ترامب وجيفارا والمارشال مرعي وصفقة الغاز
يتقمّص دونالد ترامب شخصيّة الثائر العظيم أرنستو تشي غيفارا، ويستولي على خطابه، ثم يعلن نفسه قائد حركة تحرّر وطني مقرّها البيت الأبيض وحوله مجموعة من الرفاق المناضلين يطلقون صيحة الثورة على هذا العالم الأوّل الظالم الذي يجور على حقوق الشعب الأميركي المسكين.
نحن بحاجة إلى أن نلغي عقولنا وننسى كلّ ما عرفناه من تاريخ النضال الثوري، حتى نقتنع بأنّ الرئيس الأميركي صار مثل جيفارا، يخوض غمار ثورة عالمية ضدّ الإمبريالية الفنزويلية والاستعلاء الكولومبي اللذين يستهدفان الشعوب المقهورة، ويمنعانها من نيل حرّياتها واستقلالها الوطني، تماماً كما أنّنا في احتياج شديد للتخلّي عن عقولنا وضمائرنا لكي نصدّق رئيس هيئة الاستعلامات المصرية، ضياء رشوان، حين يقول إنّ صفقة الغاز الضخمة التي تَفَضّل بنيامين نتنياهو ووافق عليها أخيراً مقابل 35 مليار دولار تدفعها مصر، مسألة اقتصادية تجارية بحتة لا تحمل أيّة أبعاد سياسية أو اعتبارات تتعلّق بترتيبات جيوسياسية في الشرق الأوسط كلّه.
يقول ترامب في البيان الصادر عن "حركة ثوار البيت الأبيض التحرّرية" إنّ دولة فنزويلا منظّمة إرهابية. وبناءً عليه، فإنّه وفق نصّ كلمات البيان المُقتضب، "فنزويلا محاطة بالكامل بأكبر أسطول حربي تم تجميعه على الإطلاق في تاريخ أميركا الجنوبية. هذا الأسطول سيزداد حجماً فقط، والصدمة لهم ستكون غير مسبوقة، حتى اللحظة التي يعيدون فيها للولايات المتحدة كل النفط، والأراضي، والممتلكات الأخرى التي سرقوها منا في الماضي".
لم نسمع في الماضي أو في الحاضر أنّ فنزويلا كانت قوّة عالمية جبارة ذات أطماع وطموحات إمبراطورية ما جعلها تغزو الولايات المتحدة وتقتطع مساحات من أراضيها وتستولي على نفطها وممتلكاتها، غير أنّ مقتضيات حبكة الدور التي دفعت الرئيس الأميركي، تاجر الحروب، لكي يتقمّص شخصية الزعيم المناضل الذي يقود ثورة الشعب الأميركي ضدّ الهيمنة الفنزويلية، ويتوعّد منطقة الكاريبي بالجحيم إن لم تركع، شعوباً وحكومات، تحت أقدام الحلم الأميركي بالتخلّص من طغيان الإمبراطوريات اللاتينية المتوحّشة على حقّ شعوب الدول المسالمة الوديعة، مثل أميركا، في امتلاك قرارها الوطني ونفطها ومواردها الطبيعية.
يعادي ترامب فنزويلا ويتحرّش بكولومبيا، انطلاقاً من تناقضه السياسي والأيديولوجي والحضاري الكامل معهما، وهو العداء الذي يتأسّس على موقف حكومتي الدولتين من حرب الإبادة الإسرائيلية الأميركية على الشعب الفلسطيني في غزّة، فكيف عبّر دونالد ترامب عن هذا التناقض أو العداء يا سيد ضياء رشوان؟
ببساطة شديدة ووضوح كامل، عبّر عن العداء السياسي بالإجراءات الاقتصادية، من خلال فرض الحصار والمُقاطعة الاقتصادية وممارسة عمليات قرصنة إجرامية على السفن والمراكب المُحمّلة بالنفط والبضائع، واستخدام ترسانة الأسلحة الأميركية في قصف هذه الأهداف الاقتصادية والتجارية الفنزويلية.
تحدّث ترامب بلغة الاقتصاد في معركة السياسة، مثل دول الاتحاد الأوروبي التي فرضت حظراً شاملاً على النفط الروسي، ومنعت التجارة مع موسكو، وقاطعتها اقتصادياً ورياضياً وثقافياً، في سياق الحرب السياسية الأوروبية على فلاديمير بوتين، على قاعدة التبنّي الأوروبي الكامل موقف أوكرانيا في صراعها السياسي والعسكري مع روسيا، ولم يخرج مسؤول أوروبي واحد يثرثر بأنّ الاقتصاد مُنفصل عن السياسة أو يدّعي أنّه يصح، منطقاً وأخلاقاً، أن تمضي العلاقات والصفقات التجارية مع روسيا في مسارها الاعتيادي، من دون أن يؤثّر عليها الصراع السياسي.
لم تكن مسألة الفصل بين السياسي والاقتصادي هذه يوماً حاضرة في أيّ صراع بين دولتين أو معسكرين، ذلك أنّ أوّل ما تفكّر فيه الأطراف المتصارعة هو استخدام الأدوات الاقتصادية وممارسة الضغوط التجارية، قبل الذهاب إلى المواجهة العسكرية، بما يعني أنّ لغة الصفقات ومفردات التعاون التجاري والاقتصادي لا تأتي إلا حين تكون الأجواء صافية وهادئة بين الجبهتين، وغير ذلك هو الملهاة أو الكوميديا الفاقعة، على طريقة حرب المارشال مرعي، الذي كان قرصاناً يغير على قرية في فيلم شهير للفنان عادل إمام بعنوان "شمس الزناتي"، فتستغيث القرية بمن يتصدّى للغزو ويدخل في حرب طاحنة مع المارشال يقطعها مشهد كوميدي يتبادل فيه قائدا الفريقين المُتحاربين السجائر وأكواب الشاي، ثم يستأنفان القتال.
وبما أنّنا في مرحلة شديدة المأساوية يكابد فيها الشعب الفلسطيني الموت جوعاً وبرداً وقصفاً صهيونياً، فأغلب الظن أنّه لا مجال هنا لكوميديا "المارشال مرعي" في المواجهة الأخلاقية والحضارية التي يخوضها كلّ الأحرار والنبلاء في العالم ضدّ همجية العدوان الصهيوني، من خلال دعوات المقاطعة الاقتصادية والرياضية والثقافية، إنْ على المستوى الثنائي أو الجماعي، وبالتالي، استئناف الصفقات التجارية مع هذا الاحتلال موقف له اعتبارات سياسية مهما أقسم "المارشال" على عكس ذلك.
مرّة أخرى، ولن تكون أخيرة، الأسوأ من التبعات الاقتصادية والسياسية لفضيحة استيراد وإسالة الغاز الإسرائيلي في مصر هو إسالة المفاهيم الوطنية والأخلاقية، الأمر الذي يتحوّل معه تعريف الوطن من كيان مقدّس، زمانياً ومكانياً، إلى ما يشبه الأكشاك على الطرق السريعة، يبحث عن الربح، بأيّ وسيلة، وتحت أيّ شرط، بدلاً من البحث عن المجد والعزّة والكرامة الوطنية.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق