتى نتاب؟

توفي الفضيل سنة (187هـ)، ودفن في مكة، بعد أن

 انتقل من قاطع طريقٍ في الأرض، إلى دليلٍ على

 الطريق إلى الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق