الخميس، 12 سبتمبر 2013

مراجعة كتاب "الحالة الليبرالية في مصر"


مراجعة كتاب 
"الحالة الليبرالية في مصر"


المصدر: مركز نماء للبحوث والدراسات:

الكتاب: الحالة الليبرالية في مصر

المؤلف: طارق عثمان

عدد الصفحات: 99 صفحة من القطع الكبير

الناشر: المركز العربي للدراسات الإنسانية- القاهرة، 2012

مقدمة:

تمرّ منطقة الشرق الأوسط بحالة من التحول الجذري، بفعل موجة الانتفاضات/الثورات التي اجتاحتها بدءاً من تونس في نهايات العام 2010، حتى سوريا، مروراً بمصر، لبيا، واليمن. تلك الحالة التي اُصطلح عليها "بالربيع العربي".

وبالرغم من كون انعكاسات هذه الحالة لم تتبلور بعدُ في صورة نهائية، إلا أنه ثمة تغيرات قد تشكلت حتى الآن؛ لعل أهمها سقوط عدد من الأنظمة السلطوية، التي كانت مسيطرة بصورة تامة على المجال العام في بلدانها، في المستوى السياسي والثقافي. ومن ثمّ، راحت الحركات المجتمعية (social movements) الفاعلة في المجتمعات التي قامت فيها هذه الثورات تطفو على سطح المجال العام، بعدما كانت محبوسة تحت سطوة النظام السلطوي، لتتفاعل فيما بينها سياسياً وثقافياً.

وتعتبر الحالة المصرية مثالاً نموذجياً على تفاعل الحركات المجتمعية في المجال المصري، بعدما سقط نظام حسني مبارك. وامتازت هذه التفاعلات بقدر عالٍ من الاستقطاب الأيدولوجي، بين تيار إسلامي وآخر مدني/علماني.

وقد تبلور التيار الإسلامي في عدد من الكيانات المجتمعية/السياسية، لعل أهمها: جماعة الإخوان المسلمين، والقوى السلفية. أما التيار المدني/العلماني، فقد تبلور هو الآخر في عدد من الكيانات لعل أهمها: التيار اليساري، والتيار الليبرالي.

من هنا تأتي أهمية دراسة تلك الحركات المجتمعية/الفواعل السياسية، دراسة علمية موضوعية، تفارق نمط التعاطي الإعلامي الصاخب، المسكون بالهجاء والنقد، كما هو مسكون بالدعاية ولغة الشعار، هذا التعاطي الذي يقتضيه التنافس السياسي بين هذه الحركات، وحالة التمركز الأيدولوجي. هذه الدراسة الموضوعية ستسهم في فهم منطلقات تلكم الحركات، ومن ثمّ فهم ممارساتها السياسية، مما يساعد الوعي الجمعي على فهم أكثر وضوحاً للمشهد السياسي المصري. وكذلك إثراء الوسط البحثي والأكاديمي بدراسات علمية عن هذه الحركات المجتمعية.

في هذا الإطار، تأتي أهمية الدراسة الصادرة عن المركز العربي للدراسات الإنسانية-القاهرة، 2012، والموسومة بـ: "الحالة الليبرالية في مصر" للباحث "طارق عثمان". والتي حاول فيها أن يقدّم مقاربة للحالة الليبرالية المصرية. ونسعى لتقديم قراءة لهذه الدراسة، التي تقع في مقدمة وخاتمة وفصلين.

سؤال المنهج:

في المقدمة، تحدّث الباحث عن أهمية موضوع الدراسة، ومشكلتها البحثية، ثم وضع مجموعة من الافتراضات التي يروم اختبارها. كما أنه رسم المسار المنهجي، الذي سيعتمده في دراسة الحالة الليبرالية المصرية:

- اعتمدتْ الدراسة على المنهج التاريخي، حيث تناولت الحالة الليبرالية بتقسيمها على ثلاث مراحل زمنية متتابعة: مرحلة الرواد الأوائل، ثم مرحلة تبلور الفكر الليبرالي في مصر، ثم مرحلة الليبرالية المعاصرة.

- صرح الباحث أن الدراسة ستسلك مسلكاً وصفياً تحليلياً، لا مسلكاً نقدياً، ومن ثمّ لم تنشغل الدراسة بالسجال المعرفي مع "العقل الليبرالي" المصري، ولم تتعرض إلى نقد ممارساته الاجتماعية (السياسية). وذلك لأن هدف الدراسة قد تحدد في: رسم خريطة معرفية (cognitive map) للحالة الليبرالية المصرية، بتوضيح الإطار المرجعي للفكر الليبرالي، ودراسة الظاهرة الليبرالية المصرية، بكل تضاريسها وأبعادها، عن طريق تحديد الأعلام المؤسِسة والمتبنية للفكر الليبرالي، وكذلك المؤسسات المجتمعية (وسائل إعلامية، وأحزاب سياسية) المنطلقة من الفكر الليبرالي كمرجعية لها.

- خطّ الباحث لنفسه منهجاً سيعتمده في تحديد مكونات الحالة الليبرالية: وهو الاكتفاء بمجرد انتساب الرمز/المؤسسة للفكر الليبرالي، بغض النظر عن مدى صدقية تمثّل هذا المكون الليبرالي (الشخص/ المؤسسة) لليبرالية كنسق فلسفي، وتقليد فكري، والذي دفع الباحث لهذا المسلك الإجرائي، كما يقول: كون الليبرالية في مستوى النظر أو مستوى الممارسة، تتسم بقدر كبير من "السيولة"، بحيث لا يمكن بسهولة تحديد الليبرالي من غير الليبرالي؛ فكل من ينتسب إلي الليبرالية يراها من منظور خاص به، وكذلك بسبب تعددية التطبيق الليبرالي، في مستوى الممارسة الاجتماعية (سياسياً، واقتصادياً)، وعليه يصعب وضع حزمة من المعايير الثابتة التي يمكن الاعتماد عليها في تحديد مكونات الحالة الليبرالية.

أولاً: الليبرالية الأسس

في الفصل الأول من الدراسة، قدم الباحث مدخلاً نظريا للموضوع، سعى فيه لمقاربة الليبرالية كتقليد فكري. وقد أنجز هذه المقاربة من خلال البحث في محورين: الأول يتمثل في محاولة البحث عن مفهوم الليبرالية. أما الثاني فيتمثل في محاولة البحث في الأسس الفلسفية للتطبيق الليبرالي في الحقل السياسي والاجتماعي.

وقد اعتمد الباحث في هذا السياق على أطروحة المفكر المغربي "د. الطيب بوعزة"، الموسومة بـ: "نقد الليبرالية"، وهي أطروحة جادة أنجزت مقاربة عميقة للتقليد الليبرالي، متجاوزة للأدبيات الشائعة عنه في الوسط الثقافي العربي.

الليبرالية: مفهوم مراوغ

في سياق البحث عن مفهوم الليبرالية كنسق فلسفي، يمكننا أن نقبض على الخُلاصات التالية:

- ثمة مصطلحات لا يمكن أن نعتمد المقاربات المعجمية واللغوية، كسبيل نصل به إلى تحقيق وعي ناجز عن ماهيتها المعرفية، تمثل معظم المصطلحات الفكرية والسياسية مثالاً واضحاً على هذه المقولة؛ ويرجع ذلك لكونها ليست دوالَّ لفظية يمكن مقاربتها على أرض المعجم، وإنما هي مصطلحات مرهونة بسياقات تاريخية، وشروط اجتماعية قد عملت على بلورتها وتكوينها في الواقع. ومن ثمّ، فهذه المصطلحات (الليبرالية كأنموذج) تتجسد واقعاً ممارسَاً، قبل أن تستقر على هيئة مصطلح بين دفتي معجم.

- المقاربة المعجمية لمصطلح الليبرالية، تتسبب في الخلط بين مصطلح الليبرالية، كنسق فلسفي أو مذهب اقتصادي، أو قل أيديولوجيا، وبين الحرية، كمثال إنساني؛ وذلك لكون دالّ الليبرالية (liberalism) مشتقاً من دالّ الحرية، وعليه يتم تسويق الليبرالية بوصفها مذهبَ الحرية.

- الليبرالية كنمط حياة (والموجود قبل أن تستقر كمصطلح دال على نسق فلسفي) عملت مجموعة من الشروط السوسيو-تاريخية على إنتاجها: تتمثل هذه الشروط إجمالاً في تغيرات عصر النهضة الفكرية والمجتمعية، أما المتغيرات الفكرية: فتتمثل في تجاوز الوعي الأوروبي للنسق المعرفي المفروض من الكنيسة، إلى أنساق أخرى (أهمها الثقافة اليونانية). هذا الانفتاح كان عاملاً هاماً لاستحضار مثال الحرية لهذا الوعي، إذ ذاق معنى الانعتاق من سجن النسق الكنسي. أما فيما يخص المتغيرات المجتمعية: فتتعلق بالانتقال من الاعتماد على الزراعة إلى الصناعة، ذاك الانتقال الذي استلزم السعي إلى تحرير العبيد من الإقطاعيات، لنقلهم إلى المصنع لتشغيل الآلة. هنا بدأ الوعي يستحضر مثال الحرية، كيما يوظفه في عملية الانتقال هذه.

- بعد هذه الاحترازات المنهجية تبنى الباحث التعريف الأولي الذي صاغه الطيب بوعزة وهو: "الليبرالية فلسفة/فلسفات، اقتصادية وسياسية، ترتكز على أولوية الفرد بوصفه كائناً حراً".

الليبرالية السياسية: الأسس الفلسفية

في سبيل البحث عن ماهية التقليد الليبرالي، حاول الباحث أن يحدد الأسس الفلسفية التي انبنى عليها التطبيق الليبرالي في الحقل السياسي، وقد حددها في:

2-1 فصل الأخلاق عن السياسة:

وهو المبدأ الذي أرساه فيلسوف فلورنسا "نيقولا ميكيافيلي"، والذي يُعد نصه "الأمير" تأسّس لتناول السياسة بصورة جديدة، بعيده عن تناولها الأرسطي، والأفلاطوني، بوصفها فعلاً ينزع للمثالية لتجسيد القيم والأخلاق في المجتمع، حيث نزع ميكيافيلي عن مبحث السياسة هذه الغلالة الأخلاقية و القيمية، ليتم تناولها بطريقة واقعية تبحث في الغايات والوسائل الناجعة في تحقيقها، دون الالتفات لمقولات الأخلاق أو القيم (الغاية تبرر الوسيلة).

* الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي:

وهو المبدأ الذي أرساه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، ثم طوره مواطنه الفيلسوف الليبرالي الأهم جون لوك، ومن بعده الفرنسي جان جاك روسو. حيث تم الانتقال بهذا المبدأ من وضعية القرون الوسطى في الحكم (الحق/التفويض الإلهي)، نحو تأسيس "المجتمع المدني". قدم الفلاسفة الثلاث تنظيراً للحالة الطبيعية للاجتماع البشري على اختلاف بينهما (هوبز ولوك) في رؤيتهما للحالة الطبيعية: هل هي حالة حرب الجميع ضد الجميع (هوبز)، أم إنها حالة عدالة ومساواة (لوك)، وعليه تنوعت نظرتهما لطريقة ضبط المجتمع، هوبز مال إلى نظرية الدولة التنين، بينما راح لوك وبعده روسو ينظران للعقد الاجتماعي، الذي سيؤسس للمجتمع المدني حيث تُحترم حرية الأفراد المضمونة لهم من خلال الحق الطبيعي، وحالة الطبيعة اللوكية (نسبة لجون لوك).

* الفصل بين السلطات:

الأساس الثالث الذي انبنت عليه النظرية الليبرالية في السياسة، يتمثل في مبدأ الفصل بين السلطات. ويعتبر لوك هو أول من نظّر لهذا المبدأ؛ فهو يعتبر أن "الفرد" في الحالة الطبيعية يتمتع بحقين: الأول هو حق اتخاذ القرار، وهو ما يمكن تسميته بالسلطة التشريعية. أما الحق الثاني فهو حق تنفيذ القرار، وهو ما يمكن تسميته بالسلطة التنفيذية.

ومن ثمّ عندما انتقل المجتمع من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني انتقل الحقان من الفرد إلى الإرادة العامة، وفقا لمبدأ العقد الاجتماعي، كان لابد من الفصل بين السلطتين منعاً للاستبداد. ثم جاء من بعد لوك الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو ليطور هذا المبدأ، متخذاً من النمط البريطاني للحكم الملكي منطلقاً لتنظيره لأهمية الفصل بين ثلاث سلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ليصير هذا المبدأ مقولة أساسية في النظم السياسية المعاصرة.

الليبرالية الاقتصادية: الرأسمالية/ اقتصاد السوق

الليبرالية كتقليد فكري يتبدى تطبيقه في المجال الاقتصادي أوسع من تبديه في أي مجال آخر (سياسي/ ثقافي)؛ وذلك لارتباط الليبرالية بالطبقة البرجوازية، التي اتخذت منها أيديولوجية لها. حيث توفر الأسس الليبرالية: الفردية والحرية، الغطاء الفكري للممارسة البرجوازية، التي تقدس حق وحرية التملك الفردي.

اتسم التطبيق الليبرالي في المجال الاقتصادي بقدر كبير من التعددية، ومحدد هذه التعددية هو مدى السماح لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وبناءً على هذا المحدد انبثقت ثلاث نسخ من التطبيق الاقتصادي للتقليد الليبرالي:

3-1- اللببرالية الكلاسيكبة:

وهي النسخة الأولى من التطبيق الليبرالي في الحقل الاقتصادي. وقد تبلورت على يد كل من آدم سميث، ريكاردو، ومالتوس. تدعو هذه النسخة إلى إبعاد الدولة تماماً عن النشاط الاقتصادي، معتمدة على مقولة "اليد الخفية" التي تضمن سير العملية الاقتصادية في اتجاه تحقيق الخير للجميع، بدون تدخل الدولة.

الكينيزية:

النسخة الثانية من التطبيق الليبرالي، وهي بمثابة تعديل لليبرالية الكلاسيكية، والتي تسببت في أزمة الكساد الكبير في عشرينيات القرن العشرين. وهي تدعو للسماح للدولة بالتدخل في العملية الاقتصادية.

* الليبرالية الجديدة:

وهي النسخة الأخيرة والتي تمثّل الخلفية الفكرية لسياسات العولمة، واقتصاديات السوق المفتوح، والشركات العابرة للقارات. وهي انقلاب على الكينيزية، ودعوة لغل يد الدولة عن التدخل في النشاط الاقتصادي. تم بلورة هذه النسخة على يد ميلتون فريدمان وفريدريك هايك وغيرهم من أساتذة الاقتصاد في جامعة شيكاغو. وتبناها كل من الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، ورئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر.

ثانياً: الليبرالية في مصر: المسار التاريخي للظاهرة

في الفصل الثاني من الدراسة قام الباحث برسم خريطة معرفية للظاهرة الليبرالية في مصر، من خلال تتبع مسارها المجتمعي مستخدماً منهجا تاريخياً؛ حيث قسم مسار الظاهرة إلى ثلاث مراحل تاريخية، في كل مرحلة يتناول أهم مكونات الحالة الليبرالية من الرموز الفكرية و المؤسسات الاجتماعية (الأدوات الإعلامية والأحزاب السياسية).

* جذور الليبرالية: التيار الإصلاحي:

في المبحث الأول من هذا الفصل تناول الباحث بدايات تعرف الوعي العربي/المصري على المنتج الليبرالي، والذي تم من خلال الاحتكاك المادي المباشر مع الحملة الفرنسية على مصر في 1798؛ حيث تمّ إدراك الوعي العربي لمدى الفارق الحضاري بينه وبين أوروبا.

ومن ثمّ راح ينشغل بالبحث عن جواب لهذا السؤال الأثير: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ وقد اقتضى هذا الانشغال أن ينفتح على المنتج الفكري الغربي والذي كان حينها متمثلاً في التقليد الليبرالي؛ حيث كانت الليبرالية قد تبلورت في نسق فكري ناجز، بينما باقي الأفكار كانت مجرد هوامش نقدية لم تتبلور بعد كأنساق.

وقد تمت عملية التعرف هذه على يد التيار الإصلاحي والذي كانت أبرز رموزه:

· جمال الدين الأفغاني

· خير الدين التونسي

· رفاعة الطهطاوي

· محمد عبده

وفي هذا المبحث تناول الباحث ثلاث شخصيات (الأفغاني، الطهطاوي،وعبده) لكونها تعبر عن الحالة المصرية. ولم يكن قصده من هذا التناول أن يترجم لسيرة الأعلام الثلاثة، أو يقدم دراسة عن منتجهم الفكري، وإنما كان قصده مقتصراً على بيان مدى حضور الفكر الليبرالي في متونهم الفكرية، ومن ثمّ بيان مدى تأثيرهم في الظاهرة الليبرالية المصرية.
وقد خَلُص الباحث إلى الآتي:

- قامت شخصيات هذه المرحلة (التيار الإصلاحي) بإدراج مفردات الفكر الليبرالي في البنية الثقافية العربية، وسعت نحو "تبيئة" هذه المفردات وتوطينها فيها عن طريق تأصيلها إسلامياً؛ فالديمقراطية هي الشورى، والوطنية هي حب الأوطان، وهكذا في باقي مفردات الفكر الليبرالي. وبالتالي لم تتبنَّ هذه الرموز الفكر الليبرالي كنسق ناجز أو تقليد فكري يجب تطبيقه، وإنما اكتفت بتهريب مفرداته.

- ما شد هذه الرموز هو المدنية الأوروبية في جانبها الاجتماعي عامة والسياسي خاصة، بينما الجوانب المتعلقة بالموقف من الدين لم تتقبلها إطلاقاً بل اشتغلت بنقدها (الأفغاني ورده على الدهريين).

- ومن ثمّ يرى الباحث أنه من المفارق للموضوعية أن يُتخذ هذا الجيل مرجعاً للفكر الليبرالي في مصر، إذ يتعامل معهم الليبراليون المعاصرون على أنهم الآباء المؤسسون لليبرالية المصرية؛ وذلك لكونهم لم يتبنوا الليبرالية كفلسفة، بل لا نكاد نظفر بمصطلح الليبرالية في متونهم الفكرية! وإنما هم انبهروا بالمدنية الأوروبية ونقلوا بعض المفاهيم والمفردات الليبرالية (كمفاهيم مطلقة وقيم لا بوصفها نسقاً فلسفياً) إلى الفضاء الثقافي الإسلامي.

الجيل الثاني: مرحلة التأسيس

في المبحث الثاني من هذا الفصل تناول الباحث كلّاً من الرموز الفكرية والمؤسسات المجتمعية المعبرة عن الفكر الليبرالي في هذه المرحلة.

فيما يخص الشخصيات الليبرالية فقد تحدث عن كل من:

· أحمد لطفي السيد

· قاسم أمين

· طه حسين

وبحسب منهجه لم يكن غرضه أن يترجم لتلكم الشخصيات، أو يدرس متونهم الفكرية، ولكن الغرض كان بيان حضور الفكر الليبرالي في نتاجهم الفكري، ومن ثم أثرهم على الظاهرة الليبرالية في مصر. وقد خلص الباحث إلى الآتي:

- بينما كان الجيل الأول والمتمثل في الإصلاحية الإسلامية معتزاً بثقافته الإسلامية، وما راق له من سمات في الثقافة الأوروبية، راح يستدخلها ولكن تحت غطاء ثقافته، وراح يدافع عن ثقافته أيّما دفاع أمام الآخر (مناظرات عبده مع رينان): راح الجيل الثاني يجهر بانحيازه لثقافة الآخر الأوروبي، ويعلن تبرُّأه من ثقافته، جازماً أن التقدم والنهضة في إتباع الآخر والقطيعة مع الأنا!

- في هذه المرحلة تبنت رموزها الليبرالية كنسق فكري ناجز وكفلسفة تروم تطبيقها سياسياً وفكرياً (قارن بالمرحلة الأولى) يتبدى ذلك جلياً في متون لطفي السيد وممارساته السياسية.

- يمثل طه حسين معياراً على الانبهار بالآخر الثقافي، وقد أدى انبهاره هذا إلى تبنيه أطروحات فكرية قوبلت بنقد عنيف من الفضاء الثقافي المصري حينئذٍ (معركته حول أطروحة الشعر الجاهلي).

- تمثل هذه المرحلة مرحلة الخصوبة والنضج للحالة الليبرالية في مصر على كل المستويات السياسية والفكرية.

وفيما يخص مؤسسات هذه المرحلة تناول الباحث ثلاثة نماذج للأحزاب الليبرالية:

· حزب الوفد

· حزب الدستوريين الأحرار

· حزب الأمة

فقد تدشنت الحياة النيابية والتعددية السياسية كمظهر من مظاهر الليبرالية السياسية في هذه المرحلة. ولكن الباحث يرى أن هذه الأحزاب لم تكن ذات أثر قوى في الحياة السياسية المصرية؛ وذلك لظروف الاحتلال واستبداد الحكم الملكي.

وتدل تركيبة هذه الأحزاب وبرامجها على انطلاقها من الفكر الليبرالي، الذي طالبت بتطبيقه وسعت نحو نشره من خلال الصحف الناطقة باسمها.

الليبرالية المعاصرة: سيولة الفكر والممارسة

في المبحث الثالث من هذا الفصل اهتمّ الباحث بدراسة الحالة الليبرالية الراهنة في مصر، والتي تتحايث مع البزوغ العام للتقليد الليبرالي على الصعيد العالمي، بعدما انهزم المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وتم على المستوى السياسي تدشين حقبة القطب الواحد المهيمن على النظام الدولي، والمتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى المستوى الاقتصادي تمّ اعتماد الليبرالية الجديدة (النيو-ليبراليزم) واقتصاد السوق، النظام الاقتصادي الوحيد والجدير بالتعميم على مستوى العالم، على يد المنظمات الاقتصادية الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي).

مر الباحث سريعاً على فترة الهبوط المجتمعي التي لحقت بالليبرالية المصرية، في الفترة الممتدة من انقلاب 1952 حتى تسعينات القرن المنصرم وبدايات القرن العشرين؛ إذ سيطر فكرياً على الفضاء العام في هذه الفترة الفكر اليساري بتفريعاته المختلفة (ماركسي، قومي، ناصري)، وذلك حتى هزيمة 1967، والتي كانت بمثابة صفعة قوية على وجه الفكر اليساري عامة، ومن بعدها سيطر على الفضاء العام التيار الإسلامي فيما عُرف بـ(الصحوة الإسلامية)، أو قل مع طه عبد الرحمن (اليقظة الإسلامية).

وذلك حتى أحداث 11 سبتمبر 2001 وما ترتب عليها من أحداث سياسية، حيث بدأ يتبلور في الفضاء الثقافي العربي تيار فكري عُرف بالليبراليين الجدد.

قسّم الباحث هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب، تناول في كل مطلب جزء من مكونات الحالة الليبرالية الراهنة الرموز الفكرية، الأحزاب السياسية، و المنظمات الاجتماعية:

- 3-1 الرموز الليبرالية: سيولة فكرية

نُقر مع الباحث أنه ليس من اليسير أن نحاول وضع محددات ومعايير واضحة وناجزة نتمكن بها -ونحن مطمئنون- منهجياً أن نسِم شخصاً ما بأنه ليبرالي (قارن بالجيل الثاني)؛ يرجع ذلك للطبيعة السائلة التي تتسم بها الحالة الليبرالية في نسختها الراهنة. فدعاة الليبرالية لم يقدموا منتجاً فكرياً يؤطر منظورهم للتقليد الليبرالي، ويوضح ماهية وعيهم ومقاربتهم له فكراً وممارسة.

اختار الباحث عدداً من الشخصيات المؤسِسة للحالة الليبرالية الراهنة، وكان محدد اختياره هو مدى تأثيرها على الحالة فكرياً وسياسياً، مُعرِضاً عن حشو النص بأسماء كل من انتسب لليبرالية، أو نُسب إليها، وذلك لعدم وضوح معايير ومحددات ذالك الانتساب وهذه النسبة.

ومن ثمّ انتخب الباحث مجموعة من الرموز ليتناول أثرها على الحالة الليبرالية فكراً وممارسة وهي:

· د. سعيد النجار

· د. حازم الببلاوي

· د. سعد الدين إبراهيم

· د. أسامة الغزالي حرب

· د. عمرو حمزاوي

· د. طارق حجي

· د. محمد البرادعي

3-2 - لأحزاب الليبرالية: اللاحضور المجتمعي

في المطلب الثاني من هذا المبحث تناول الباحث كل الأحزاب السياسية التي تتخذ من الليبرالية منطلقاً لها. وكان محدد النسبة هو: تصريح مؤسِسي الحزب بأنه حزب ليبرالي، أو مدى التزام نصوص البرنامج السياسي للحزب بالمقولات الليبرالية.

ثمة ملاحظة قد نبه إليها الباحث من خلال تتبع نصوص برامج هذه الأحزاب، ذلك أنه رغم انطلاقها من التقليد الليبرالي كأيديولوجية سياسية، إلا أنها في المستوى الاقتصادي لم تستطع أن تجهر بتبني الليبرالية الجديدة في صورتها الراهنة المبنية على عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، ويُرجع الباحث ذلك إلى طبيعة الوضع المجتمعي للمجتمع المصري؛ إذ يقبع حوالي 40% منه تحت خط الفقر، ومن ثمّ كان لابد من تضمين برامجها الاقتصادية دعوة الدولة لضمان العدالة الاجتماعية.

تتبع الباحث التفاعلات السياسية للأحزاب الليبرالية المصرية في المرحلة الراهنة منذ السبعينات حيث أعاد الرئيس أنور السادات التعددية السياسة للحياة، حتى ثورة 25 يناير، وما تلاها من أحداث سياسية حتى انتخاب الرئيس" محمد مرسي" رئيساً للجمهورية في 6/2012.

يرى الباحث أن الأحزاب الليبرالية تفتقر إلى أية درجة مقبولة من الحضور المجتمعي، حتى فيما بعد الثورة وزوال نظام مبارك، مقارنة بالأحزاب الإسلامية. ويرجع ذلك (بحسب الباحث) لنخبوية هذه الأحزاب، وفقدها القدرة على التواصل مع شرائح المجتمع المختلفة.

وقد تناول الباحث الأحزاب التالية:

· حزب الوفد

· حزب الجبهة الديمقراطية

· حزب المصريين الأحرار

· حزب الغد

· حزب مصر الحرية

· الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي.

3-3 المؤسسات الليبرالية في المجتمع: الحضور الإعلامي الطاغي

في المطلب الثالث من هذا المبحث يتناول الباحث ما يعتبره المكون الأهم للحالة الليبرالية في نسختها الراهنة، مقارنة بالمرحلتين الأولى والثانية من تاريخ الحالة؛ حيث كانتا تتميزان بحضور الرموز الفكرية كمكون أساسي للحالة (خاصة في المرحلة الثانية)، بينما يتضاءل هذا الحضور في المرحلة الراهنة، وذلك على حساب مكون آخر وهو المؤسسات المجتمعية المنطلقة من التقليد الليبرالي (الآلة الإعلامية بالتحديد).

تناول الباحث هذه المؤسسات بوصفها مكونات للحالة، ومن ثم لم يكن غرضه تقديم دراسة نقدية لوظائفها المجتمعية، وإنما كان يروم من هذا التناول أن يوضح مدى تأثير وفاعلية هذه المؤسسات على الحالة الليبرالية.

وقد قسم هذه المؤسسات إلى نوعين:

3-3-1 - منظمات المجتمع المدني:

يرى الباحث أن أثر هذا المكون على الحالة يتسم بالضعف، ويرجع ذلك لنخبوية ممارستها، ولارتباطها بالخارج.

وقد تناول الباحث عدداً من مؤسسات المجتمع المدني في هذا السياق:

· جمعية النداء الجديد

· اتحاد الشباب الليبرالي المصري

· شبكة الليبراليين العرب

· المنظمات الحقوقية

· منظمات دعم الديمقراطية وأهمها:

· المعهد الديمقراطي الوطني

· المعهد الجمهوري الدولي

· مؤسسة بيت الحرية

3-3-2 - الآلة الإعلامية:

تعتبر الآلة الإعلامية، بحسب الباحث، المكون الأكثر فاعلية في الحالة الليبرالية الراهنة، مقارنة بباقي المكونات، وكذلك مقارنة بالآلة الإعلامية فيما سبق من مراحل تاريخية للحالة.

كان الباحث مهووساً بالمنهجية التي تسوغ له نسبة آلة إعلامية معينة لليبرالية، وذلك لسيولة الفكرة الليبرالية ونسبية التعاطي معها في الفضاء المصري. ومن ثم اختار أن يسلك طريقاً إجرائياً في تحديد هذا المكون الليبرالي: فاعتبر مدى فاعلية الآلة الإعلامية في إثراء الحالة الليبرالية فكرياً وسياسياً هو محدد النسبة.

لم يكن غرض الباحث (بحسب منهجه في الدراسة) أن يقدم نقداً أو تحليلاً لمضمون خطاب الآلة الإعلامية، وإنما عُني ببيان أثرها على مجمل الحالة الليبرالية.

وقد تناول بحسب هذا المنهج ثلاثة نماذج من هذا المكون الإعلامي للحالة:

الصحف :

وأهمها: المصري اليوم، اليوم السابع، التحرير، الشروق ، الوطن ، الوفد، ونهضة مصر.

الفضائيات:

وأهمها on tv, CBC, ، مجموعة النهار، مجموعة دريم، المحور.

ج- المواقع الإلكترونية:

وأهمها: موقع الحوار المتمدن، موقع إيلاف، وقع أزمة، ومنتدى فكرة.

الخلاصة:

ويمكن في الختام أن نختصر عمل الباحث في عدة نقاط:

النقطة الأولى: اتخاذه منهجية واضحة في التعامل مع الليبرالية كمفهوم مخاتل؛ وذلك من خلال تتبع الممارسة الليبرالية من الجيل الأول حتى اليوم.

النقطة الثانية: توصيف الذات الليبرالية العربية توصيفاً جاداً، بعيداً عن المُلاسنات التي لا تُغني العلم من جوع.

النقطة الثالثة: دحضه لفكرة تلازم الليبرالية بالحرية كقيمة، بحيث حينما تُطلق الليبرالية تُفهم على أنها الحرية وما سواها استبداد وظلم. وهذه ملاحظة لطيفة من الباحث، فإن كثيراً من المُصطلحات الدارجة اليوم يتم ربطها بقيم إنسانية ليست حصراً على مفهوم ما، ومع ذلك يتم تصدير هذا المصطلح باعتبارها قيمة ما.

وغيرها من النقاط التي يمكن أن نلخصها من عمل الباحث في هذا الكتاب المُتقن، الذي يمكن اعتباره دراسة توصيفية جادة، تتجاوز لغة الهجاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق