يصنعون التاريخ ويكتبونه
فهمي هويدي
إذا دقق قارئ الصحف المصرية في مصادر الأخبار المنشورة فسيجد أن أهمها منسوب إلى المؤسسة الأمنية تارة والجهات السيادية تارة أخرى، وكأن مصر ليس فيها أي مصادر سياسية. الأمر الذي يعطي انطباعا بأن أخبار البلد المهمة لا تتوافر إلا في محيط المؤسسة الأمنية.
ليس جديدا اختراق تلك المؤسسة للصحافة خصوصا ووسائل الإعلام عموما.
فالمشتغلون بالمهنة يعرفون أن الأجهزة الأمنية لها رجالها في مختلف الصحف، الذين زرعتهم ورعتهم طوال العقود التي خلت حتى أوصلت بعضهم إلى أعلى المناصب في المهنة.
وذلك أمر مفهوم، بل هو إجراء طبيعي في أي دولة بوليسية، خصوصا بعدما أصبحت وسائل الإعلام هي الأعظم تأثيرا في تشكيل إدراك الناس وغسيل أدمغتهم.
ولئن كانت الأنظمة الاستبدادية تتحكم في المجتمعات في السابق من خلال الجيوش والأجهزة الأمنية، فإن ذلك التحكم أصبحت تشارك فيه وسائل الإعلام بما تملكه من قوة التأثير وعناصر الجذب والإبهار
ومن قرأ كتاب جورج أورويل الشهير (١٩٨٤) الذي صور فيه قبضة النازية على المجتمع، يجد أن «وزارة الحقيقة» التي تتولى تزوير الأخبار والتدليس على الناس تشكل إحدى دعائم الدولة، وهو ما رصدته مؤلفة كتاب «الحرب الباردة الثقافية» فرانسيس سوندرز (ترجمه إلى العربية طلعت الشايب)، حين تابعت الدور الذي قامت به المخابرات المركزية الأمريكية في استخدامها للإعلام إلى جانب الفنون والنشاط الثقافي، منذ بواكير الصراع ضد الاتحاد السوفييتي.
الشاهد أن توظيف الأمن للإعلام له تاريخ يمتد إلى سنوات الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وإذا كان ذلك قد حدث قبل انفجار ثورة الاتصال والمعلومات، فلك أن تتصور المدى الذي وصلت إليه تلك الجهود في أعقاب تلك الثورة.
المخضرمون في مهنة الصحافة المصرية يلاحظون أن علاقة الأجهزة الأمنية بالإعلام مرت بمرحلتين أساسيتين.
المخضرمون في مهنة الصحافة المصرية يلاحظون أن علاقة الأجهزة الأمنية بالإعلام مرت بمرحلتين أساسيتين.
في الأولى كانت تلك الأجهزة تحرص على أن تعرف ما يجري في الصحف من خلال رجالها الذين زرعتهم أو جندتهم. وفي الوقت نفسه كانت تحاول استمالة الكتاب وأصحاب الرأي بأساليب حذرة وغير مباشرة
في المرحلة الثانية أصبحت الأجهزة تستخدم الصحفيين في التأثير على الرأي العام من خلال الترويج لأخبار بذاتها أو تبني وجهات نظر تخدم سياسات بذاتها.
وما عادت تكتفي باستمالة أصحاب الرأي. وإنما أصبحت تجندهم وتلقنهم بما تريد.
وفي المرحلتين فإن علاقة رؤساء التحرير مع الأجهزة الأمنية كانت قائمة، لكنها في المرحلة الأولى كانت علاقة حوار وفي المرحلة الثانية أصبحت علاقة تبعية واستخدام.
ولأنني أزعم أنني واحد من أولئك المخضرمين، فلدي ولدى أمثالي عديدة من القصص والخبرات التي تؤيد التصنيف الذي ذهبت إليه، ولأن المجتمع الصحفي هو مجتمع نميمة بالأساس فإن الطنين حول دور رجال الأمن في الصحف لم يتوقف طول الوقت.
سمعت من أحد شيوخ المهنة الذين عملوا بالأهرام أن 30 صحفيا كانوا يكتبون تقارير عن زملائهم في الستينيات.
ولأنني أزعم أنني واحد من أولئك المخضرمين، فلدي ولدى أمثالي عديدة من القصص والخبرات التي تؤيد التصنيف الذي ذهبت إليه، ولأن المجتمع الصحفي هو مجتمع نميمة بالأساس فإن الطنين حول دور رجال الأمن في الصحف لم يتوقف طول الوقت.
سمعت من أحد شيوخ المهنة الذين عملوا بالأهرام أن 30 صحفيا كانوا يكتبون تقارير عن زملائهم في الستينيات.
وأغلب الظن أن الرقم تضاعف بعد ذلك. وقد استطاع بعض زملائنا أن يحصلوا على بعض تلك التقارير، لا أعرف كيف. لكن الذي أعرفه أن بعضا من كتاب التقارير صاروا نجوما في الصحافة والتلفزيون في الوقت الراهن.
وطول الوقت كانت موهبتهم الوحيدة تنحصر في وفائهم للذين زرعوهم ورعوهم حتى أوصلوهم إلى ما وصلوا إليه.
في المرحلة الأولى كانت الأجهزة الأمنية تستخدم المحررين وكانت اتصالات رؤساء التحرير تتم مع القيادات السياسية.
في المرحلة الأولى كانت الأجهزة الأمنية تستخدم المحررين وكانت اتصالات رؤساء التحرير تتم مع القيادات السياسية.
وفي المرحلة الثانية التي تراجع فيها دور أهل السياسة اختلفت الصورة تماما، بحيث أصبح الاتصال الأساسي للأجهزة الأمنية يتم مع رؤساء التحرير مباشرة الذين أصبحوا عيونا وأعوانا لها. وأصبح المحررون يتلقون تلقينا شبه يومي من عناصر تلك الأجهزة، وحين أصبح الأمر بهذه الصورة، فإن تبعية الجميع للأجهزة الأمنية أصبحت أمرا مألوفا لا خفاء فيه ولا حياء منه.
في بداية ثورة 25 يناير شكلت لجنة لتقصي حقائق ما جرى خصوصا في قتل الثوار وموقعة الجمل، وكانت اللجنة برئاسة المستشار عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس النقض الأسبق.
في بداية ثورة 25 يناير شكلت لجنة لتقصي حقائق ما جرى خصوصا في قتل الثوار وموقعة الجمل، وكانت اللجنة برئاسة المستشار عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس النقض الأسبق.
وقد أعدت اللجنة تقريرها الذي أشار بإصبع الاتهام إلى جهات أمنية معنية في المسؤولية عن قتل المتظاهرين. ولكن الذي حدث أن التقرير تم تجاهله واعتبر كأن لم يكن، واستندت المحاكمات التي تمت بعد ذلك إلى شهادات عناصر المؤسسة الأمنية دون غيرهم، باعتبارها الجهة الوحيدة المعتمدة، الأمر الذي أدى إلى تبرئة الجميع، بحيث لم يحاسب أحد على قتل المتظاهرين.
ولم تكن تلك حالة فريدة في بابها لأنها تكررت في حالات عدة، أقنعتنا بأن المؤسسة الأمنية لم تعد الجهة التي تصنع السياسة وتشكل مزاج الرأي العام فحسب، وإنما اكتشفنا أنها هي التي أعادت كتابة تاريخ ما بعد 25 يناير، وأصبح اختراقها للصحافة وتحكمها في الإعلام أمرا مفروغا منه وجزءا من مهمة أكبر تمثلت في صناعة التاريخ وكتابته، حتى إشعار آخر على الأقل.
ملحوظة: بعد كتابة العمود قرأت أن محاكمة الدكتور محمد مرسي لن تبث على الهواء كما قيل، ولكن وزارة الداخلية ستتولى تصويره وتسجيل أقواله، ثم تعرض خلاصة لكلامه في نشرات الأخبار.. منتهى الشفافية!
ملحوظة: بعد كتابة العمود قرأت أن محاكمة الدكتور محمد مرسي لن تبث على الهواء كما قيل، ولكن وزارة الداخلية ستتولى تصويره وتسجيل أقواله، ثم تعرض خلاصة لكلامه في نشرات الأخبار.. منتهى الشفافية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق