الجمعة، 1 نوفمبر 2013

رسائل التاريخ (1)

 رسائل التاريخ (1) 
من لا يعرف تاريخه أشبه بالمعتوه فاقد الذاكرة

الإنسان الذى لا يعرف تاريخه هو إنسان معتوه، أشبه بالشخص الذى فقد الذاكرة، فالإنسان الذى لا يعرف ماضيه لا يمكن أن يفهم حاضره أو يعمل لمستقبله، وهو فى حالة مرضية حتى يأذن الله له بالشفاء، وهو لن يتأتى إلا باستعادة الذاكرة. والمجتمع كالإنسان إذا أهمل تاريخه أصبح مجتمعا بلا ذاكرة.
 والأجيال الشابة فى مصر تعرضت لمؤامرة كبيرة حول ذاكرتها، من خلال ضمور وتخلف مناهج التعليم فى مجال التاريخ، ودور الإعلام التجهيلى المشغول بعرض تفاصيل تاريخ حياة الفنانين والفنانات والراقصين والراقصات, بل تحولت حياتهم إلى مسلسلات تلفزيونية طويلة, وكأنهم أبطال قوميون فى ظل ندرة من الأعمال الفنية التى تدور حول وقائع التاريخ, وندرة من هذه الندرة جيدة ومشوقة ومؤثرة ومفيدة. وعموما فإن الذاكرة (التاريخ) لا تتجاوز 1% من الخريطة الإعلامية. والخلاصة نحن أمام أمة بلا ذاكرة، وفى أحسن الأحوال ذاكرة محدودة أو مشوهة أو مجرد عناوين.
وتستهدف هذه الرسائل المساهمة فى مقاومة التجهيل بذاكرة المصريين، ومحاولة تسليط الضوء على وقائع التاريخ التى تهم حاضرنا، وقد حضنا القرآن الكريم على ذلك: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ), وتستهدف تبديد الشائعات المغلوطة عن أن شعب مصر استكان دائما للظلم والظالمين, وأنه كان عبدا لأى حاكم وطنى أو أجنبى. وتوضيح دور العلماء وقادة الفكر فى قيادة الشعب, والكثير من الدروس الغنية التى يمكن أن تنير لنا الطريق فى وقتنا الحاضر. وهذه الرسائل لن تلتزم بتسلسل زمنى معين، ولكنها ستنتقل من واقعة لأخرى بأسلوب النحلة التى تبحث عن الرحيق فى أزهار متنوعة.
مصر من البلاد غير المعزولة فى أحد جوانب الأرض, بل تقع على واحد من أهم مفارق الطرق العالمية، وقد كانت بوتقة (فى وادى النيل والدلتا) للعديد من الشعوب والأجناس, وتعرضت لموجات بشرية متوالية من البحر (من أوروبا) ومن الغرب (ليبيا) ومن الجنوب (السودان) ومن الشرق (العرب وأهل الشام)، وبالتالى فإن الحديث عن الشخصية المصرية أكثر دقة من حديث عن عنصر مصرى، وإذا كانت فكرة النقاء العنصرى والعرقى فكرة غير حقيقية لأن العالم كله شهد حالات متوالية من امتزاج البشر لأسباب طبيعية وحربية وسياسية واقتصادية، إلا أن هذا الامتزاج لم يكن بنفس القدر, ولا شك أن مصر رغم انغلاقها جغرافيا على نفسها بأحزمة من الرمال والبحار وهذا ما حقق لها شخصيتها المستقلة.
 إلا أن هذه الموانع الطبيعية لم تمنع دخول موجات عبر التاريخ استوطنت فى مصر وامتزجت بشعبها، عبر الغزوات، أو عبر التواصل الحضارى بكل أنواعه ( الثقافى - الاقتصادى - الدينى.. الخ) وفى القرون الأخيرة انفتحت مصر على الدماء الآسيوية فى أعماق جديدة, خاصة الأتراك, فمع الفتح العثمانى جاءت قوات من منابع تركية وشركسية واستقر منهم قرابة اثنى عشر ألفا واستوطنوا مصر واندمجت سلالاتهم فى أهلها، وقبل الفتح التركى أتت موجات المماليك البحرية وأصلهم من سكان أواسط آسيا وشمالها، والمماليك البرجية وأصلهم من بلاد الشركس والقوقاز، وظل هؤلاء يشاركون الأتراك فى حكم مصر، وشكلوا معا العمود الفقرى للجهاز الإدارى, وفى عهد الحكم المملوكى قبل الحكم العثمانى كانت مصر ملجأ للعرب والناطقين بالضاد (اللغة العربية) ممن فروا أمام التتار فى العراق وفارس وسوريا وخرسان, وكثيرا ما يتحدث المثقفون المصريون على عهد المماليك باعتباره أسوأ العهود فى تاريخ مصر، وهذا ليس صحيحا على الإطلاق، فحكم المماليك شهد فترات صعود وازدهار وفترات هبوط وانحطاط كأى حقبة تاريخية أخرى.
وازدهرت فى عصرهم العلوم والآداب بحماية ورعاية السلاطين، والتفاصيل كثيرة, ولكن نذكر منها نبوغ طائفة من فطاحل الشعراء والأدباء والعلماء، كالبوصيرى صاحب البُردة، والقلقشندى صاحب صبح الأعشى، وابن منظور صاحب لسان العرب، وابن هشام النحوى العظيم الذى يقال فيه أنه أحسن من سيبويه، وشمس الدين السخاوى، وابن حجر المؤرخ إمام الحفاظ المحدثين فى زمانه، والمقريزى صاحب الخطط، وأبو الفداء (السورى) المؤرخ الجغرافى المشهور صاحب تقويم البلدان، والنويرى صاحب نهاية الأرب فى فنون الأدب، وابن فضل الله العمرى صاحب مسالك الإبصار فى ممالك الأمصار، وابن تغرى بردى صاحب النجوم الزاهرة، وجلال الدين السيوطى، وابن إياس المؤرخ المشهور. وقد استضافت مصر فى العصر المملوكى جماعة من أئمة العلم والفلسفة فى الشرق أبرزهم: ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن خلدون.
ورغم التبديد الذى تعرضت له المكتبات فى العهد العثمانى، فإن مكتبة الأزهر وحدها كانت تحتوى على 33 ألف مجلد عندما جاءت الحملة الفرنسية.
وفى العهد العثمانى ظل تدفق أفواج المماليك من بلاد الشركس والقوقاز, بالإضافة للأتراك بالآلاف, وقد ساهم ذلك فى تعديل البنية السكانية للبلاد, خاصة أن عدد سكان مصر فى ذلك الوقت كان ثلاثة ملايين.
وكل ما ذكرنا هو مجرد طرف أو بعض أمثلة لنفى عنصرية نقاء الدم المصرى، ولكن هذا لا ينفى تفرد الشخصية المصرية, التى ظلت تستوعب القادمين فى بوتقتها, وتعيد خلقهم خلقا جديدا, وهذا ما سنعود إليه فى رسائل قادمة بإذن الله.

مجدى أحمد حسين

رسائل التاريخ كاملة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق