بين حب الذات والنرجسية: أفراد ومؤسسات
محمد صالح البدراني
مقدمات
عندما تنخفض معايير القيم والصرامة داخل النفوس، تنطلق الغرائز والحاجات بلا ضوابط لتؤذي أول ما تؤذي نفس الإنسان ذاته، فالنرجسية مرض صامت يضيع من المبتلى به كثيرا من فرص التعامل مع أناس طيبين ويوقعه في العدمية، والموضوع ككل مهم لمن يسعى لفهم أعماق النفس البشرية، وتأثيرها في المجتمع، والعلاقات، والعدالة.
النرجسية خلل بنيوي
الرجل النرجسي يفقد المروءة ولا يكون جدار أمان، والمرأة النرجسية أول ما تفقد الأنوثة، فلا يعوض الرجلَ مالٌ ولا جاه ولا أي شيء لأنه يعرف نفسه عند هذا الحد وتتعاظم النرجسية عنده لتظهر كاستخفاف أو خفة.
المرأة لا تستعيد أنوثتها بكل أنواع التجميل أو التحول الذي يزيد الطين بِلة عندما يكون الانجذاب لهذه الصورة التي تنكرها هي داخليا، وليس فيها كإنسان، وشتان بين ما يستثير الإنسان كغريزة النوع أو التقييم العقلي الذي يتحول مهابة للإنسان الذي يستحق الإعجاب، فهنالك فرق في مكان التأثر عند الآخرين والقرار أيضا، فالغرائز تتفاعل في الفؤاد أو المخيخ، لكن التقييم العقلي ونواتجه ففي لب الإنسان وموطن عقله للأمور.
لمحات من الفرق الفلسفي بين حب الذات والنرجسية
العلاقات تموت -الصادق منها بالذات- مع النرجسية، لأنها تدفعه إلى قراءة العلاقات من زاوية ضيقة، زاوية المنفعة لا المشاركة، ولذا فهو يتخلى عن الصديق حين يشعر بأن العلاقة لم تعد تمنحه التثبيت الذي يحتاجه، ويستخدم الذكاء العاطفي بطريقة ملتوية ليحافظ على صورته، لا ليعطي الآخرين ما يستحقون من ودّ واهتمام.
أما حب الذات الطبيعي، فهو وعي يتيح للإنسان أن يعرف قيمته دون أن يُلزم العالم أن يعترف بها، ويمنحه القدرة على النقد الذاتي دون خوف، وعلى الاعتذار دون أن يشعر أنه ينهار، الفارق بين حب الذات والنرجسية ليس حجم الاهتمام بالذات، بل طريقة بنائها، حب الذات يبني إنسانا واضح المعالم، قادرا على العلاقة وعلى الاعتراف وعلى التوازن، أما النرجسية فتبني واجهة تحتاج صيانة مستمرة، وتبريرا للتناقضات في العقلية والنفسية، وتجعل صاحبها أسير صورته.
حب الذات الطبيعي يتأسس على إدراك عميق للحدود، فصاحبه يعرف ماذا يستطيع، وماذا يعجز عنه، ويقبل ذلك بلا ضجيج، وهو لا يرى في الآخر تهديدا لوجوده، بل شريكا يكمل به العالم، ولذا فهو قادر على بناء علاقة مستقرة، لا تنكسر مع أول خلاف، ولا تتقلب مع أول لحظة انزعاج.
أما النرجسية فهي علاقة مختلة مع الذات قبل الآخر، علاقة تقوم على صورة مُتخيّلة أكثر مما تقوم على حقيقة، فالنرجسي لا يحب ذاته، بل يحب انعكاسها عليه، ويطلب من الناس أن يثبتوا له ما لا يستطيع تثبيته داخل نفسه، وكلما اهتزّ الخارج اهتزّ هو، لذلك يبدو واثقا لكنه هش، ولامعا لكنه قلق.
من هنا يظهر الفارق الجوهري: حب الذات يحرر الإنسان بينما النرجسية تستعبده، الأول يبني توازنا، والثاني يبني قلقا متضخما، طبعا لا أنصح أن يبدأ القارئ بمقارنة ومعارفه، فهذا منحدر زلق يقود إلى المرض، فالمواقف مَن تحكم على الصديق فيكون صديقا لا يحتاج إلى إثبات أهلية.
النرجسية على مستوى الفرد
يظهر الفرد النرجسي عادة بثلاث صفات مركزية، 1- حاجة مفرطة للإعجاب، 2-شعور متضخم بالأهمية الذاتية، 3- افتقار للتعاطف الحقيقي مع الآخرين، وقد يرد على نصحك بدل شكرك أنه يعرف ما نصحته به. هذه الصفات لا تُقرأ كسماتٍ منفصلة، بل كشبكة تشكل رؤية النرجسي للعالم، فهو يضع ذاته كمرجع لكل شيء، ويُعيد تأويل الأحداث بطريقة تخدم صورته الذاتية مهما كان الثمن، وعلى عكس ما قد يبدو، لا ينبع هذا السلوك من ثقة راسخة بالنفس، بل من هشاشة داخلية تدفعه إلى طلب التثبيت الخارجي بلا توقف.
من آثار النرجسية على الفرد أنه يعيش صراعا دائما بين وهْم التفوق والخوف من الانكشاف، قد ينجح في بناء واجهة لامعة، لكنه ينهار بسهولة أمام أي نقد حقيقي، كما أن علاقاته غالبا ما تكون مشروطة بقدر ما يقدمه الآخرون من دعم لصورة الذات، لا بقدر ما يقدمه هو من تفاعل إنساني، وحين يواجه النرجسي فشلا ما، يميل إلى إلقاء اللوم على الظروف أو على الأشخاص المحيطين، لأن الاعتراف بالخطأ يهدد بنيته النفسية كلها.
في البيئة المريضة يصبح النجاح عرضا بصريا لا حقيقة داخلية، تنتشر لغة التفاخر، ويصبح الاستهلاك وسيلة لتعويض الشعور الداخلي بالنقص، ويؤدي هذا إلى تفكك الروابط الاجتماعية والقيمية، إذ تتحول العلاقات من كونها روابط متوازنة إلى ميدان للتفوق الوهمي غالبا؛ لأن المرض إن أصاب مجتمعا يجعله متأرجحا في الوهم وأسهل انقيادا للمغامرين. النرجسية لا تؤذي الآخرين فقط، بل تؤذي صاحبها أيضا، فهي تحرم الشخص من العلاقات العميقة، وتضعه في حالة دفاعية مزمنة، وتدفعه إلى البحث عن الاعتراف من مصادر متقلبة، وفي النهاية يجد نفسه عالقا في دائرة الاضطراب العاطفي مهما بدا متماسكا من الخارج.
النرجسية في المؤسسات
حين تتسرب النزعة النرجسية إلى المؤسسات، وخاصة تلك المعنية بالقرار السياسي أو الاقتصادي، تظهر نتائج خطيرة، يصبح القائد النرجسي منشغلا بتثبيت صورته أكثر من اهتمامه بحل مشكلات الواقع، يستبدل التخطيط العميق بالشعارات، والإنجازات الحقيقية بالاستعراضات، وعلى المدى البعيد تقع المؤسسات في فخ القرارات المتسرعة، والفساد المؤسسي، وانعدام الثقة بين أفرادها.
أما في بيئة العمل، فالنرجسية تُولد ثقافة خانقة، الموظفون يشعرون بأن الجهد غير معترف به، وأن النجاح يُنسب دائما للفرد المتصدر، بينما تُلقى الأخطاء على الفريق، هذه الديناميكية تخلق بيئة طاردة للمواهب، لأن المبدعين لا يجدون مساحة للنمو في ظل احتكار الأضواء.
نحو فهم واقعي
التعامل مع النرجسية لا يعني شيطنة كل شكل من أشكال الاعتزاز بالذات، فهناك مستوى صحي يجب أن يمتلكه الإنسان كي يحمي نفسه ويحقق أهدافه، لكن المشكلة تبدأ حين تتحول الذات إلى مركز الكون، وحين يصبح كل ما حول الإنسان مجرد مرآة تُستخدم لتمجيد صورته.
العلاج يبدأ بالوعي، وعي الفرد بميله إلى تضخيم ذاته، ووعي المجتمع بخطورة تحويل التفوق الظاهري إلى قيمة مركزية، ومن الخطوات المهمة أيضا تعزيز ثقافة مصارحة الذات وتحمل المسؤولية، وتشجيع النقد البنّاء، وإعادة الاعتبار لفكرة الإنجاز الهادئ لا الصاخب.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق