الرئيس إذ يحاكم الانقلاب بالرموز!
«من القصر إلى القفص»، بهذه اللغة رسمت صحافة التصهين وأقنية الفلول عناوينها وهي تتناول محاكمة الدكتور محمد مرسي، أول رئيس مصري وعربي منتخب ديموقراطياً.
وتوحي الهجمة الإقليمية الضارية على مرسي، والسخرية منه، وهو يُجلب إلى «المحكمة»، أن النظام الرسمي العربي الذي يتخندق في صف الانقلاب الدموي، هو الذي يحاكم الرئيس؛ دفاعاً عن مصالحه وامتيازاته التي تهددها الديموقراطية والاختيار الحر للشعوب.
ولهذا، ربما شعر مئات الملايين من العرب أن «محاكمة» مرسي هي محاكمة للضمير العربي؛ لأشواق الأمة إلى التغيير، ولحقها في حياة حرة كريمة لا تهددها دبابات العسكر، ولا تخضع لوصاية الإمبريالية والكونيالية.
ولهذا السبب أيضاً، جاء مرسي إلى ما يُسمى «المحكمة» رافع الرأس، واثق الخطى، ثابت الجأش، مرتدياً معطفاً أزرق داكناً غير رسمي، وقميصاً فاتح اللون، ولكن من دون ياقة، ليوحي بالتلقائية والبساطة.
ويبدو أن الرئيس تعمد أن يبقي أزرار المعطف مفتوحة ليقف هنيهة بعد ترجله من السيارة، فيغلق الأزرار، موحياً بالثقة بالنفس، وباللامبالاة بالسياق «التجريمي» من حوله.
لا..إنه ليس مجرماً يُساق إلى القضاء؛ إنه بطل.
وقد نجح من خلال لغة الجسد هذه إلى إيصال رسائل ذات مغزى إلى الملايين الذين كانوا يترقبون المشهد في ظل تغييب قسري للاتصال المنطوق.
حكت تعبيرات وجه الرئيس ونظرات عينيه وطريقة مشيته كل شيء: الثقة، الاعتزاز، الشجاعة، الإقدام، ليست سوى أمثلة فقط. الاتصال هو أن تستمع إلى ما لا يُقال. رفض الرئيس تغيير ملابسه، وارتداء زي السجين الاحتياطي، ما عزز القوة الاتصالية لحضوره، وألقى مزيداً من الهيبة في قلوب «القضاة». وبقامة منتصبة، وبلحية غزاها الشيب مهذبة، دخل مرسي قاعة المحاضرات في أكاديمية الشرطة بمدينة نصر شرق القاهرة، ولوّح لأنصاره وللمحامين مبتسماً، بينما صفق له «المتهمون» الآخرون من قيادات الإخوان المسلمين، رافعين علامة رابعة.
ولما سرد «القاضي» أسماء «المتهمين»، وكان من بينهم الرئيس، قاطعه قائلاً: «أنا الدكتور محمد مرسي، رئيس الجمهورية». وانتهز مرسي الفرصة ليحول «محاكمته» إلى محاكمة لطغمة انقلاب ذاتها، ولإفرازها الرديء القميء: المحكمة. وبّخ مرسي رجال الشرطة «الغلابة» الواقفين خارج القفص: «لا تجعلوا أحداً يخدعكم، حتى لا تصبحوا أعداء للشعب»، وكأنه بذلك يعيد التذكير بموعظته في آخر خطاب له: «ما تخلوش حد يضحك عليكم»!
رمق مرسي بقايا الفراعنة؛ «القضاة» المحنطين الجالسين على الكراسي، وصاح بهم: «إن ما يحدث الآن هو غطاء للانقلاب العسكري، وأحذر الجميع من تبعاته، وأربأ بالقضاء المصري العظيم أن يكون يوماً غطاء للانقلاب العسكري الخائن المجرم قانوناً».
رمق مرسي بقايا الفراعنة؛ «القضاة» المحنطين الجالسين على الكراسي، وصاح بهم: «إن ما يحدث الآن هو غطاء للانقلاب العسكري، وأحذر الجميع من تبعاته، وأربأ بالقضاء المصري العظيم أن يكون يوماً غطاء للانقلاب العسكري الخائن المجرم قانوناً».
بُهت قضاة الطغمة، وسُقط في أيديهم، ومرسي يرمقهم بتركيز شديد، وكأنه يتمثل بقول هاشم الرفاعي:
الحرُّ يعرف ما تريدُ المحكمة..
وقضاتُه سلفاً قد ارتشفوا دمَه..
لا يرتجي دفعاً لبهتانٍ رماه به الطغاةْ..
المجرمون الجالسون على كراسيِّ القضاةْ..
رفع مرسي علامة رابعة في وجه القاضي الهرم؛ أحمد صبري، وقال له بثبات المؤمن وعزم الواثق: «أنا رئيسك الشرعي،وأنت الباطل».
أخذت القاضي كلمتُه، فطفق يردد: «هذا لا يجوز..هذا لا يجوز». وكأن جدران القاعة رددت أصداء عبارة الرئيس: «باطل..باطل..باطل»! وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت!
حمّل مرسي هيئة المحكمة المسؤولية عن عدم خروجه منها لممارسة عمله رئيساً لمصر، وهو بذلك أوقعها قانونياً وأخلاقياً في حرج هائل؛ إذ ستكون مسؤولة بعد سقوط الانقلاب عن عدم الحكم بخروجه وأداء واجبه رئيساً.
قال مرسي: «أنا هنا دون إرادتي، وباستخدام القوة». سأله القاضي: هل ستقبل بوجود محام في قاعة المحكمة، فلطمه الرئيس بالقول: «أريد ميكرفوناً»، ثم قال: «هذه ليست محكمة لها اختصاص محاكمة رئيس»، مضيفاً: «لقد كان انقلاباً عسكرياً. ينبغي محاكمة قادة الانقلاب أمام هذه المحكمة. الانقلاب خيانة وجريمة». أما «المتهمون» الآخرون من قادة الإخوان المسلمين، وحزب الحرية والعدالة، فقد هتفوا مراراً أثناء «المحاكمة»: «يسقط.. يسقط حكم العسكر»، ورفعوا علامة رابعة، وأداروا ظهورهم لهيئة «المحكمة».
كانت مشاهد مترعة بالبلاغة، غنية بالرموز.
لم يملك «القاضي» إلا رفع الجلسة، وتأجيل «المحاكمة» إلى 8 كانون الثاني (يناير) من العام المقبل.
لم يملك «القاضي» إلا رفع الجلسة، وتأجيل «المحاكمة» إلى 8 كانون الثاني (يناير) من العام المقبل.
أراد زعيم طغمة العسكر، عبد الفتاح السيسي، أن تكون «المحاكمة» وسيلة ضغط أخرى على الشرعية، وملهاة تسهم في إشغال الشارع المصري عن جرائم الانقلابيين، وانتهاكاتهم الوحشية، وسياساتهم الاقتصادية الفاشلة والمهينة لمصر، فانقلب السحر على الساحر، وتحولت المحاكمة إلى «إدانة» للطغمة، وفضيحة مدوية لأكاذيبها وألاعيبها.
حشد السيسي 26 ألف جندي وضابط، و14 مروحية لتأمين المحاكمة، ومنع نقل وقائعها على الهواء، وقامت أجهزته بتحرير (مونتاج) ما دار فيها، ثم لم يبث التلفزيون الرسمي منها في اليوم التالي إلا أقل من دقيقة.
إنه الرعب الذي يتملك اللصوص في العادة، وإنها القوة التي يتمتع بها الحق وإن كان عارياً من السلاح. أقنية التصهين والفلول، كالعربية، وروتانا مصرية، ومحطات تلفزيونية مصرية، أصابها الدوار هي الأخرى، وخرجت إنجي قاضي، مراسلة «العربية» في القاهرة لتقول: «بدا مرسي في حال إنكار وهو يصر على أنه الرئيس الشرعي لمصر، ونزل من السيارة بشكل بروتوكولي، ودخل القفص وكأنه يتوجه إلى منصة ليخطب».
في الحقيقة، «العربية» وغيرها من أقنية التصهين، هي التي تعيش حال إنكار، وهي بعمليات التضليل والتجهيل عاجزة حد الشلل عن تشويه الحقائق، أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. يشير تطور الأحداث في مصر إلى مزيد من المكاسب يحققها الحراك المدني السلمي المقاوم لتغول العسكر.
ولا شك أن «محاكمة» الرئيس مرسي حلقة أخرى تُضاف إلى سلسلة الانتصارات.
إن لله جنوداً من غباء، والسيسي منذ انقلابه المشؤوم، وهو يرتكب حماقات كبيرة تصب كلها في صالح الشرعية.
المنافقون والفاسدون وأصحاب المال والنفود في مصر نشروا كل أوراقهم، وأخرجوا كل ما في صدورهم، ولم يعد في جعبتهم ما يقدمونه غير مزيد من القمع والكذب والتشبث بامتيازاتهم ومصالحهم حتى آخر رمق.
قال تعالى: «ويضل الله الظالمين»، ودعا نوح ربه، فقال: «ولا تزد الظالمين إلا ضلالا»، وها هي طغمة الانقلاب تتخبط، فتلجأ من ضلالها إلى محاكمة رمز الشرعية، وبطل الديموقراطية والحرية، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي بأسره، وربما أبعد من ذلك.
إن وقوف مرسي أمام قضاء الانقلاب حدث مهيب واستثنائي سيذكره التاريخ باعتزاز، وسيذكر المصريون أن مرسي كان يدرك فساد هذا القضاء، وحاول جاهداً لجم تغوله حرصاً منه على تحقيق العدالة والمساءلة وفصل السلطات. لكنطغمة العسكر أسدت لمرسي وللربيع العربي كله يداً بيضاء بهذه المحاكمة، التي عرّت انقلابهم، وحشرتهم في خانة الدفاع، فلم يملك «قاضيهم» غير الهرب والتأجيل. إن سجن القادة والرموز لا يزيدهم إلا تألقاً، ولا يزيد سجانيهم إلا تباراً. كانت لحظة المحاكمة تتويجاً لزعامة مرسي، واستفتاء آخر يُضاف إلى استفتاءات عدة سابقة على زعامته.
إن وقوف مرسي أمام قضاء الانقلاب حدث مهيب واستثنائي سيذكره التاريخ باعتزاز، وسيذكر المصريون أن مرسي كان يدرك فساد هذا القضاء، وحاول جاهداً لجم تغوله حرصاً منه على تحقيق العدالة والمساءلة وفصل السلطات. لكنطغمة العسكر أسدت لمرسي وللربيع العربي كله يداً بيضاء بهذه المحاكمة، التي عرّت انقلابهم، وحشرتهم في خانة الدفاع، فلم يملك «قاضيهم» غير الهرب والتأجيل. إن سجن القادة والرموز لا يزيدهم إلا تألقاً، ولا يزيد سجانيهم إلا تباراً. كانت لحظة المحاكمة تتويجاً لزعامة مرسي، واستفتاء آخر يُضاف إلى استفتاءات عدة سابقة على زعامته.
حقق مرسي بهندامه العفوي، وبأدائه الخطابي، و« موعظته» البليغة للقضاة وللشرطة، ما أقض مضاجع الانقلابيين، وقلب حساباتهم، وأظهر من «الكاريزما» ما يبهر الأصدقاء والأعداء على السواء.
أرادوها محاكمة للرئيس، فألجمهم بالبينات، فهربوا مذعورين..{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجُننّه حتى حين}!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق