ساري عرابي: الذين يواجهون القصف والموت والفقد ليسوا عناصر في معادلة
على مدار أكثر من عامين، كان الباحث والكاتب الفلسطيني المثقف، ساري عرابي، الأكثر تعبيراً عن فلسطين، وجهها الحقيقي، حزنها المقاوم للانكسار، وصوتها الأصدق في كل مداخلاته الإعلامية منذ اليوم الأول للطوفان، وحتى اعتقاله أمس من قوات الاحتلال الصهيوني في توغّلاتها في مدن الضفة الغربية وبلداتها.
صار الكاتب والباحث السياسي الفلسطيني والأسير المحرّر، ساري عرابي، خبراً يضاف إلى شريط الأخبار التي تمرّ سريعاً على الشاشات، بعد أن اعتقلته قوات الاحتلال فجراً، عقب مداهمة منزله في بلدة رافات شمال القدس المحتلة.
هو اعتقالٌ يصادف أهله تماماً، ذلك أن هذا الرجل بقي من القلائل الذين يقاومون خيانة المصطلحات والتعريفات، حين يعلق على الوضع الراهن أو يحلّله أو يدلي بدلوه في جدلية الاحتلال والمقاومة المشروعة، فلا يستسلم لغواية تصنيف مجتمع الاحتلال بين أشرار وطيبين، ولا يلهو على شواطئ الثرثرة الفارغة التي كانت تهذي بأن المجتمع الإسرائيلي شيء ونتنياهو شيئ آخر، ثم تطور الهذيان إلى الفصل بين نتنياهو وغلاة الصهاينة الدينيين، أمثال بن غفير وسموترتش، على أسس ساذجة افترضت في البدايات أن نتنياهو وفريقه الحكومي العقبة الوحيدة في طريق وقف العدوان، ثم راحت تسفسط بأن نتنياهو يريد التهدئة لكن الصهيونية الدينية هي العقبة.
لم يهتز ساري عرابي أو يتلعثم أو يخبئ آراءه في أغلفة لامعة من الهراء الذي لا يقول شيئاً، بل يتحدّث بعبارات شديدة الوضوح تسمّي الأشياء بأسمائها، وتعرّف العدو بالعدو، ولا تروّج سلاماً زائفاً كما يفعل الذين يسيرون مع اتجاه الريح.
ولذلك من الطبيعي أن يكون الهدف المناسب للاحتلال في عمله على حرق رواية أولاد الأرض الحقيقيين، بعد أن أحرق الأرض والشجر والحجر والإنسان.
في دراسة بديعة عن فلسفة المقاومة تحت عنوان "مقالةٌ في نقد التحليل السياسي المغلق والتصوّر الإيماني الرغائبي"، يحفر ساري عرابي عند الجذور، لينطلق من دروس معركة عين جالوت الخالدة، ويصل إلى اللحظة الراهنة، الطوفان وما بعد الطوفان، وتحت عنوان فرعي" المقاومة وظيفة": حفظ الإمكان في عالم قابل للانغلاق" يقول ساري عرابي: "ومن هنا، تتولّد فكرة "المقاومة وظيفة". ليست المقاومة "وسيلةً" لتحقيق غلبةٍ دنيويةٍ في تقويمٍ عاجل فحسب، بل "وظيفة" لحراسة شرطٍ أخلاقيٍّ للوجود؛ لولاها لتمدّد الباطل حتى يطبق على العالم؛ ﴿وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى العالَمينَ﴾.[13] هذه ليست صيغة وعظ، بل توصيف لنظام العالم، فالظلم قابلٌ للرسوخ إن تُرك بلا مدافعة، والحقّ لا يقوم بذاته دون فاعل بشريّ ينهض به، ولو لم تَعِد المدافعةُ بنتيجةٍ محددة. إنّ الامتناع التام عن المدافعة ليس حياداً، بل تسليم للباطل بشرعية الرسوخ. لذلك يصبح القيام بالفعل، حتى حين تُخطئ الحسابات أو تتعقّد النتائج، شرطًا لمنع انغلاق العالم في قبضةٍ واحدة. "ومع ذلك، فإنّ تأطير المقاومة بوصفها وظيفة؛ لا ينبغي أن يُفهم على نحوٍ يُضفي على معاناةِ شعبٍ ما، كأهل غزّة أو غيرهم ممن يقفون في خط المواجهة، معنىً تجريديّاً يجعل آلامهم مجرّد ثمنٍ مقبولٍ لحفظ توازنٍ عالميّ أوسع. فالمقاومة ليست تكليفًا تُحمّله فلسفة التاريخ لضيفٍ دائمٍ في جغرافيا واحدة، ولا تصنيفًا يُجزّئ البشر إلى "من يقوم بالوظيفة" و"من يجني ثمارها". إنما هي توصيفٌ بنيويّ لطبيعة العالم من حيث قابليةُ الظلم للتمدد، وقابليةُ الحقّ للاضمحلال إن لم يجد من يقيمه.
ويخلص إلى أن"الذين يواجهون القصف والموت والفقد ليسوا عناصر في معادلة، بل ذوات كاملة وحقوق كاملة، ولا يملك أحدٌ، لا نظريّاً ولا أخلاقيّاً، أن ينقل تبعة العالم إلى أكتافهم. وظيفة المقاومة، بهذا المعنى، لا تُشرعن دوام الألم، ولا تُحوّل تضحيات الناس إلى مادة في تفسير كونيّ، بل تُذكّر بأن الواجب موزّع على البشر بقدرهم وسعتهم، وأن دور المجتمعات والدول والعالم كلّه تخفيفُ الكلفة عن الذين يُضطرون إلى حمل النصيب الأكبر من المواجهة، لا تبرير تحمّلهم لها. هنا يصبح مفهوم الوظيفة جزءًا من نقد الحتميّات، لا صيغةً تُخفّف من ثقل الدم والدمار، لأن الاعتراف بتركيب العالم لا يلغي حق البشر في الحياة الكريمة ولا يجوز أن يُعطّل الالتزام الأخلاقي والسياسي بمساندة المقهورين وتخفيف المعاناة عنهم. الحرّية لساري عرابي..الحرية لفلسطين.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق