رسائل التاريخ (10)
الجيش المصرى فى جنوب الصومال
وإثيوبيا وعسير والبوسنة وكريت والبحر الأسود!
كما ذكرنا اعتزم الخديو إسماعيل فتح بقية بلاد الصومال، فجرد لهذا الغرض سنة 1875 حملة مقصدها فتح بقية شواطئ الصومال، والوصول إلى مصب نهر جوبا، وهو نهر ينبع من جنوب أثيوبيا ويصب فى المحيط الهندى شمالى زنجبار (تنزانيا الحالية) ثم فتح الطريق من هناك إلى منطقة البحيرات، لكى تتصل حدود مصر من البحيرات إلى البحر الأحمر والمحيط الهندى.
ودخل رؤساء القبائل فى طاعة الحكومة المصرية طوعا، ثم أقلعت السفن المصرية فى مياه المحيط الهندى حتى وصلت إلى بلدة (براده) شرقى نهر الجوبا، وأيضا أذعنت القبائل هناك للحكم المصرى, وتم تعيين محافظ مصرى عليها، ثم اتجهت الحملة إلى بلدة "قسمايو", وأنتم تسمعون من الآن أنباء كثيرة عن هذا الميناء الجنوبى فى الصومال, وهو من معاقل حركة الشباب الإسلامى حاليا.
وقسمايو التى تكتب حاليا أحيانا (كسمايو) تقع على مصب نهر الجب. وفتحها الجيش المصرى، ثم توغلت القوارب تحمل الجنود فى النهر إلى عمق 150 ميلا, ولكن الملاحة تعذرت بعد ذلك.
ورجعوا إلى قسمايو إلى أطلقوا عليها (بور إسماعيل) ولكن الحكم المصرى استقر أكثر فى شمال الصومال وحدث اعتراف دولى بذلك، أى حتى رأس جردفون على المحيط الهندى.
وبالإضافة لسلطنة هرر فقد حدث توسع مصرى آخر داخل الأراضى الأثيوبية، فتم فتح بلاد البوغوس ومقاطعة (إيلت).
بل لقد بالغ الخديو إسماعيل وسعى لضم أثيوبيا بالكامل لمصر, ولم يكن هذا هدفا واقعيا، فعلى خلاف البلاد الأخرى توجد فى أثيوبيا سلطة قوية قديمة ومتحصنة فى هضاب وعرة وتمتلك جيوشا قوية. وفشلت الحملة, ولكنها أسفرت عن استمرار (سنهيت) فى إطار الدولة المصرية, وهى من أراضى الحبشة, وتقع الآن فى حدود ارتريا.
كل هذا التمدد المصرى كان قاعدته السودان، وكل هذه المناطق الشاسعة كانت تسمى (ملحقات السودان) والاهتمام بالسودان كان خطة محمد على التى واصلها إسماعيل.
ومحمد على هو الذى بنى الخرطوم, وسنتحدث عن عهده فى رسائل قادمة. وفى عصر إسماعيل تم إصلاح دار صناعة الخرطوم (الترسانة البحرية التى أنشاها محمد على)، وتم التوسع فى بناء المدارس, وفتح المحاكم للفصل فى منازعات الناس.
وعلى خلاف ما يتردد فقد كان الحكم المصرى يشن حملات نشيطة وجادة ضد تجارة الرقيق، وهو ما سبب مشكلات كثيرة للحكم المصرى، لأن تجار الرقيق كانوا مركز قوة اقتصادية مهمة فى البلاد خاصة فى الجنوب.
كذلك تم التوسع فى زراعة القطن (التى أدخلها محمد على). واستتب الأمن وتوسعت أنشطة الزراعة والتجارة والصناعة، وتم تأمين سبل المواصلات, وهذا من أهم الأشياء لازدهار التجارة والاقتصاد فى بلد مترامى الأطراف كالسودان. وأنشأت معامل لحليج الأقطان ونسجها، وأنشئت مكاتب البريد فى أهم العواصم..
وفى اللادو عاصمة مديرية خط الاستواء تم إنشاء مدرسة ومستشفى ومسجد.
وفى السودان وملحقاته بلغت الخطوط التلغرافية التى أنشئت حتى عام 1870 : 2110 كيلو مترا, وبلغ عدد مكاتب التلغراف 21 مكتبا.
ورسم ضباط أركان حرب الجيش المصرى سنة 1877 خريطة لإفريقيا، وهى أدق خريطة عرفت حتى ذلك الحين. وبلغت الجهات التى جابها هؤلاء الضباط وحققوها ورسموا مواقعها، بلغت مساحتها مساحة فرنسا وألمانيا والنمسا والمجر بحدودها القديمة.
ويقول رودلف سلاطين باشا - وهو أجنبى - كلاما مهما لا يعيه حكام مصر فى القرن الواحد والعشرين: (إن الأسباب التى دعت محمد على منذ 75 سنة إلى ضم السودان لا تزال قائمة إلى اليوم، فالسودان هو مصدر الحياة لمصر، وكل جهودها يجب أن تتجه إلى صيانة وادى النيل من أية غارة أجنبية، فإن كل خطوة تخطوها دولة أخرى نحو النيل ينظر إليها بعين الفزع من كل من يقدر خطر السيطرة الأجنبية على ذلك النهر العظيم وما تجره من تضحية سعادة مصر وتقدمها وتعريضها لأعظم المضار).
الجيش المصرى فى عسير والبوسنة وكريت والبحر الأسود أيضا!:
ورغم كل هذه الجبهة الجنوبية, فقد قام الجيش المصرى بالحفاظ على استقرار الدولة الإسلامية, وأخمد تمردا ضد الدولة العثمانية فى عسير بجزيرة العرب, وطلب الخديوى إسماعيل العفو عن الأمير المتمرد, فقبل السلطان شفاعته وعفا عنه وأقره فى إمارته.
وشارك الجيش المصرى فى مقاومة تمرد الصرب فى ولاية الهرسك 1861، وفى عام 1866 تكرر نفس الشىء فى جزيرة كريت, حيث كان للجيش المصرى الدور الأول لإعادة استتباب الأوضاع, وكان من الضباط راشد حسنى ومحمود سامى البارودى من زعماء ثورة عرابى فيما بعد.
وفى مرة ثالثة قاتل الجيش المصرى ضد الصرب فى حربهم على الدولة العثمانية, وأبلى بلاء حسنا وانتصر على الصرب.
وفى مرة رابعة قاتل الجيش المصرى فى البحر الأسود فى مواجهة هجوم روسى على الدولة العثمانية عام 1877, وكانت أيضا مشاركة إيجابية ومؤثرة.
هذه كانت قوة مصر بعد أن ضعفت فى عهد إسماعيل بالمقارنة لقوتها فى عهد محمد على. فأين هى قوة مصر فى عهد مبارك خارج حدودها شمالا أو جنوبا أو غربا أو شرقا؟!
وليس المقصود من هذا الرد أن نقول إن الجيش المصرى يمكن أن يتصرف بنفس الطريقة فى الأوضاع الدولية الراهنة، ولكننا نتحدث عن الأفق الاستراتيجى لحكام مصر عندما يدركون أن المصالح الوطنية مرتبطة بقوتهم فى المحيط الإقليمى (أو ما نسميه الأمن القومى) وإن كنا نؤكد أن دور الجيوش لم ينته، ولكن مصادر القوة والنفوذ فى المحيط الإقليمى ترتبط بأشياء أخرى لا تقل أهمية، وهى النفوذ الاقتصادى (استثمار، تجارة، تبادل منافع) ونفوذ ثقافى كما تفعل تركيا الآن دون أن تحرك جيوشها.
إن مصر مبارك أصبحت قزما فى عالم العمالقة، ليس على المستوى العالمى فحسب، ولكن حتى على المستوى الإقليمى، أصبحت كالأسد العجوز الجريح الذى سقطت أسنانه.
مجدى أحمد حسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق