محمد كريم هو بطل عظيم من أبطال الاسكندرية ويعتبر أول كلمة فى سطر الكفاح الوطنى فى ملحمة النضال المصرى ضد الغزو الاجنبى فى التاريخ الحديث
كما كان أول شهداء الحملة الفرنسية ممن كانوا يشغلون منصباً عاما حيث وقف فى وجه نابليون وكليبر و قاومهما من خلال حرب العصابات التى أدارها بأقتدار وأدار المقاومة الشعبية ضد الغزو الفرنسى بكفاءة كبيرة.
مولد محمد كريم
ولد محمد كريم بحى الأنفوشى فى منتصف العقد الرابع من القرن الثامن عشر الميلادى و إن كان البعض يقرر أن مولده بعد ذلك بعشر سنوات أى نحو سنة 1745 م وذلك نتيجة لعدم وجود سجلات لمواليد ذلك العصر ولكن يغلب التخمين ان محمد كريم ولد ربما عام 1740 م .
لقد كان الابن الذكر الوحيد له وكانت والدته لا تقدر على الانجاب فكان يخشى عليها من الحمل وعندما انجبت محمد كريم ازداد فرحاً وانطلقت الزغاريد واعطى مبلغا كبيرا للقابلة التى ولدت زوجته و أنذر أبنه لخدمة الدين وقد كان والد محمد كريم رجلا متديناً فعلم أبنه العلوم الدينية و مبادئ القراءة و الكتابة فى أحد الكتاتيب بالإسكندرية ثم أرسله بعد ذلك إلى الازهر الشريف لاستكمال دراسته الدينية وظل بالأزهر عدة سنوات حظى فيها بقسط من العلوم الدينية و اللغة العربية و الفقه و الشريعة ولكنه ترك الازهر سريعا لوفاة والده وهو كان لايزال صبيا بغير مهنة و لا وظيفة ومما زاد الامر سوءا ان والده ترك اسرة كبيرة العدد ولم يترك عقار او مالا للأنفاق.
ولقد كان والد محمد كريم يتمنى ان يرزقه الله بولد اخرى بعد أن أنجب عدداً من الاناث وذلك ليعينه غى الحياة
فكفله عمه واشترى له دكاناً صغيراً فى الحى، وكان «كريم» دائم التردد على المساجد ليتعلم فيها.
ولقد عمل فى أول أمره قبانيًا (أى وزانًا)، ثم تمت ترقيته إلى أن تقلد أمر الديوان والجمارك بثغر الإسكندرية، وعندما آلت السلطة فى مصر إلى اثنين من زعماء المماليك فى القاهرة وهما مراد بك وإبراهيم بك (فيما بين 1790 ـ 1798م)، عين مراد بك محمد كريم حاكمًا للإسكندرية ومديرًا لجماركها؛ وذلك لما لاحظه من مكانة كبيرة له عند أهل الإسكندرية، جاء عنه في الموسوعة العربية العالمية تقرير مفاده أن محمد كريم كان يعد من المناضلين في مصر ضد الاحتلال الفرنسي .
تولية حكم ثغر الاسكندرية و رشيد
لقد كان منذ الصغر يتعلم مبادئ التربية السياسية على يد والده وعرف الكثير مما يجرى حوله من الفرق المتصارعة على الحكم ” الاتراك العثمانيين , المماليك ” وذلك لاحتكاكه بالتجار وتحدثهم بالسياسة وتحليل الاوضاع السياسية على الساحة وأن البلاد تمثل لعبة الفريسة و الوحش وأن الفريسة هى مصر والوحش الوالى العثمانى وزبانيته و المحيطين به من المماليك .
لقد عرف محمد كريم الكثير عن الرسوم و الضرائب التى كانت تفرض على الشعب والتى كانت تثقل كاهله وتزيد من معاناته.
وفى سن العشرين كان محمد كريم بشيء من الثقافة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية وحظ من المعارف الدينية .
كما كان يتمتع بلباقة فى الحوار ورهافة الحس بالإضافة الى خفة الروح وقوة شخصيته وجاذبيتها وحلاوة اللسان وسرعة الخاطر فتقرب منه الناس و أحبوه .
لقد أتصف بالأمانة وحسن التعامل مع الناس فذاع صيته فى كافة انحاء الاسكندرية حتى عرف اكثر الناس فيها ,وصار من من القبانيين المعدودين بها الى درجة أن لقبوه بلقب ” السيد ” مع أن مثل تلك الألقاب لا يتصف بها الا من يعودون بنسبهم بجذورهم الى الروضة النبوية الشريفة .
لقد شهد الصراع بين المماليك و الوالى العثمانى وكان الذى ينال العواقب هو الشعب المصرى خاصة الصراع بين على بك الكبير و الوالى العثمانى المتغطرس ” راقم باشا “ والذى ادى الصراع بينهما الى عزله من قبل ” على بك الكبير ” رغم أنف السلطان العثمانى وقد سائه خيانة ” محمد بك ابو الدهب ” ضد سيده على بك الكبيرفقد عادت مصر الى الفوضى من جديد بسبب الصراع العثمانى المملوكى من جهة الصراع المملوكى على شياخة البلد ” مراد بك – ابراهيم بك ” من جهة أخرى .
وفى خضم ذلك رأى مراد بك فى محمد كريم قوى الشخصية فولاه نائبا عنه فى الاسكندرية مما سيجعله قادرا على إشاعة الامن فيها و جمع الضرائب منها وعينه حاكما على الاسكندرية و مديراً لجماركها و مشرفاً على ثغرها كما أسند إليه ثغر رشيد .
فأصبح محمد كريم محافظاً على الاسكندرية ورشيد حتى مجئ الحملة الفرنسية لمصر .
واجتهد محمد كريم فى عمله الجديد وأصبح مثلا للحاكم العادل حيث رسم لنفسه مجموعة من الاهداف التى ألتزم بها خلال ممارسة المسئولية و تتمثل هذه الاهداف فى :
رفع المظالم عن الناس .
توفير الخدمات لهم .
نشر الامن فيما بينهم .
ولقد ساعده على تنفيذ أهدافه بالرغم من الصراعات الدائرة و الظلم الواقع على كاهل المصريين قوة شخصيته و حزمة مع اللين و العفو فقد كان يقوم بجمع الضرائب المفروضة مع مراعاة أحوال الاهالى فلا يحملهم مالا طاقة لهم به وتظهر طهارة يدة وعفة نفسه فى أنه كان يستغل جزء من تلك الاموال على إصلاح شئونهم ورعايتهم فقد كانت الاسكندرية فى ذلك الوقت مدينة صغيرة يبلغ تعدادها 8.000 نسمة عمرانها متهدم وبيوتها أشبه بمبانى القرى و شوارعها ضيقة كثيرة التعاريج ومعظم سكانها فقراء … فالفرق كبير بين ذلك العصر وما كانت عليه سابقا وما هى عليه الان من العظمة و الجمال .
محمد كريم و الحملة الفرنسية
لقد أختلف المؤرخون فيما بينهم فى تقدير أهمية تلك الحملة الفرنسية حيث بالغ البعض فى تقدير أهميتها من حيث اعتبرها البعض انها مفتاح التقدم لكل ما حدث من تطور فى مصر.
وقال البعض انها لم تكن سوى وسيلة لأستثارة عزائم كانت تسعى للتعبير عن نفسها .
ويمكن أن نؤكد أن الحملة الفرنسية حينما جاءت إلى مصر كان الصراع بين المماليك وبين الشعب على اشده فقد ثار المصريين عام 1795 م ثورة ضخمة ضد أمراء المماليك عرفت فى بعض مراجع المعاصرة ب ” ثورة العهد الاعظم المصرية ” تشبها بثورة النبلاء بإنجلترا ” الماجنا كارتا ” والذى فيه أقر الملك جوان الثانى عام 1215 م بعدم فرض ضرائب على الشعب الا بموافقه ممثليه من النواب .
وقد حصل الشعب على وثيقة تاريخية من المماليك و على رأسهم شيخى البلد ” مراد بك و ابراهيم بك ووقعها بخاتمه الوالى العثمانى و سميت تلك ” الحجة الشرعية “
لقد جاءت الحملة الفرنسية الى مصر بقيادة بونابرت وكان محمد كريم لا يتجاوز من العمر الستين عاما وتصادمت احلام كلا الرجلان رجلا يدافع عن وطنه و رجلا حالماً طامعا فى انشاء امبراطورية قاعدتها مصر .
فقد بدأ تجهيز الحملة 12 أبريل 1798م وكانت مؤلفة من 134.000 جندى وضم ايضا حوالى 500موظف وصحبت الحملة لجنة عملية يرأسها العالم الفرنسى ” كافاريلى ” وقد تسلل إلى الحملة ايضا حوالى 300إمرأة من زوجات الرجال المشاركين فيها .
وقد حمل نابليون معه اول مطبعة تدخل مصر زودها بحروف كاملة لاتينية و يونانية و أستحدث فى مصر حروفاً عربية ورافقه أربعة مترجمين على رأسهم المستشرق الفرنسى ” دى فنتور “
وقد نظم نابليون جنوده فى 5 فرق وضع على رأسها الجنرالات ” ديزييه و كليبر و باراجيه و رينييه و بون “وجعل على رأس المدفعية الجنرال ” دين مارتن ” وعلى الفرسان الجنرال ” ديماس “
وجاءت الحملة لكى تنصر 65 تاجرا فرنسياً ضد المماليك .
اسندت حكومة الادارة لنابليون قيادة الحملة مع اسناد مهام له فى صورة بنود
البند الاول : تقرر إعطاء القيادة البحرية و البرية لبونابرت
البند الثانى:فقد طلب من القائد العام طرد الإنجليز من كافة ممتلكاتهم فى الشرق ومن الجهات التى يستطيع الوصول إليها و التغلب عليها وبالأخص المراكز التجارية فى البحر الأحمر
البند الثالث :خاص بتنفيذ مشروع لربط البحر الاحمر بالبحر المتوسط واتخاذ كافة الوسائل لتسيطر فرنسا على البحر الاحمر والتجارة فيه
البند الرابع : كلف نابليون بونابرت بالعمل على تحسين أحوال المصريين
البند الخامس : يوصى بالمحافظة على العلاقات الحسنة مع السلطان العثمانى
البند السادس : على ان تظل هذه الاوامر و التعليمات غير المطبوعة وسرية
خرجت من ميناء طولون بفرنسا فى 19 مايو 1798 م و لا يعلم أحد بوجهتها خوفا من تسرب الاخبار لإنجلترا وتوجه فى البداية لجزيرة مالطة الذى أحتلها من فرسان القديس يوحنا حيث في 9 يونيو ظهر الأسطول الفرنسي إزاء سواحل مالطا ولقد كان الأدميرال الانجليزى نيلسون ” قد أسر قبل إبحار قافلة نابليون بيومين سفينة فرنسية صغيرة وعلم من استجواب بحارتها أن استعدادات ضخمة تجرى فى طولون لخروج حملة عسكرية ولكنه عجز على معرفة وجهتها ، وكانت حكومة الإدارة قد قدمت رشوة لرئيس جماعة فرسان مالطا وذوي الشأن فيهم لتكون مقاومتهم شكلية ونتيجة لهذا استولى الفرنسيون على الحصن المنيع الممول جيدا في هذه الجزيرة بسهولة ولم يفقدوا في سبيله سوى ثلاثة رجال• وتأخر نابليون في الجزيرة أسبوعا ليعيد تنظيم إدارة الجزيرة على نمط الإدارة الفرنسية وكان ألفريد ده ڤينه الذي سيصبح شاعرا فيما بعد يومئذ في الثانية من عمره، وقد قدموه لنابليون، فرفعه وقبله، وقال ألفريد – فيما بعد – عندما أنزلني بعناية إلى سطح السفينة، كان قد كسب إلى جانبه، عبداً آخر يضاف إلى عبيده. وعلى أيه حال فإن نابليون ذلك الرجل الشبيه بالإله عانى دوار البحر طوال فترة الإبحار إلى الإسكندرية تقريبا، وفي هذه الأثناء درس القرآن.
وأطلق سراح المسلمين المعتقلين بها ليتركوا اثر طيب لدى المصريين قبل وصول الحملة وأسر حوالى ألفين من أهلها يجيدون العربية ليصبحوا مرشدين له , ولقد شعرت إنجلترا بسعى فرنسا لاحتلال مصر
ففى 27 يونيو قام الاميرال ” نيلسون ” المكلف بتتبع الاسطول الفرنسى بإرسال الكابتن ” هاردى ” على ظهر السفينة ” موتين ” ليعرض على المدينة حماية الاسطول البريطانى ولكن ” محمد كريم ” حاكم المدينة رفض تلك الحماية بقوله .
” إن هذه بلاد السلطان وليس عندنا أوامر بذلك وإن الفرنساوية غير ممكن أنهم يحضرون إلى بلادنا ولا لهم فى أرضنا شغل , ولا بيننا و بينهم عدواة ” وعندما يأس ” هاردى ” من محمد كريم لم ينس ان يهدده بقوله ” إنكم سوف تندمون على عدم قبولكم إيانا “
وفى هذا ذكر الجبرتى فى كتابه مظهر التقديس ” أنه يوم الخميس الثامن من شهر يونيو حضر الى الثغر عشرة مراكب من مراكب الانجليز ووقفوا على البعد بحيث يراهم أهل الثغر وبعد قليل حضر خمسة عشر مركباً ايضا فأنتظر أهل الثغر ما يريدون وإذا بفايق صغير مكون من عشرة أنفار واجتمعوا بكبار البلد و فيهم قائد الثغر ” محمد كريم ” فأخبروهم أنهم حضروا للتفتيش على الفرنسيس لانهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندرى اين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم , “
فلم يقبل السيد محمد كريم لأنه ظن انها مكيدة وجاوبوهم بكلام خشن
فرد رسل الانجليز ” نحن نقف بمراكبنا فى البحر محافظين على الثغر , وتمدونا بماء وزاد بثمنه “
فكان رد محمد كريم هذه بلاد السلطان , وليس للفرنسيس ولا غيرهم عليها سبيل , فاذهبوا عنا “
وهددهم انهم اذا لم يغادروا الميناء سيطلق عليهم المدافع والتى كان يبلغ عددها 4 مدافع قديمة عفا عنها الزمن .
وصول الحملة إلى الاسكندرية :
وصل للإسكندرية ” نابليون بونابرت ” و أرسل إلى الثغر السفينة الفرنسية ” جوتو ” لتلتقى بالسفير الفرنسى ” مجالون ” لاخباره بوصول الحملة و يستعلم عن أحوال الثغر و أهله وعن حال الفرنسيين به .
فى 2يوليو 1798 م وفى اول بيان أذاعه على الجنود قبل النزول الى البر فى الاسكندرية أكد الهدف قائلا :
” أيها الجنود , سوف توجهون إلى إنجلترا الضربة القاضية التى لم تكن تتوقعها أو تخطر لها على بال
و سوف نقضى على المماليك عملاء انجلترا و الذين يعملون لحسابها و يحاربون تجارتنا و ينزلون بهم كل ضروب الإهانة سوف نسحقهم ولن تقوم لهم قائمة بعد بضعة ايام من هبوطنا .
أن المدينة الاولى التى ننزل اليها تستمد اسمها من الاسكندر الاكبر , وهو الذى أقامها و فى كل شبر و خطوة سوف نجد أثر أو ذكرى نستلهمها فى معاركنا و إنجازنا “
وعقب ذلك أرتدى نابليون قلنسوة و عباءة شرقية و قام ” نابليون بأنزال خمس الاف جندى فى منطقة ” الدخيلة و العجمى ” غرب الاسكندرية وقد وصلت تلك القوات لأسوار المدينة و إتخذ نابليون من ” منطقة عمود السوارى ” معسكراً له يتابع منه القوات .
مقاومة محمد كريم للحملة الفرنسية
ولقد حدثت مقاومة من حاكم الاسكندرية محمد كريم و الاهالى للقوات الفرنسية فسرعان ما رأه القناصة العرب حتى أنطلقوا فى شوارع المدينة يدقون بتكبيراتهم و صيحاتهم ناقوس الكفاح وهب الأهالى من ديارهم إلى الشوارع كل يحمل ما ملكت يداه من سلاح بدائى ولقد قرر الزعيم محمد كريم و مشايخ المدينة مواجهة الاحتلال و المقاومة فقد أعتلى كل شيخ منهم مع من اجتمع لديه من المقاتلين أسوار المدينة و أسطح المنازل و تحصنوا خلف الأبواب و النوافذ وقد شاركهم شرف الدفاع والكفاح النساء والاطفال وتحصن محمد كريم ومعه عدد من الفرسان لا يتجاوز عددها أربعمائة فى قلعة قايتباى انتظاراً لمجئ نابليون.
ولقد أرسل الزعيم محمد كريم عندما رأى خمسمائة سفينة تحيط بالميناء الى ” مراد بك ” قائد المماليك فى القاهرة رسالة يقول فيها .
” إن العمارة التى حضرت مراكب عديدة مالها أول يعرف , ولا أخر يوصف لله ورسوله داركونا بالرجال “
ولقد أنعقد الديوان و اتهم مراد بك الدولة العثمانية بأنها وراء هذه الحملة وتم نفى الوالى العثمانى فى حين كان ” نابليون ” يقسم قواته لثلاث فرق .
الاولى الى الغرب بقيادة ” مينو “
الثانية فى الجنوب بقيادة ” كليبر “
الثالثة بقيادة ” بون “
ومع ان الاسوار كانت ضعيفة و التحصينات سيئة الان ان المدافعين من داخل المدينة أمطروا الفرنسيين بوابل من الاحجار و الرصاص من كل جانب من أسطح المنازل و نوافذها انصبت عليهم كالمطر الجارف فقد انهال على رجال الحملة وابل من الرصاص من احدى النوافذ اطلقها رجلا وزوجته وظل يطلقان الرصاص حتى اقتحم منزلهما فرقة من جنود الحرس فمثلو بهما أبشع تمثيل واسفل القلعة دارت معارك طاحنة بين الاهالى و الغزاة فقد فيه بونابرت بعض قواد جيشه الكبار وعلى رأسهم الجنرال ” ماس ” وخمسة ضباط اخرين كم اصيب الجنرال ” مينو ” بضربة حجر على رأسه أسقطته من أعلى السور الذى يشرف منه على هجوم رجاله كما أصيب الجنرال اسكال برصاصة من أحد أفراد المقاومة الشعبية فأصابته بجرح كبير فى رأسه أما الجنرال كليبر فقد أصيب بطلق نارى فى جبهته كاد يقضى عليه .
وعندما رأى نابليون ان مقاومة الاهالى العزل افقدته فى ساعتين كما ورد فى مذكراته بأن مقاومة الاهالى أزدادت شراسة فأفقدته أكثر من ثلاثمائة .
فأضطر الى مفاوضة كبار الاهالى من الشيوخ طالباً منهم التدخل للكف عن القتال واما سيندمون اذا استمروا على المقاومة فأذعن الاهالى .
اما محمد كريم فقد ظل معتصماً بالقلعة مع رجاله , وبعث إليه بونابرت يطالبه بالتسليم فأبى وظل يقاوم بأستماته ولكنه وجد ان المقاومة لا تجدى وأن المدينة معرضة للتدمير وأن مالديه من عتاد أضعف من أن يقاوم هذا الجيش العظيم الذى هزم الكثير من الجيوش الاوربية كما قام ” أدريس بك ” قائد السفينة العثمانية الراسية بالميناء بعرض خدماته للتوسط فى تسليم المدينة فكلفه نابليون بأخبار الاهالى و المشايخ و العلماء الموجودين بها ان لا مزيد من المقاومة والا سيضطر للقضاء عليهم جميعا بمدافعه و قواته .
إضطر محمد كريم إلى الكف عن القتال لقلة مامعه من الذخيرة وخوفاً على المدينة من المزيد من التدمير وتلقاه بونابرت لقاء البطل للبطل وفى مجلس جمع مشايخ المدينة و أعيانها قال له
” لقد أخذتك والسلاح فى يدك , وكان لى أن أعاملك معاملة الأسير ولكنك استبسلت فى الدفاع بشجاعة ولما كنت أعد الشجاعة عنصرا لا ينفصل عن الشرف فإننى لايسعنى إلا أن أعيد إليك سلاحك أمل أن تبدى للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة رديئة “
لقد قدر بونابرت فى السيد محمد كريم روح البطولة والإقدام فأراد أن يستميله اليه فأعاد اليه سلاحه ولم يمسه بسوء , ثم أمر برسم صورة له لحفظها لديه وتقبل ” محمد كريم ” ان يدخل ظاهريا فى صفوف الاعداء ويزرع الشوك لهم فى طريقهم وذاك أيسر أن يزرع له من أن يكون بعيدا عن مسرح الأحداث .
* ولقد ورد فى الرسالة التى أرسلها نابليون لحكومة الادارة وصف فيها أهل الاسكندرية ” أن الاهالى جعلوا كل بيت قلعة يتحصنون فيها و يدافعون عن مدينتهم بكل بسالة “
* كما كتب الجنرال ” برتييه ” رئيس أركان الحملة فى رسالته إلى الخارجية الفرنسية بتاريخ 6 يوليو 1798 يقول فيها ” إن الاهالى دافعوا عن اسوار المدينة دفاع المستميت “
يقول الجبرتى عن دفاع الاهالى:-
” كل ذلك و أهل البلدين يدافعون عن بلدهم وعن أنفسهم و أهلهم ولما أعياهم الحال وعلموا أنهم مأخوذون بكل حال , وليس عندهم للقتال استعدادا أخلوا الابراج من ألات الحرب و البارود , طلب أهل الثغر الأمان فأمنوهم ورفعوا عنهم القتال ومن حصونهم أنزلوهم ونادى الفرنسيس بالامان فى البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فألزمهم بجمع السلاح و إحضاره إليهم و أن يضعوا الجوكار فى صدورهم فوق ملبوساتهم “
وقد سجل مسيو ” فيفيان ” أحد ضباط الحملة الفرنسية الذى كان حاضرا هذا المجلس التأثيرات التى لاحظها على وجه السيد محمد كريم بعد إعلان العفو عنه بقوله .
” لقد لاحظت على ملامح هذا الرجل الذكاء و الدهاء و كأنما كان يكتم عواطفه عنا”
مما أدى ذلك الى تسليم ” الزعيم محمد كريم ” المدينة و دخلها ” نابليون ” بقواته وبالرغم من التسليم الا انه واجه مقاومة من الاهالى ايضا .
وقد قدر ” بونابرت ” خسائر الجيش الفرنسى فى الهجوم على الاسكندرية فى رسالته لحكومة الادارة بثلاثين قتيلا , وثمانين إلى مائة جريح وقدرها بعد ذلك فى مذكراته بثلاثمائة ما بين جريح و قتيل , و أمر بدفن قتلى الفرنسيين حول عمود السوارى فى أحتفال عسكرى كبير , ونقشت اسماؤهم على قاعدة عمود السوارى .
بينما خسرت الاسكندرية من سبعمائة الى ثمانيمائة بين قتيل و جريح .
كما قام بتزيع منشورات على الاهالى فى 2 يوليو 1798م ونص المنشور كما أورده المؤرخ الجبرتى .
( ” بسم الله الرحمن الرحيم لا إله الا الله ” لا ولد له , ولا شريك فى ملكه , من طرف الجمهور الفرنساوية المبنى على اساس الحرية و التسوية السر عسكر الكبير بونابارت أمير الجيوش الفرنساوية , يعرف أهالى مصر جميعهم أن من زمان مديد السناجق الذين يتسلطنون فى البلاد المصرية يتعاملون بالذل و الاحتقار فى حق الملة الفرنساوية , ويظلمون تجارها بأنواع التعدى فحضر الان ساعة عقوبتهم واحسرتاه من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الابازا وغيره يفسدون فى الاقاليم الاحسن الذى لا يوجد فى كرة الارض كلها أما رب العالمين القادر على كل شئ فقد حتم انقضاء دولتهم , يأيها المصريين ” قد يقولون لكم أننى ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه , وقولوا للمفترين إننى ما قدمت إليكم إلا لكما لأخلص حقكم من يد الظالمين أننى أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه و تعالى و أحترم نبيه محمدا , والقرأن العظيم ,وأن جميع الناس متساوون عند الله وأن الشئ الذى يفرقهم من بعضهم بعضاً فهو العقل و الفضائل و العلوم فقط وبين المماليك ما العقل و الفضائل والمعرفة التى تميزهم عن الاخرين و تستوجب أنهم يتملكون وحدهم كلما يحلوا به حياة الدنيا حيثما توجد أرض مخصبة فهى مختصة للماليك و الجوارى الاجمل و الخيل الاحسن و المساكن الاشهى فهذا كله لهم خاصاً . إن كانت الارض المصرية ألتزام للمماليك فليونا الحجة التى كتبها لهم الله فليكن رب العالمين هو رءوف وعادل على البشر بعونه تعالى من اليوم و صاعداً , لايستثنى أحدا من الاهالى عن الدخول فى المناصب السامية وعن أكتساب المراتب العليا فالعقلاء و الفضلاء و العلماء بينهم سيدبرون الامور , وبذلك يصلح حال الامة كلها )
ووزع هذا المنشور على الاهالى عند دخوله المدينة كما أرسله الى بالقى الاقاليم التى ستمر عليها الحملة مع الاسرى و الملطيين لكى يدخل الناس فى الامان و الطاعة .
كما أصدر نابليون خمسة أوامر كان على المصريين الخضوع لهم :
تقوم كل قرية واقعة فى طريق الجيش الفرنسى برفع العلم الفرنسى و أرسال نواب عنها لتقديم الطاعة .
كل قرية تقاوم الفرنسيين تحرق بالنار .
كل قرية تعلن الطاعة و تقوم برفع العلمين الفرنسى و العثمانى .
على المشايخ بكل قرية التحفظ على أملاك المماليك .
على الناس الانصراف لأعمالهم و عبادتهم والدعاء للسلطان العثمانى و الحكومة الفرنسية ويقومون بلعن المماليك .
لقد أراد بونابرت أن يبدى للأهالى قدرا من التسامح فأصدر أوامر بحرية العبادة كما أمر جنوده بالبعد عن السلب و النهب , وترك امر القضاء فى أيدى المماليك , كما أوضح أختصاصات ديوان الاسكندرية وهى النظر فى شكاوى الاهالى و احتياجاتهم ولقد تألف من ” محمد كريم و الشيخ المسيرى و خمسة من الاعيان ” لمعاونة كليبر فى حكم المدينة .
وترك احد ضباط الحملة الكبار و هو القائد ” كليبر ” حاكما للإسكندرية و ” محمد كريم” محافظاً عليها
كما عين الجنرال ” مينو ” حاكما على رشيد
وغادر نابليون الاسكندرية فى 7 يوليو 1798 م وقد أوصى الجنرال ” كليبر ” أن يبذل كل ما بوسعه للحفاظ على العلاقات الودية بين الفرنسيين و الاهالى إلا انه فرض على الاهالى غرامة حربية قدرها 150 ألف فرنك فرنسى
ولقد ذكر احد الضباط المشاركين فى الحملة عن وصف اهالى الاسكندرية وهو” جوزيف مارى مواريه
“سكان الاسكندرية وهم اول من وقعت عينى عليهم من الافارقة فتلك هى الصورة التى انطبعت فى ذهنى عنهم بصفة عامة هم أشداء , مفتولو العضلات , طوال القامة , بشرتهم بين السمرة الخمرية و الداكنة , لا يستر اجسامهم سوى بعض الاسمال البالية التى تلتف بصورة غريبة حول اجسادهم , ويضعون على رأسهم خرقا ملفوفة كعش العصافير و يسمونها عمامة وهم لا يرتدون جوارب أو احذية كما يسير البعض كما شكلتهم الطبيعة , وتلك هى الطبقة الفقيرة من الشعب وهم مزارعون يعملون لدى المماليك الذين يملكون كل شئ من بيوت و أراض و ممتلكات يحصلون منها على عائد سنوى كبير ولا يختلف رداء الاغنياء عن الفقراء إلا بجودة وجمال الثوب ……… “
كما يسهب فى وصف البيوت و الاماكن التى مرت عليها الحملة فى الاسكندرية .
أما بالنسبة للزعيم محمد كريم
عندما عينه ” نابليون ” محافظاً على المدينة ليستميله الى الفرنسيين و أقناعه بالتعاون معهم او على الاقل الوقوف على الحياد وكان بالاضافة لذلك إرضاءاً لأهل الاسكندرية وكتب نابليون لأحد مترجمى الحملة المدعو ” فيفيان دينون ” ليبلغ محمد كريم ذلك الوضع وقد دخل ” دينون ” على نابليون الذى أجبره بإخلاص ” الحاكم المصرى ” ورأى من الحكمة أن يحتفظ به فى المنصب الذى كان يشغله .
وكان الخطاب الذى وجهه نابليون لمحمد كريم على النحو التالى :-
إلى السيد ” محمد كريم “
” المعسكر العام بالإسكندرية فى 19 ” ويدور ” من السنة السادسة على مرور ثورة فرنسا ” 7 يوليو سنة 1798 م ” لقد سر القائد العام سرورا تاما من الخطة التى سلكها محمد كريم منذ قدوم الجيش الفرنسى و إعراباً عن هذا السرور عينه فى وظيفة محافظ دائرة الاسكندرية و ستصل اليه الاوامر بواسطة الجنرال كليبر القومندان العام للجبهة وهذا لا يمنعه ان يراسل القائد العام متى شاء و على الجنرال كلير أن يطلب منه كل ما يقتضيه مهام الجيش الفرنسى .
محمد كريم قائد المقاومة السرية ضد الغزاة .
لقد عاد محمد كريمإلى منصبه وهو أشد كرها لأعداء الوطن فكان شديد الحزن على ما ألت له الاسكندرية و أهلها وعلى كل بيت يبكى لما سقط منه صرعى من الاحتلال كما انه جعل مدينة الاسكندرية فى شبه حصار بحرى شل حركة السفن وعطل التجارة التى هى أكبر مورد لثرواتهم فأصبحت البيوت خالية من الزاد و البطون خاوية و مجالس السمر وحلقات الانس قد أنفضت ورأى حال البلاد و العباد التى يبكى لها القلب حرقتاً .
وصمم على المقاومة وان لا ينعم المحتل بالراحة و الامان فى البلاد و بينما هو يخطط لذلك جاءه أحد المترجمين من رسل الجنرال كليبر الذين يتولون تبليغه أومر هذا القائد وقد عرف منه ان كليبر قد عزم على إيفاد كتيبة عسكرية بقيادة الجنرال ” ديبوى ” الى خارج الإسكندرية للتفتيش على الحاميات المعسكرة فى بعض قرى البحيرة .
فأتصل برجال المقاومة بالبحيرةو أصدر الاوامر للكتائب الفدائية بإبلاغ الاهالى بإخفاء الدواب و الماء و الجمال عن الكتيبة الفرنسية ليعطل مهمتها التفتيشية لوضع العراقيل وزرع الاشواك فى طريقهم
كما بدأ يبث دعوة المقاومة سراً فى نفوس مواطنيه و العربان الضاربين حول الاسكندرية ضد الجيوش الفرنسية و تحريضهم على الاحجام عن مدهم بأية مساعدة أو معونة وشدد المقاومة السرية عليهم فى كل مكان و نشر روح الكراهية ضدهم فيما حلوا و حيثما ساروا .
ولقد ظهرت أثار تلك الدعوةعندما خرجت كتيبة من الاسكندرية يوم 17 يوليو 1798م ولكنها لم تسطع التزود بشئ من الجمال أو دواب الحمل , التى أخفاها أهل الاسكندرية وقت قيام الكتيبة و التى لم تلبث أن ظهرت بعد مغادرتها ونتيجة للمقاومة التى حشدها ” محمد كريم ” من عربان البحيرة والاهالى وجدت الكتيبة مقاومة عنيفة كلما تقدمت فى السير حتى بلغت ذروتها فى دمنهور حين أنقض عليها العربان من كل حدب وصوب يقومون بنهب و قتل جنود الكتيبة ففقد منهم ثلاثون ما بين قتيل و جريح واضطر الجنرال “ديبوى ” أمام عنف المقاومة وامام ضراوة التصدى الشعبى الى العودة للاسكندرية فى 26 يوليو وقد شجعت هزيمة” ديبوى ” على القيام بعدة هجمات ضد جنود الحملة بجهة عمود السوارى فقتلت بعضاً منهم وجرحت البعض الاخر .
لم يكن الفرنسيون يتوقعون تلك المقاومة وقد جاء فى تقرير ديبوى الذى كتبه الى قيادة الحملة ” انى أسف كثيراً لاننى لم اجد فى جولتى هذه مصريا واحدا يحمل الشارة الفرنسية”
ولقد أستنتج ديبوى من جولاته ان هناك مخابرات سرية بين الاسكندرية والمدن التى مرت بها الفرق ولاحظ أن اهالى دمنهور كانوا على علم بقدوم الفرنسيين قبل دخولهم وان الاهالى كانوا مستعدين لحربهم ومن ثم استعدوا لهذا اللقاء .
وبدأ كليبر يستقصى مع الجنرال ” ديبوى ” كيفية وصول أخبار الزحف الفرنسى على دمنهور ومن هم الذين وراءه ؟
ونظرا لما ابداه ” محمد كريم ” من الفرح والارتياح توجهت له أنظار كليبر بالشك بأن يكون له يداً فى أحباط تلك الحملة .
خصوصا مع كره ” كليبر ” له لانه كان يكره وجوده معه شريكا فى الحكم بالاضافة الى اعجاب نابليون بشجاعة الشيخ , وان كليبر كان يشعر ان ” محمد كريم ” يمثل رمزا للفدائية و للمقاومة بالنسية للشعب المصرى.
القبض على محمد كريم
فتم القبض عليه وتم أرساله الى أبى قير حيث تم اعتقاله بالباخرة الفرنسية ” أوريان “او ” أورينت ” وهى أحدى قطع الاسطول الفرنسى الراسية والمعقود لوائها للأمير ” برويس ” وطلب منه ان يتعامل مع ” محمد كريم ” معاملة كريمة و لعل ذلك بسبب خوفه من نابليون و السبب الثانى انه لم يكن متأكداً من الاتهام الذى وجهه لمحمد كريم ومن معه
ولقد وضح ” كليبر ” فى الرسالة التى أرسلها للقائد ” برويس ” حول سبب اعتقال محمد كريم” وبعض حاشيته .
” لقد رأيت أعوان هذا الرجل يبقون ما أبقوا اّملين عودته اذا هو ظل قرسيا من المدينة لذلك رأيت قطعا لهذا الامر أن ارسل به إليك لكى تعتقله , أنى لم أقصد بذلك إلا حماية الجمهورية الفرنسية “
وفى رسالة موجهة من كليبر ل محمد كريم“
” أنى لم أقصد من أرسالكم الى بارجة فرنسية الا ان امكنكم من ان تلحقوا بالقائد العام لأنه بعث فى طلبكم فبعثت بكم الى قومندان الاسطول الفرنسى ليسهل لكم الوصول الى القاهرة عن طريق النيل فإذا ما وصلتم للقائد العام أمكنكم ان تثيتوا له انكم تستحقون ما وضعه فيكم من الثقة , وفى انتظار سفركم ارجو ان تبلغونى بما ترغبونه و سأمر بألا يمنع عنكم ما تطلبون “
ولقد قابلة القائد ” برويس ” بكل احترام وارسل رسالة لنابليون يخبره فيها
” اننى افردت له غرف كبيرة و لحاشيته و أنزلته نزلا كريما وانى اعامله بكل رعاية و احترام معتقدا بذلك اننى احقق رغباتكم الى ان تصدروا أوامركم فى شأنه وتبتوا فى مصيره “…
ولقد كان الهدف من اعتقال كليبر من الاسكندرية يخبر نابليون بما حدث فى دمنهور و الخسارة التى منيت بها الحملة وشكه ان المحرض الاول للأهالى و المبلغ لهم هو محمد كريم .
لقد أرسل كليبر لنابليون ما وقع فى يده من بعض مكاتبات متبادلة بين محمد كريم ورؤساء العربان فى البحيرة وذوى الشأن فيها , وأن ذلك هو دليله على خيانة محمد كريم وانه جمع أعيان الاسكندرية يوم اعتقاله ونقل إليهم ارتياب السلطات الفرنسية فى إخلاصه للجمهورية الفرنسية , وطالبهم بانتخاب حاكم غيره و أفاد كليبر باعتراضهم فى البداية ولكنهم أذعنوا لأمره عندما هددهم بأنهم إن لم ينتخبوا حاكماً غيره سوف يقوم كليبر يتعيين واحداً من قبله وقد لا يكون على هواهم و أخطر كليبر نابليون أن الاهالى اختاروا السيد ” محمد الشوربجى الغريانى ” بدلا من السيد ” محمد كريم وأخطر كليبر نابليون أن الغريانى هو ضالة الفرنسيين , وأبدى استعداداً كبيراً للتعاون مع الفرنسيين خصوصا ما تقاعس عنه محمد كريم فى تحصيل الغرامات و القروض الإجبارية على تجار الاسكندرية و أعيانها سداً لنفقات الجيش الفرنسى .
وكان محمد كريم قبل القبض عليه قد وقف مع أهالى مدينة الاسكندرية و تجارها لمناسبة ضريبة فرضت عليهم لسد نفقات الجيش الفرنسى وأن محمد كريم عارض تلك الضريبة مما جعل كليبر يأسرها فى نفسه .
ولقد أرسل نابليون رسالة الى كليبر التالية :
” فور اختيار محمد الغريانى حاكما للاسكندرية من قبل أعيانها و التجار فيها أخبرنى السيد محمد الغريانى قبوله وظيفة المحافظ وأن الاهالى يختلفون عن سائر أهالى القطر بأنهم صعب الممراس و أقرب الى القلق و الهياج و أبدى بعض استدراكات و ملاحظات تخص ادارة المدينة فأجبته على ملاحظاته بان الرجل الذى يتنبأ بمصاعب الوظيفة جدير بأن يعرف كيف يضطلع بها و يتغلب عليها و بذلك أقنعته بقبول المنصب .
وكان يعاون السيد محمد الغريانى الشيخ ” محمد المسيرى ” كبير العلماء فى المدينة وقد اولى طلبات كليبر من المحافظ الجديد تنفيذ الضريبة التى رفضها ” محمد كريم ” وهى عبارة عن 300.000 فرنك بجانب الغرامة السابق الامتناع عن تحصيلها 33.000 فرنك و طلب كليبر من العزبانى جمع هذا كله من الاهالى فى 24 ساعة ولو استخدم الشدة .
هذا يدل على مدى عظمة ” محمد كريم ” فى وقوفه ضد كليبر ووقوفه مع الاهالى ضد الاستعمار الغازى.
وقد جاء فى نهاية رسالة كليبر لنابليون .
” اّمل ان لا تأمر بعودته للإسكندرية خوفا من ان يستفحل أمره و يتضاعف نفوذه بين الاهالى “
ولقد أستجاب نابليون لرأى كليبر وطلب منه فى رسالة بتاريخ ” 30 يوليو 1798 م
رسالة يقول فيها ” إنى لا أوافق على اعتقال محمد كريم و حسب بل إنى أمر أمر فوق ذلك أن يعتقل كل من ساعدوه “
وطلب منه ان يرسل كريم و معاونوه مكبلين بالحديد إلى القاهرة تمهيدا للنظر فى أمرهم أمام محكمة عسكرية بتهمة الخيانة .
وفى اليوم التالى لأعتقال ” محمد كريم ” اصدر كليبر منشورا وزع على اهالى الاسكندرية بمختلف اجناسهم بتسليم كل ما يملكونه من الاسلحة وهدد ان من يتأخر منهم عن تنفيذ هذا الامر بعد 48 ساعة فإن جزاءه الاعدام وزاد فوق ذلك منشوره بأن من قتل أى جندى فرنسى سوف يهدم منزله و يعتقل مقابلة خمسون يؤخذون فى صورة رهائن إلى أن يظهر القاتل .
ونتيجة لتلك الافعال ركن اهالى الاسكندرية للهدوء و للسكينة ولم تعد هناك اى ثورات من الاهالى ممادفع كليبر للشعور بالراحة خصوصا بعد انتصار نابليون فى معركة أمبابة ” الاهرام ” .
ولقد تم أرسال ” محمد كريم ” بالاضافة إلى خمسين متهم معه باتأمر ضد الفرنسيين الى القاهرة .
وأمر نابليون فى رسالة لكليبر بتفتيش منزل محمد كريم بحثا عن أى أموال كانوا يعتقدون أنه يخيفها فى بئر منزله وهناك عثروا على دفاتر بها أحصاء بجميع أمواله و ممتلكاته .
وعند مرورة السفينة التى تنقل ” محمد كريم ” من رشيد أسقبلوها الاهالى بكل حفاوة و تقدير تقديرا لوطنية هذا القائد ضد الاحتلال ولم يسع الجنرال ” مينو ” حاكم رشيد إلا أن يسرع بأرساله الى القاهرة خشية ثورة الاهالى ضده .
التحالف الوطنى بين السيد ” محمد كريم ” والزعيم ” حسن طوبار “
ولقد حدث تحالف بين ” محمد كريم” و بطل أخر وهو ” حسن طوبار ” الذى كان زعيما لمنطقة المنزلة وهو بطل أذاق الفرنسيين ويلات من العذاب وكان يمتلك أسطولا كبيرا من مراكب الصيد ولم تكد تبدأ حملة بونابرت على هذه المنطقة حتى أتصل محمد كريم بالشيخ ” حسن طوبار ” الذى إتصل بدوره بمشايخ القرى و أهلها وراح ينظم صفوفهم و يثير الحمية فى صدورهم و يحرك فيهم روح الوطنية .
فقد نشبت معركة بين الفرنسيين و حسن طوبار ورجاله فما أن وصل الفرنسيين الى بلدة الجمالية و حلت سفنهم فى بحر أشمون من قله المياه فيه فانتهزت المقاومة الشعبية هذه الفرصة وراحت تمطرهم وابلا من الرصاص و الاحجار .
ونشبت معركة عنيفة دامت خمس ساعات انتهت بنصر الشعب المصرى و انسحب الفرنسيون ولكن بعد ان تمكنوا من اشعال النار فى هذه البلدة و أحراقها وكان النصر على الفرنسيين له صدى كبير فى نفوس الشعب فزاد ألتفافا حول حسن طوبار الذى كان يعتبر محمد كريم أستاذه فى الوطنية و المقاومة الشعبية .
وقد حاول الجنرال ” فيال ” بعد ذلك أن يجتذب إليه حسن طوبار مرة ثانية فحينما عين الجنرال فيال حاكما علي دمياط لم يكن يورق ذهنه شئ سوي شبح طوبار.. فأهدي اليه سيفا مذهبا ولم يشأ أن ينحيه عن منصبه. لكن حسن طوبار قابل ذلك بالسخرية الشديدة, فكيف يستميله سيف مذهب وهو يستطيع أن يسلح نفسه بالذهب تسليحا كاملا ولكن هذا الرجل كان يستمد قوته من سيرة البطل ” محمد كريم ” .
فقد رفض حسن طوبار مساومة الجنرال الفرنسى له وقال له :
لا جميل القول يغرينا
ولا رنين المال يطوينا
ولا عيد الحرم يثنينا
فحاول الفرنسيون القبض عليه بمعاونة بعض الاهالى الذين حاول الفرنسيون إغراءهم ولكنهم نسوا أن الشعب متضامن و متعاون معه بشدة .
ولقد زادت مقاومة حسن طوبار وسقى الفرنسيون نيران المقاومة عقب صدور قرار محكمة الاحتلال بإعدام ” محمد كريم “وأمتدت نيران الثورة الى دمياط , فقرر حسن طوبار أن ينتقل بمراكبه و جنوده و المشايعين له لمواجهة الفرنسيين .
وفى ليلة 16 من سيتمبر 1798 م تحركت أهالى البلاد المجاورة لدمياط و تحركت سفن حسن طوبار تشق طريقها نحو بحيرة المنزلة قاصدة شواطئ دمياط وهناك ألتقى الفلاحون القادمون من القرى بالشعب الثائر الهابط من سفن الصيد وكانوا مسلحين بالرماح و البنادقى وتوجه الجميع قاصدين دمياط للأشتباك مع الفرنسيين الرابطين هناك .
و أبتدأ القتال فكان أول ضحاياه الجنود المرابطين فى المواقع الامامية للمدينة مما جعل الفرنسيون يطلبون النجدة فجاءت لهم من كل مكان فتحول بهذا موقفهم من الدفاع الى الهجوم ودارت بينهم معركة وحشية بين الفريقين قتل فيها من الجانبين عدد غير قليل و اضطر المصريون للتراجع لعدم تكافؤ السلاح و تحصنوا بقرية الشعراء جنوب دمياط وقام أهالى عزبة البرج بالاعتداء على الحامية الفرنسية بها وهى قرية من قرى دمياط و جن جنون الجنرال ” فيال ” وفقد أعصابه و أمر جنوده , باقتحام القرى المجاورة و قتل كل من فيها من نساء ورجال و برغم تلك الفظائع لم تهدأ ثائرة ” حسن طوبار ” فظل يواصل دوره الرائع فى تنظيم المقاومة الشعبية و جمع نابليون قواده و أدرك أنه لا خلاص من الثورات الا بالتخلص من ” حسن طوبار ” كما تخلص من ” محمد كريم “
محاكمة محمد كريم و أستشهاده :
من عجائب الامور ان عقب مجيئه بيومين تم تدمير معظم سفن الاسطول الفرنسى على يد الاسطول الانجليزى فى موقعة ابى قير البحرية فأذا كان تأخر يومان لمات غرقاً ولكن كان قدره ان يرحل الى القاهرة لتزهق روحه رميا بالرصاص على يد الجلادين أنفسهم وقد أرسل نابليون إلى برسالتين الى فى شأن السيد محمد كريم الاولى موجهة إلى الاميرال ” برويس ” حوت مجموعة من التعليمات حول الاجراءت التى يجب ان تتخذ ضد محمد كريم بعد أن تأكد له خيانة محمد كريم من خلال معرفته بالرسائل المتبادلة بينه و بين مراد بك يستنجد به لمقاومة الفرنسيين .
وكان من ضمن الرسائل تلك رسائل رسالة ارسلها ” محمد كريم ” الى مراد بك بالقاهرة حيث جاء فيها .
” فى العشية السابقة على رسو الاسطول الفرنسى فى ميناء الاسكندرية إن العمارة التى حضرت مراكب عديدة مالها أول يعرف و لا أخر يوصف .. لله ورسوله أدركونا بالرجال “
وأوفد السيد محمد كريم لا يقل عن عن ثلاثة عشر رسولاً إلى القاهرة خلال الليل وهو خائف من الفرنسيين بقدر خوفهم مما ينتظهم من أخطار ومشاق “
تلك الرسائل هى التى اتخذها نابليون دليلا وقرينة على خيانة محمد كريم للجمهورية الفرنسية .
ولقد طلب نابليون من ” برويس ” شدة مراقبة ” محمد كريم ” ومن معه حتى لا يهربوا من السفينة .
أما الرسالة الثانية فقد كانت مرسلة إلى كلير وتكاد تشابه الرسالة الاولى وتكاد تشابه الرسالة الاولى ولكن زاد عليها ان نابليون علم بأن محمد كريم يحوز أموالا كثيرة مخبأة داخل بئر مطمورة وأن لديه سجلا خاصا أثبت فيه جميع ما يمتلك من مال و عقار وأن بعض الخدم يعرفون مقدار تلك الثروة وطلب منه أن يقوم بأعتقالهم و تهديدهم ليعترفوا بمكان تلك السجلات و الاموال.
وقد أمر نابليون كليبر بأن يقوم بتحصيل مبلغ ثلاثمائة ألف فرنك من السيد محمد كريم عن دفع المبلغ أو إذا لم يدفع على الاقل ثلثه فى مدة خمسة أيام , فعلى الجنرال كليبر أن يأمر بقتله رمياً بالرصاص .
وما كاد زورق الكابتن ” جوليان ” ينساب على صفحة النيل فى طريقه إلى الاسكندرية حاملا معه رسالتين إلى ” برويس ” و ” كليبر ” حتى فوجئ ” جوليان ” بالوقوع فى كمين أعده له الفدائيون , فقتل فيه شر قتله فى قريه ” علقام ” ( مركز كوم حمادة الان )
ظل محمد كريم ضيفا على الاميرال ” برويس ” حتى 30 يوليو 1799 م فى ظل كل احترام و تبجيل ولكن محمد كريم كان يشعر بالضيق من حبسه على البارجه .
وأضطر ” برويس ” تحت إلحاح بونابرت إلى أن يبعث بالشيخ محمد كريم إلى رشيد فى التاريخ المذكور ” 30 يوليو ” ومعه خطاب إلى الجنرال مينو حاكم المدينة بخصوصه .
وقال برويس فى خطابه إلى مينو :
” أنى لم أستطع أن أرفض رجاءه المتكرر البالغ نهايه التلطف وأرجوكم إذا نزل برشيد أن تعاملوه باحترام “
وما كاد محمد كريم يهبط مدينة رشيد حتى شاع ذكر قدومه فى أنحاء المدينة وما حولها من قرى , وهرعت الألوف لمشاهدته و السلام عليه , مما أدى الى دب الرعب فى قلوب الاعداء فقرروا التخلص منه بأن ينقل بسرعة الى القاهرة خوفا من ثورة اهل رشيد ضدهم
أرسل محمد كريم إلى القاهرة تحت حراسه مشددة مصحوبا برسالة من مينو لنابليون يقول فيها :
” إن السيد محمد كريم حضر إلى رشيد يوم 30 يوليو فحدثت حركة كبيرة فى المدينة للحفاوة به و تهنئته بوصوله و حيال هذه المظاهرات رأيت القبض عليه و إرساله إلى القاهرة خوفا من أستفحال أمره .
ووصلت السفينة التى ابحرت فى النيل الى شاطئ بولاق فى عصر اليوم الثانى عشر من شهر أغسطس و غادر محمد كريم السفينة إلى معتقله بعد غروب الشمس حتى لا يسود القاهرة الاضطراب و القلاقل وهو فى الاسر .
وظل فى محبسه عدة أيام منتظراً محاكمته .
تشكيل المحكمة وعملها :
تم تشكيل المحكمة برئاسة ” ديبوى ” حاكم القاهرة وأنعقدت الجلسة فى معسكر القيادة العامة ومعه مجموعة من الضباط الاقل مرتبة يصل عددهم إلى أربعة توسطهم ” ديبوى ” ببزته العسكرية ذات الألوان الزرقاء و الأشرطة الحمراء وقد وضع على صدره النياشين التى أحرزها فى ميادين القتال .
وكان الجنرال و أعضاء المجكمة يحملون وجها واحدا صورة طبق الاصل من وجه قائدهم ” بونابرت ” ذى السرعة التقليدية و النظرة النفاذة وكانوا فى جلستهم يميلون إلى الامام وقد أرتكزوا بذقونهم على أيديهم عابسى الوجوه .
وعين المستشرق الفرنسى ” فانتور ” مترجما بين هيئة المحكمة و محمد كريم وعلى بعد قليل من المنصة التى يجلس عليها أعضاء المحكمة جلس السيد محمد كريم فى وقاره المعهود يحرسه مجموعة من الجنود و الضباط من حملة البنادق ذات السناكى المثبتة فى أعلاها.
كان محمد كريم يجلس ثابت الجنان وفى يده سيحته الطويلة يلبس عمامة كبيرة وله لحية طويلة تبعث الهيبة فى النفوس وتفرض على الناظرين إليه الاعجاب و التقدير.
ونادى حاجب المحكمة باللغة الفرنسية ” فتحت الجلسة ” وبدأ فى أستجواب الزعيم محمد كريم
وسأله الجنرال ديبوى :-
لقد أثبت التحقيق أنك خائن ولست أهلاً للثقة التى منحها لك القائد العام , وأنك حرضت الناس وأهل البحيرة على الثورة ضد الجمهورية .
فرد ” محمد كريم “
إن الجمهورية هى التى خانت مبادئها اغتصبت- وطنى و قتلت الناس بلا شفقة ولا رحمة , لا لذنب سوى أنهم يدافعون عن بلادهم و نسائهم و أموالهم .
لقد حطمتم سجنكم الباستيل فى 14 يوليو 1789 وانقذتم أنفسكم من طغيان ملوككم و أعلنتموها ثورة على الظالمين ثم ناديتم بشعاركم حرية ومساواة و إخاء ولكنكم سرعان ما تنكرتم لهذا الشعار ونسيتم ما قمتم من أجله عندما دان لكم النصر وتملكتم شهوة الطمع و الاغتصاب فأنطلقتم من بلادكم وحرياتها و أصبح شعاركم ” الموت للشعوب و الحياة لفرنسا و حدها “
وذهل الحاضرون من بلاغة الشيخ خصوصا عندما طلب منه الامانه فى ترجمة كلامه مما أدهش الحاضرون من كلام شخص قاب قوسين أو أدنى للموت وساد الصمت المكان عندما حذره ” ديبوى بأن كلامه هذا سيقوده للاعدام .
فرد عليه ” محمد كريم ” فى جرأة .
أذا كان دفاعى عن بلادى و قول الحق سيقودنى للموت فمرحبا به فالموت حق و الاستشهاد فى سبيل الوطن غاية الشعوب الحرة التى تأبى الظلم و ترفض الاستعباد وأن كان قيامى بتحريض الشعب عليكم يعد خيانة منى فما أعظمها من خيانة , مادامت ستحرر مصر من قبضتكم و سيطرتكم الغاشمة ” ثم هب واقفا فى عصبية ظاهرة و قال :
” إن إيماننا بالله يفرض علينا أن نحب وطننا ونضحى فى سبيل أساعده وتطهيره من الغاصبين بدمائنا و أرواحنا فحب الوطن من الايمان كما قال نبينا صلوات الله عليه , وأن ما قمت به ضدكم هو تنفيذ لتعاليم ديننا الحنيف وأنكم اليوم بمحاكمتكم تسجلون على أنفسكم فى صفحات التاريخ أنكم قتلة سفاحون , وأن شعاركم الذى ناديتم به يوم ثورتكم ما كان الا ستارا زائفاً تخفون وراءه نياتكم الشريرة و أطماعكم نحو الشعوب الامنه المطمئنة .
أنكم ستؤكدون للعالم بموقفكم هذا و لمحاكمتكم لى ,أننا شعب عظيم ننشد الحرية و نضحى فى سبيلها بالنفس و النفيس و سيخلد التاريخ إسمى و أسماء المجاهدين من بعدى .
وقد أزداد غضب ” ديبوى ” اكثر من كلام ” محمد كريم ” و مد يده و أخرج من حفنة الاوراق التى أمامه رسالة لوح بها ل ” محمد كريم” انها بخط يدك أرسلتها ضدنا الى قصر مراد بك وفيها تحرضه ضدنا وهذا أثبات لا يقبل النقاش المراوغة .
فرد عليه محمد كريم
نعم أنها رسالتى وقد كتبتها بخط يدى استغيث به لقتالكم و طردكم من بلادى وان دفاعى ضدكم يوم نزلتم الى بلدى يبرهن لكم على اننى لا اقيم وزنا لحياتى , وإذا كنت أسف على شيء فليس أسفى أننى لم أنجح فى مقاومتكم بل لأننى اعتمدت على هذا المملوك المغرور الذى لولا غروره و جهله لما كنت اليوم ملقيا بين أيديكم .
لقد تأجلت المحاكمة لليوم التالى لإكمال الحوار وسماع الاقوال .
وكان رد محمد كريم الاخير :
” ستؤكدون للعام بموقفكم هذا و بمحاكمتكم لى انكم ظلمة كما ستثبتون أننا أمة تبغى الحرية و تضحى فى سبيلها لكل ما تملك و سوف , يخلد التاريخ إسم مجاهد رفع سلاحا ضد أعداء الحرية من أجل الحفاظ على حرية وطنهم .
لقد كان الحوار بين الضحية و الجلاد درسا من دروس التاريخ من أجل حماية حق المضطهدين فى مواجهة الغزاة المغتصبين .
ولقد توجه نابليون لرؤية خط سير المحاكمة ولم يسع نابليون إلا ان أوحى إلى المجلس العسكرى الذى شكل لمحاكمته أن يحكم عليه بالقتل رميا بالرصاص , مع مصادرة أمواله و أملاكه على أن يكون له الحق فى افتداء نفسه يثلاثين ألف ريال وكان أن نفذ المجلس العسكرى قرارات بونابرت , ولكن محمد كريم عندما سمع الحكم عليه قال لقضاته الفرنسيين :-
” لحظة أيها القوم , أما حياتى فلست متمسكا بها , ولا حريصا عليها فهى منتهية فى وقتها المحدد لها وقد .. وقد قال كتابنا العزيز .
” قل لن يصيبنا الا ماكتب الله لنا “
كما قال قرأننا المجيد .
” فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون “
وواصل محمد كريم أقواله :-
” أما أموالى فلتعلموا أننى ما أدخرتها لأشترى بها رحمتكم و أفتدى بها نفسى من الموت على أيديكم ولكننى أعددتها لحربكم و تنغيصكم إذا قدر لى أن أعيش وإذا مت فسيحمل علم الجهاد من بعدى أيد فتية و نفوس مخلصة ستجدون منها الأهوال و ستخرجون على أيديهم من بلادنا أذلاء مهزومين إن عاجلا أو أجلا .
وقد صدق السيد محمد كريم فيما قاله فى أعقاب الحكم الذى صدر عليه بعد جلسة محاكمة هزلية كان القضاه فيها هم الخصوم وكان الاعداء هم الجلادون وكان المغتصب هو الذى أتهمه بالخيانة .
ذهب شعب مصر يدافع عن وطنه فى ثورة عنيفة بعد شهر واحد من إعدامه وهى التى عرفت باسم ” ثورة ” القاهرة الاولى “ قامت فى وجه بونابرت .
وق أكد المؤرخون أن أكبر أخطاء نابليون هو أصداره الحكم بإعدام السيد محمد كريمفى السادس من سبتمبر سنة 1798 لان نابليون خان بذلك مبادئ الحرية و الدفاع عن شرف الوطنية .
لقد قابل محمد كريمالنطق بالحكم بصدر رحب ونفساً أبيه و أظهر جلداً وثباتاً ومرت الساعات وأطرق المترجم ” فانتور ” أن طرق باب المعتقل الذى يوجد فيه محمد كريم وطالبه بقبول دفع الفدية قبل مرور ال24 ساعة المحددة مؤكداً له أن بونابرت و هيئة المحكمة مصممة على تنفيذ الحكم بلا أدنى تأخير .
قال فانتور لمحمد كريم :-
” أنك رجل غنى , فماذا يضيرك أن تقتدى نفسك بهذا المبلغ …”
فرد عليه محمد كريم فى إباء و شمم بقوله :-
“إذا كان مقدور على أ أموت فلا يعصمنى من الموت أن أدفع هذا المبلغ وان كان مقدراً لى الحياه فعلام أدفعه .
كما حاول القنصل الفرنسى ” ماجلون “ أيضا مع محمد كريم فى أفتداء نفسه ولكنه قوبل بالرفض .
وعلم نابليون أن محمد كريم لن تلين قناته وإنه فهم لعبته التى كانت تعنى أنه فضل فدية نفسه على الشهادة بروحه فى سبيل وطنه مما يجعله يحظى يأحتقار شعبه , لذلك أصدر نابليون قرار بأعدامه فوراً .
أستشهاد البطل ” محمد كريم ” فى 6 سبتمبر 1798 م
لقد ذكر المؤرخ الجبرتى وصف لمشهد إعدام الشهيد محمد كريم:-
” فلما قرب الظهر , وقد إنقضى الاجل أركبوه حماراً , وأحاط به عدد من العسكر و بأيديهم السيوف المسلولة و يتقدمهم طبل يضربون عليها وشقوا به الصليبية إلى أن ذهبوا إلى الرميلة , و قاموا بقيده وكتفوه و ربطوه مشبوحا و ضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه ثم قطعوا رأسه ورفعوه على نبوت وطافوا به جهات الرميلة و المنادى يقول “هذا جزاء من يخالف الفرنسيس “
ولقد كانت اخر كلماته قبل أطلاق الرصاص عليه من جانب الفرنسيين موجهة للمصريين وهى : ” كونوا مثلا للتضحية .. اصمدوا فى وجه المستعمر وقاموا جبروته و طغيانه مهما كان العنف و العناء “
ولقد أخذ اتباعه رأسه مهللين ” الله اكبر ” و دفنوها مع جثته فى إحدى الترب التى كانت موجودة خلف جامع المحمودية بالقلعة .. والكل بين وجوم و حزن و ألم دفين ….
وهناك قول يقول بأن رأس الشهيد دفنت فى المنطقة الواقعة بين المكس و القبارى على طريق السكة الحديدية بجوار فرق الجراية .. حيث أطلق عليه الاهالى مقام ” سيدى كريم “
لقد أعتبر ” تيبودو ” أحد كتاب فرنسا اللامعين بعد أكثر من ربع قرن أن إعدام ” محمد كريم ” جريمة بشعة و قاسية ما كان لبونابرت أن يقدم عليها وقال فى ذلك :-
إن إعدام هذا الشريف هو أول عمل من التصرفات العدة التى وجهت فيها التهم إلى نابليون فى أثناء حملته على مصر .. لأن النفوس الحساسة تأثرت للخاتمة التى أنتهت بها حياة هذا الشريف النزيه الذى أعدم بأمر القائد العام على أن الجنرال كليبر كان أول من أقتنع بخيانته للجمهورية وهو الذى قبض عليه واتهمه لدى بونابرت وذلك لغيرة كليبر من مشاركته سلطانه ولانه وقف ضد رغباته بالاضافة إلى أن نابليون ظن أنه بالقضاء عليه سيقضى على المقاومة الشعبية التى تواجهه فى مصر كلها .
لقد أظهر ” محمد كريم ” للعالم أجمع عظمة الشخصية المصرية التى تضحى بروحها فداءاً للوطن وأظهر للعالم أجمع مدى وهم و سراب شعار الثورة الفرنسية ” حرية – أخاء – مساواة ” فقد أظهر فرنسا و ثورتها بوجهها الحقيقى وكذبها و أدعائها الديمقراطيه الكاذبة .
تكريم الدولة لمحمد كريم :
في عام 1953م تم تكريم محمد كريم ووضعت صورته لأول مرة مع صور محافظي الإسكندرية في مبنى المحافظة تخليداً لذكراه. كما أطلق اسمه على شارع التتويج وأصبح اسمه شارع محمد كريم (وهوالشارع الموازي لطريق الكورنيش ويبدأ من أمام الجندي المجهول وحتى ميدان المساجد). كما أطلق اسمه على احدى المدارس الخاصة بالإسكندرية (مدرسة محمد كريم بسموحة). وفي 27نوفمبر 1953 افتتح المسجد المجاور لقصر رأس التين وأطلق عليه “مسجد محمد كريم وقد صنع تمثال للقائد محمد كريم تم وضعه في حديقة الخالدين بالإسكندرية.
المصادر و المراجع التى تم الاعتماد عليها :
1.عبد الرحمن الجبرتى : عجائب الاثار فى التراجم و الاخبار , القاهرة , مطبعة الشعب , 1959
2.عبد الرحمن الجبرتى : تحقيق عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم , مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس , مطبعة دار الكتب , 9983 .
3.محمو محمود الشال : فى تاريخ مصر الحديث و المعاصر , الاسكندرية , 2006
4. محمد متولى , تقديم السفير أيمن القفاص : محمد كريم شهبد الوطنية المصرية ,
*أستاذ مصطفى سعد محمود الجنسية مصري حاصل على ليسانس الاداب فى التاريخ والحضارة الانسانية من كلية الاداب والعلوم الانسانية جامعة قناة السويس
*استاذة صابرين سليمان الجنسية مصرية حاصلة على ليسانس التربية قسم التاريخ كلية التربية جامعة الاسكندرية
كما كان أول شهداء الحملة الفرنسية ممن كانوا يشغلون منصباً عاما حيث وقف فى وجه نابليون وكليبر و قاومهما من خلال حرب العصابات التى أدارها بأقتدار وأدار المقاومة الشعبية ضد الغزو الفرنسى بكفاءة كبيرة.
مولد محمد كريم
ولد محمد كريم بحى الأنفوشى فى منتصف العقد الرابع من القرن الثامن عشر الميلادى و إن كان البعض يقرر أن مولده بعد ذلك بعشر سنوات أى نحو سنة 1745 م وذلك نتيجة لعدم وجود سجلات لمواليد ذلك العصر ولكن يغلب التخمين ان محمد كريم ولد ربما عام 1740 م .
لقد كان الابن الذكر الوحيد له وكانت والدته لا تقدر على الانجاب فكان يخشى عليها من الحمل وعندما انجبت محمد كريم ازداد فرحاً وانطلقت الزغاريد واعطى مبلغا كبيرا للقابلة التى ولدت زوجته و أنذر أبنه لخدمة الدين وقد كان والد محمد كريم رجلا متديناً فعلم أبنه العلوم الدينية و مبادئ القراءة و الكتابة فى أحد الكتاتيب بالإسكندرية ثم أرسله بعد ذلك إلى الازهر الشريف لاستكمال دراسته الدينية وظل بالأزهر عدة سنوات حظى فيها بقسط من العلوم الدينية و اللغة العربية و الفقه و الشريعة ولكنه ترك الازهر سريعا لوفاة والده وهو كان لايزال صبيا بغير مهنة و لا وظيفة ومما زاد الامر سوءا ان والده ترك اسرة كبيرة العدد ولم يترك عقار او مالا للأنفاق.
ولقد كان والد محمد كريم يتمنى ان يرزقه الله بولد اخرى بعد أن أنجب عدداً من الاناث وذلك ليعينه غى الحياة
فكفله عمه واشترى له دكاناً صغيراً فى الحى، وكان «كريم» دائم التردد على المساجد ليتعلم فيها.
ولقد عمل فى أول أمره قبانيًا (أى وزانًا)، ثم تمت ترقيته إلى أن تقلد أمر الديوان والجمارك بثغر الإسكندرية، وعندما آلت السلطة فى مصر إلى اثنين من زعماء المماليك فى القاهرة وهما مراد بك وإبراهيم بك (فيما بين 1790 ـ 1798م)، عين مراد بك محمد كريم حاكمًا للإسكندرية ومديرًا لجماركها؛ وذلك لما لاحظه من مكانة كبيرة له عند أهل الإسكندرية، جاء عنه في الموسوعة العربية العالمية تقرير مفاده أن محمد كريم كان يعد من المناضلين في مصر ضد الاحتلال الفرنسي .
تولية حكم ثغر الاسكندرية و رشيد
لقد كان منذ الصغر يتعلم مبادئ التربية السياسية على يد والده وعرف الكثير مما يجرى حوله من الفرق المتصارعة على الحكم ” الاتراك العثمانيين , المماليك ” وذلك لاحتكاكه بالتجار وتحدثهم بالسياسة وتحليل الاوضاع السياسية على الساحة وأن البلاد تمثل لعبة الفريسة و الوحش وأن الفريسة هى مصر والوحش الوالى العثمانى وزبانيته و المحيطين به من المماليك .
لقد عرف محمد كريم الكثير عن الرسوم و الضرائب التى كانت تفرض على الشعب والتى كانت تثقل كاهله وتزيد من معاناته.
وفى سن العشرين كان محمد كريم بشيء من الثقافة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية وحظ من المعارف الدينية .
كما كان يتمتع بلباقة فى الحوار ورهافة الحس بالإضافة الى خفة الروح وقوة شخصيته وجاذبيتها وحلاوة اللسان وسرعة الخاطر فتقرب منه الناس و أحبوه .
لقد أتصف بالأمانة وحسن التعامل مع الناس فذاع صيته فى كافة انحاء الاسكندرية حتى عرف اكثر الناس فيها ,وصار من من القبانيين المعدودين بها الى درجة أن لقبوه بلقب ” السيد ” مع أن مثل تلك الألقاب لا يتصف بها الا من يعودون بنسبهم بجذورهم الى الروضة النبوية الشريفة .
لقد شهد الصراع بين المماليك و الوالى العثمانى وكان الذى ينال العواقب هو الشعب المصرى خاصة الصراع بين على بك الكبير و الوالى العثمانى المتغطرس ” راقم باشا “ والذى ادى الصراع بينهما الى عزله من قبل ” على بك الكبير ” رغم أنف السلطان العثمانى وقد سائه خيانة ” محمد بك ابو الدهب ” ضد سيده على بك الكبيرفقد عادت مصر الى الفوضى من جديد بسبب الصراع العثمانى المملوكى من جهة الصراع المملوكى على شياخة البلد ” مراد بك – ابراهيم بك ” من جهة أخرى .
وفى خضم ذلك رأى مراد بك فى محمد كريم قوى الشخصية فولاه نائبا عنه فى الاسكندرية مما سيجعله قادرا على إشاعة الامن فيها و جمع الضرائب منها وعينه حاكما على الاسكندرية و مديراً لجماركها و مشرفاً على ثغرها كما أسند إليه ثغر رشيد .
فأصبح محمد كريم محافظاً على الاسكندرية ورشيد حتى مجئ الحملة الفرنسية لمصر .
واجتهد محمد كريم فى عمله الجديد وأصبح مثلا للحاكم العادل حيث رسم لنفسه مجموعة من الاهداف التى ألتزم بها خلال ممارسة المسئولية و تتمثل هذه الاهداف فى :
رفع المظالم عن الناس .
توفير الخدمات لهم .
نشر الامن فيما بينهم .
ولقد ساعده على تنفيذ أهدافه بالرغم من الصراعات الدائرة و الظلم الواقع على كاهل المصريين قوة شخصيته و حزمة مع اللين و العفو فقد كان يقوم بجمع الضرائب المفروضة مع مراعاة أحوال الاهالى فلا يحملهم مالا طاقة لهم به وتظهر طهارة يدة وعفة نفسه فى أنه كان يستغل جزء من تلك الاموال على إصلاح شئونهم ورعايتهم فقد كانت الاسكندرية فى ذلك الوقت مدينة صغيرة يبلغ تعدادها 8.000 نسمة عمرانها متهدم وبيوتها أشبه بمبانى القرى و شوارعها ضيقة كثيرة التعاريج ومعظم سكانها فقراء … فالفرق كبير بين ذلك العصر وما كانت عليه سابقا وما هى عليه الان من العظمة و الجمال .
محمد كريم و الحملة الفرنسية
لقد أختلف المؤرخون فيما بينهم فى تقدير أهمية تلك الحملة الفرنسية حيث بالغ البعض فى تقدير أهميتها من حيث اعتبرها البعض انها مفتاح التقدم لكل ما حدث من تطور فى مصر.
وقال البعض انها لم تكن سوى وسيلة لأستثارة عزائم كانت تسعى للتعبير عن نفسها .
ويمكن أن نؤكد أن الحملة الفرنسية حينما جاءت إلى مصر كان الصراع بين المماليك وبين الشعب على اشده فقد ثار المصريين عام 1795 م ثورة ضخمة ضد أمراء المماليك عرفت فى بعض مراجع المعاصرة ب ” ثورة العهد الاعظم المصرية ” تشبها بثورة النبلاء بإنجلترا ” الماجنا كارتا ” والذى فيه أقر الملك جوان الثانى عام 1215 م بعدم فرض ضرائب على الشعب الا بموافقه ممثليه من النواب .
وقد حصل الشعب على وثيقة تاريخية من المماليك و على رأسهم شيخى البلد ” مراد بك و ابراهيم بك ووقعها بخاتمه الوالى العثمانى و سميت تلك ” الحجة الشرعية “
لقد جاءت الحملة الفرنسية الى مصر بقيادة بونابرت وكان محمد كريم لا يتجاوز من العمر الستين عاما وتصادمت احلام كلا الرجلان رجلا يدافع عن وطنه و رجلا حالماً طامعا فى انشاء امبراطورية قاعدتها مصر .
فقد بدأ تجهيز الحملة 12 أبريل 1798م وكانت مؤلفة من 134.000 جندى وضم ايضا حوالى 500موظف وصحبت الحملة لجنة عملية يرأسها العالم الفرنسى ” كافاريلى ” وقد تسلل إلى الحملة ايضا حوالى 300إمرأة من زوجات الرجال المشاركين فيها .
وقد حمل نابليون معه اول مطبعة تدخل مصر زودها بحروف كاملة لاتينية و يونانية و أستحدث فى مصر حروفاً عربية ورافقه أربعة مترجمين على رأسهم المستشرق الفرنسى ” دى فنتور “
وقد نظم نابليون جنوده فى 5 فرق وضع على رأسها الجنرالات ” ديزييه و كليبر و باراجيه و رينييه و بون “وجعل على رأس المدفعية الجنرال ” دين مارتن ” وعلى الفرسان الجنرال ” ديماس “
وجاءت الحملة لكى تنصر 65 تاجرا فرنسياً ضد المماليك .
اسندت حكومة الادارة لنابليون قيادة الحملة مع اسناد مهام له فى صورة بنود
البند الاول : تقرر إعطاء القيادة البحرية و البرية لبونابرت
البند الثانى:فقد طلب من القائد العام طرد الإنجليز من كافة ممتلكاتهم فى الشرق ومن الجهات التى يستطيع الوصول إليها و التغلب عليها وبالأخص المراكز التجارية فى البحر الأحمر
البند الثالث :خاص بتنفيذ مشروع لربط البحر الاحمر بالبحر المتوسط واتخاذ كافة الوسائل لتسيطر فرنسا على البحر الاحمر والتجارة فيه
البند الرابع : كلف نابليون بونابرت بالعمل على تحسين أحوال المصريين
البند الخامس : يوصى بالمحافظة على العلاقات الحسنة مع السلطان العثمانى
البند السادس : على ان تظل هذه الاوامر و التعليمات غير المطبوعة وسرية
خرجت من ميناء طولون بفرنسا فى 19 مايو 1798 م و لا يعلم أحد بوجهتها خوفا من تسرب الاخبار لإنجلترا وتوجه فى البداية لجزيرة مالطة الذى أحتلها من فرسان القديس يوحنا حيث في 9 يونيو ظهر الأسطول الفرنسي إزاء سواحل مالطا ولقد كان الأدميرال الانجليزى نيلسون ” قد أسر قبل إبحار قافلة نابليون بيومين سفينة فرنسية صغيرة وعلم من استجواب بحارتها أن استعدادات ضخمة تجرى فى طولون لخروج حملة عسكرية ولكنه عجز على معرفة وجهتها ، وكانت حكومة الإدارة قد قدمت رشوة لرئيس جماعة فرسان مالطا وذوي الشأن فيهم لتكون مقاومتهم شكلية ونتيجة لهذا استولى الفرنسيون على الحصن المنيع الممول جيدا في هذه الجزيرة بسهولة ولم يفقدوا في سبيله سوى ثلاثة رجال• وتأخر نابليون في الجزيرة أسبوعا ليعيد تنظيم إدارة الجزيرة على نمط الإدارة الفرنسية وكان ألفريد ده ڤينه الذي سيصبح شاعرا فيما بعد يومئذ في الثانية من عمره، وقد قدموه لنابليون، فرفعه وقبله، وقال ألفريد – فيما بعد – عندما أنزلني بعناية إلى سطح السفينة، كان قد كسب إلى جانبه، عبداً آخر يضاف إلى عبيده. وعلى أيه حال فإن نابليون ذلك الرجل الشبيه بالإله عانى دوار البحر طوال فترة الإبحار إلى الإسكندرية تقريبا، وفي هذه الأثناء درس القرآن.
وأطلق سراح المسلمين المعتقلين بها ليتركوا اثر طيب لدى المصريين قبل وصول الحملة وأسر حوالى ألفين من أهلها يجيدون العربية ليصبحوا مرشدين له , ولقد شعرت إنجلترا بسعى فرنسا لاحتلال مصر
ففى 27 يونيو قام الاميرال ” نيلسون ” المكلف بتتبع الاسطول الفرنسى بإرسال الكابتن ” هاردى ” على ظهر السفينة ” موتين ” ليعرض على المدينة حماية الاسطول البريطانى ولكن ” محمد كريم ” حاكم المدينة رفض تلك الحماية بقوله .
” إن هذه بلاد السلطان وليس عندنا أوامر بذلك وإن الفرنساوية غير ممكن أنهم يحضرون إلى بلادنا ولا لهم فى أرضنا شغل , ولا بيننا و بينهم عدواة ” وعندما يأس ” هاردى ” من محمد كريم لم ينس ان يهدده بقوله ” إنكم سوف تندمون على عدم قبولكم إيانا “
وفى هذا ذكر الجبرتى فى كتابه مظهر التقديس ” أنه يوم الخميس الثامن من شهر يونيو حضر الى الثغر عشرة مراكب من مراكب الانجليز ووقفوا على البعد بحيث يراهم أهل الثغر وبعد قليل حضر خمسة عشر مركباً ايضا فأنتظر أهل الثغر ما يريدون وإذا بفايق صغير مكون من عشرة أنفار واجتمعوا بكبار البلد و فيهم قائد الثغر ” محمد كريم ” فأخبروهم أنهم حضروا للتفتيش على الفرنسيس لانهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندرى اين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم , “
فلم يقبل السيد محمد كريم لأنه ظن انها مكيدة وجاوبوهم بكلام خشن
فرد رسل الانجليز ” نحن نقف بمراكبنا فى البحر محافظين على الثغر , وتمدونا بماء وزاد بثمنه “
فكان رد محمد كريم هذه بلاد السلطان , وليس للفرنسيس ولا غيرهم عليها سبيل , فاذهبوا عنا “
وهددهم انهم اذا لم يغادروا الميناء سيطلق عليهم المدافع والتى كان يبلغ عددها 4 مدافع قديمة عفا عنها الزمن .
وصول الحملة إلى الاسكندرية :
وصل للإسكندرية ” نابليون بونابرت ” و أرسل إلى الثغر السفينة الفرنسية ” جوتو ” لتلتقى بالسفير الفرنسى ” مجالون ” لاخباره بوصول الحملة و يستعلم عن أحوال الثغر و أهله وعن حال الفرنسيين به .
فى 2يوليو 1798 م وفى اول بيان أذاعه على الجنود قبل النزول الى البر فى الاسكندرية أكد الهدف قائلا :
” أيها الجنود , سوف توجهون إلى إنجلترا الضربة القاضية التى لم تكن تتوقعها أو تخطر لها على بال
و سوف نقضى على المماليك عملاء انجلترا و الذين يعملون لحسابها و يحاربون تجارتنا و ينزلون بهم كل ضروب الإهانة سوف نسحقهم ولن تقوم لهم قائمة بعد بضعة ايام من هبوطنا .
أن المدينة الاولى التى ننزل اليها تستمد اسمها من الاسكندر الاكبر , وهو الذى أقامها و فى كل شبر و خطوة سوف نجد أثر أو ذكرى نستلهمها فى معاركنا و إنجازنا “
وعقب ذلك أرتدى نابليون قلنسوة و عباءة شرقية و قام ” نابليون بأنزال خمس الاف جندى فى منطقة ” الدخيلة و العجمى ” غرب الاسكندرية وقد وصلت تلك القوات لأسوار المدينة و إتخذ نابليون من ” منطقة عمود السوارى ” معسكراً له يتابع منه القوات .
مقاومة محمد كريم للحملة الفرنسية
ولقد حدثت مقاومة من حاكم الاسكندرية محمد كريم و الاهالى للقوات الفرنسية فسرعان ما رأه القناصة العرب حتى أنطلقوا فى شوارع المدينة يدقون بتكبيراتهم و صيحاتهم ناقوس الكفاح وهب الأهالى من ديارهم إلى الشوارع كل يحمل ما ملكت يداه من سلاح بدائى ولقد قرر الزعيم محمد كريم و مشايخ المدينة مواجهة الاحتلال و المقاومة فقد أعتلى كل شيخ منهم مع من اجتمع لديه من المقاتلين أسوار المدينة و أسطح المنازل و تحصنوا خلف الأبواب و النوافذ وقد شاركهم شرف الدفاع والكفاح النساء والاطفال وتحصن محمد كريم ومعه عدد من الفرسان لا يتجاوز عددها أربعمائة فى قلعة قايتباى انتظاراً لمجئ نابليون.
ولقد أرسل الزعيم محمد كريم عندما رأى خمسمائة سفينة تحيط بالميناء الى ” مراد بك ” قائد المماليك فى القاهرة رسالة يقول فيها .
” إن العمارة التى حضرت مراكب عديدة مالها أول يعرف , ولا أخر يوصف لله ورسوله داركونا بالرجال “
ولقد أنعقد الديوان و اتهم مراد بك الدولة العثمانية بأنها وراء هذه الحملة وتم نفى الوالى العثمانى فى حين كان ” نابليون ” يقسم قواته لثلاث فرق .
الاولى الى الغرب بقيادة ” مينو “
الثانية فى الجنوب بقيادة ” كليبر “
الثالثة بقيادة ” بون “
ومع ان الاسوار كانت ضعيفة و التحصينات سيئة الان ان المدافعين من داخل المدينة أمطروا الفرنسيين بوابل من الاحجار و الرصاص من كل جانب من أسطح المنازل و نوافذها انصبت عليهم كالمطر الجارف فقد انهال على رجال الحملة وابل من الرصاص من احدى النوافذ اطلقها رجلا وزوجته وظل يطلقان الرصاص حتى اقتحم منزلهما فرقة من جنود الحرس فمثلو بهما أبشع تمثيل واسفل القلعة دارت معارك طاحنة بين الاهالى و الغزاة فقد فيه بونابرت بعض قواد جيشه الكبار وعلى رأسهم الجنرال ” ماس ” وخمسة ضباط اخرين كم اصيب الجنرال ” مينو ” بضربة حجر على رأسه أسقطته من أعلى السور الذى يشرف منه على هجوم رجاله كما أصيب الجنرال اسكال برصاصة من أحد أفراد المقاومة الشعبية فأصابته بجرح كبير فى رأسه أما الجنرال كليبر فقد أصيب بطلق نارى فى جبهته كاد يقضى عليه .
وعندما رأى نابليون ان مقاومة الاهالى العزل افقدته فى ساعتين كما ورد فى مذكراته بأن مقاومة الاهالى أزدادت شراسة فأفقدته أكثر من ثلاثمائة .
فأضطر الى مفاوضة كبار الاهالى من الشيوخ طالباً منهم التدخل للكف عن القتال واما سيندمون اذا استمروا على المقاومة فأذعن الاهالى .
اما محمد كريم فقد ظل معتصماً بالقلعة مع رجاله , وبعث إليه بونابرت يطالبه بالتسليم فأبى وظل يقاوم بأستماته ولكنه وجد ان المقاومة لا تجدى وأن المدينة معرضة للتدمير وأن مالديه من عتاد أضعف من أن يقاوم هذا الجيش العظيم الذى هزم الكثير من الجيوش الاوربية كما قام ” أدريس بك ” قائد السفينة العثمانية الراسية بالميناء بعرض خدماته للتوسط فى تسليم المدينة فكلفه نابليون بأخبار الاهالى و المشايخ و العلماء الموجودين بها ان لا مزيد من المقاومة والا سيضطر للقضاء عليهم جميعا بمدافعه و قواته .
إضطر محمد كريم إلى الكف عن القتال لقلة مامعه من الذخيرة وخوفاً على المدينة من المزيد من التدمير وتلقاه بونابرت لقاء البطل للبطل وفى مجلس جمع مشايخ المدينة و أعيانها قال له
” لقد أخذتك والسلاح فى يدك , وكان لى أن أعاملك معاملة الأسير ولكنك استبسلت فى الدفاع بشجاعة ولما كنت أعد الشجاعة عنصرا لا ينفصل عن الشرف فإننى لايسعنى إلا أن أعيد إليك سلاحك أمل أن تبدى للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة رديئة “
لقد قدر بونابرت فى السيد محمد كريم روح البطولة والإقدام فأراد أن يستميله اليه فأعاد اليه سلاحه ولم يمسه بسوء , ثم أمر برسم صورة له لحفظها لديه وتقبل ” محمد كريم ” ان يدخل ظاهريا فى صفوف الاعداء ويزرع الشوك لهم فى طريقهم وذاك أيسر أن يزرع له من أن يكون بعيدا عن مسرح الأحداث .
* ولقد ورد فى الرسالة التى أرسلها نابليون لحكومة الادارة وصف فيها أهل الاسكندرية ” أن الاهالى جعلوا كل بيت قلعة يتحصنون فيها و يدافعون عن مدينتهم بكل بسالة “
* كما كتب الجنرال ” برتييه ” رئيس أركان الحملة فى رسالته إلى الخارجية الفرنسية بتاريخ 6 يوليو 1798 يقول فيها ” إن الاهالى دافعوا عن اسوار المدينة دفاع المستميت “
يقول الجبرتى عن دفاع الاهالى:-
” كل ذلك و أهل البلدين يدافعون عن بلدهم وعن أنفسهم و أهلهم ولما أعياهم الحال وعلموا أنهم مأخوذون بكل حال , وليس عندهم للقتال استعدادا أخلوا الابراج من ألات الحرب و البارود , طلب أهل الثغر الأمان فأمنوهم ورفعوا عنهم القتال ومن حصونهم أنزلوهم ونادى الفرنسيس بالامان فى البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فألزمهم بجمع السلاح و إحضاره إليهم و أن يضعوا الجوكار فى صدورهم فوق ملبوساتهم “
وقد سجل مسيو ” فيفيان ” أحد ضباط الحملة الفرنسية الذى كان حاضرا هذا المجلس التأثيرات التى لاحظها على وجه السيد محمد كريم بعد إعلان العفو عنه بقوله .
” لقد لاحظت على ملامح هذا الرجل الذكاء و الدهاء و كأنما كان يكتم عواطفه عنا”
مما أدى ذلك الى تسليم ” الزعيم محمد كريم ” المدينة و دخلها ” نابليون ” بقواته وبالرغم من التسليم الا انه واجه مقاومة من الاهالى ايضا .
وقد قدر ” بونابرت ” خسائر الجيش الفرنسى فى الهجوم على الاسكندرية فى رسالته لحكومة الادارة بثلاثين قتيلا , وثمانين إلى مائة جريح وقدرها بعد ذلك فى مذكراته بثلاثمائة ما بين جريح و قتيل , و أمر بدفن قتلى الفرنسيين حول عمود السوارى فى أحتفال عسكرى كبير , ونقشت اسماؤهم على قاعدة عمود السوارى .
بينما خسرت الاسكندرية من سبعمائة الى ثمانيمائة بين قتيل و جريح .
كما قام بتزيع منشورات على الاهالى فى 2 يوليو 1798م ونص المنشور كما أورده المؤرخ الجبرتى .
( ” بسم الله الرحمن الرحيم لا إله الا الله ” لا ولد له , ولا شريك فى ملكه , من طرف الجمهور الفرنساوية المبنى على اساس الحرية و التسوية السر عسكر الكبير بونابارت أمير الجيوش الفرنساوية , يعرف أهالى مصر جميعهم أن من زمان مديد السناجق الذين يتسلطنون فى البلاد المصرية يتعاملون بالذل و الاحتقار فى حق الملة الفرنساوية , ويظلمون تجارها بأنواع التعدى فحضر الان ساعة عقوبتهم واحسرتاه من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الابازا وغيره يفسدون فى الاقاليم الاحسن الذى لا يوجد فى كرة الارض كلها أما رب العالمين القادر على كل شئ فقد حتم انقضاء دولتهم , يأيها المصريين ” قد يقولون لكم أننى ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه , وقولوا للمفترين إننى ما قدمت إليكم إلا لكما لأخلص حقكم من يد الظالمين أننى أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه و تعالى و أحترم نبيه محمدا , والقرأن العظيم ,وأن جميع الناس متساوون عند الله وأن الشئ الذى يفرقهم من بعضهم بعضاً فهو العقل و الفضائل و العلوم فقط وبين المماليك ما العقل و الفضائل والمعرفة التى تميزهم عن الاخرين و تستوجب أنهم يتملكون وحدهم كلما يحلوا به حياة الدنيا حيثما توجد أرض مخصبة فهى مختصة للماليك و الجوارى الاجمل و الخيل الاحسن و المساكن الاشهى فهذا كله لهم خاصاً . إن كانت الارض المصرية ألتزام للمماليك فليونا الحجة التى كتبها لهم الله فليكن رب العالمين هو رءوف وعادل على البشر بعونه تعالى من اليوم و صاعداً , لايستثنى أحدا من الاهالى عن الدخول فى المناصب السامية وعن أكتساب المراتب العليا فالعقلاء و الفضلاء و العلماء بينهم سيدبرون الامور , وبذلك يصلح حال الامة كلها )
ووزع هذا المنشور على الاهالى عند دخوله المدينة كما أرسله الى بالقى الاقاليم التى ستمر عليها الحملة مع الاسرى و الملطيين لكى يدخل الناس فى الامان و الطاعة .
كما أصدر نابليون خمسة أوامر كان على المصريين الخضوع لهم :
تقوم كل قرية واقعة فى طريق الجيش الفرنسى برفع العلم الفرنسى و أرسال نواب عنها لتقديم الطاعة .
كل قرية تقاوم الفرنسيين تحرق بالنار .
كل قرية تعلن الطاعة و تقوم برفع العلمين الفرنسى و العثمانى .
على المشايخ بكل قرية التحفظ على أملاك المماليك .
على الناس الانصراف لأعمالهم و عبادتهم والدعاء للسلطان العثمانى و الحكومة الفرنسية ويقومون بلعن المماليك .
لقد أراد بونابرت أن يبدى للأهالى قدرا من التسامح فأصدر أوامر بحرية العبادة كما أمر جنوده بالبعد عن السلب و النهب , وترك امر القضاء فى أيدى المماليك , كما أوضح أختصاصات ديوان الاسكندرية وهى النظر فى شكاوى الاهالى و احتياجاتهم ولقد تألف من ” محمد كريم و الشيخ المسيرى و خمسة من الاعيان ” لمعاونة كليبر فى حكم المدينة .
وترك احد ضباط الحملة الكبار و هو القائد ” كليبر ” حاكما للإسكندرية و ” محمد كريم” محافظاً عليها
كما عين الجنرال ” مينو ” حاكما على رشيد
وغادر نابليون الاسكندرية فى 7 يوليو 1798 م وقد أوصى الجنرال ” كليبر ” أن يبذل كل ما بوسعه للحفاظ على العلاقات الودية بين الفرنسيين و الاهالى إلا انه فرض على الاهالى غرامة حربية قدرها 150 ألف فرنك فرنسى
ولقد ذكر احد الضباط المشاركين فى الحملة عن وصف اهالى الاسكندرية وهو” جوزيف مارى مواريه
“سكان الاسكندرية وهم اول من وقعت عينى عليهم من الافارقة فتلك هى الصورة التى انطبعت فى ذهنى عنهم بصفة عامة هم أشداء , مفتولو العضلات , طوال القامة , بشرتهم بين السمرة الخمرية و الداكنة , لا يستر اجسامهم سوى بعض الاسمال البالية التى تلتف بصورة غريبة حول اجسادهم , ويضعون على رأسهم خرقا ملفوفة كعش العصافير و يسمونها عمامة وهم لا يرتدون جوارب أو احذية كما يسير البعض كما شكلتهم الطبيعة , وتلك هى الطبقة الفقيرة من الشعب وهم مزارعون يعملون لدى المماليك الذين يملكون كل شئ من بيوت و أراض و ممتلكات يحصلون منها على عائد سنوى كبير ولا يختلف رداء الاغنياء عن الفقراء إلا بجودة وجمال الثوب ……… “
كما يسهب فى وصف البيوت و الاماكن التى مرت عليها الحملة فى الاسكندرية .
أما بالنسبة للزعيم محمد كريم
عندما عينه ” نابليون ” محافظاً على المدينة ليستميله الى الفرنسيين و أقناعه بالتعاون معهم او على الاقل الوقوف على الحياد وكان بالاضافة لذلك إرضاءاً لأهل الاسكندرية وكتب نابليون لأحد مترجمى الحملة المدعو ” فيفيان دينون ” ليبلغ محمد كريم ذلك الوضع وقد دخل ” دينون ” على نابليون الذى أجبره بإخلاص ” الحاكم المصرى ” ورأى من الحكمة أن يحتفظ به فى المنصب الذى كان يشغله .
وكان الخطاب الذى وجهه نابليون لمحمد كريم على النحو التالى :-
إلى السيد ” محمد كريم “
” المعسكر العام بالإسكندرية فى 19 ” ويدور ” من السنة السادسة على مرور ثورة فرنسا ” 7 يوليو سنة 1798 م ” لقد سر القائد العام سرورا تاما من الخطة التى سلكها محمد كريم منذ قدوم الجيش الفرنسى و إعراباً عن هذا السرور عينه فى وظيفة محافظ دائرة الاسكندرية و ستصل اليه الاوامر بواسطة الجنرال كليبر القومندان العام للجبهة وهذا لا يمنعه ان يراسل القائد العام متى شاء و على الجنرال كلير أن يطلب منه كل ما يقتضيه مهام الجيش الفرنسى .
محمد كريم قائد المقاومة السرية ضد الغزاة .
لقد عاد محمد كريمإلى منصبه وهو أشد كرها لأعداء الوطن فكان شديد الحزن على ما ألت له الاسكندرية و أهلها وعلى كل بيت يبكى لما سقط منه صرعى من الاحتلال كما انه جعل مدينة الاسكندرية فى شبه حصار بحرى شل حركة السفن وعطل التجارة التى هى أكبر مورد لثرواتهم فأصبحت البيوت خالية من الزاد و البطون خاوية و مجالس السمر وحلقات الانس قد أنفضت ورأى حال البلاد و العباد التى يبكى لها القلب حرقتاً .
وصمم على المقاومة وان لا ينعم المحتل بالراحة و الامان فى البلاد و بينما هو يخطط لذلك جاءه أحد المترجمين من رسل الجنرال كليبر الذين يتولون تبليغه أومر هذا القائد وقد عرف منه ان كليبر قد عزم على إيفاد كتيبة عسكرية بقيادة الجنرال ” ديبوى ” الى خارج الإسكندرية للتفتيش على الحاميات المعسكرة فى بعض قرى البحيرة .
فأتصل برجال المقاومة بالبحيرةو أصدر الاوامر للكتائب الفدائية بإبلاغ الاهالى بإخفاء الدواب و الماء و الجمال عن الكتيبة الفرنسية ليعطل مهمتها التفتيشية لوضع العراقيل وزرع الاشواك فى طريقهم
كما بدأ يبث دعوة المقاومة سراً فى نفوس مواطنيه و العربان الضاربين حول الاسكندرية ضد الجيوش الفرنسية و تحريضهم على الاحجام عن مدهم بأية مساعدة أو معونة وشدد المقاومة السرية عليهم فى كل مكان و نشر روح الكراهية ضدهم فيما حلوا و حيثما ساروا .
ولقد ظهرت أثار تلك الدعوةعندما خرجت كتيبة من الاسكندرية يوم 17 يوليو 1798م ولكنها لم تسطع التزود بشئ من الجمال أو دواب الحمل , التى أخفاها أهل الاسكندرية وقت قيام الكتيبة و التى لم تلبث أن ظهرت بعد مغادرتها ونتيجة للمقاومة التى حشدها ” محمد كريم ” من عربان البحيرة والاهالى وجدت الكتيبة مقاومة عنيفة كلما تقدمت فى السير حتى بلغت ذروتها فى دمنهور حين أنقض عليها العربان من كل حدب وصوب يقومون بنهب و قتل جنود الكتيبة ففقد منهم ثلاثون ما بين قتيل و جريح واضطر الجنرال “ديبوى ” أمام عنف المقاومة وامام ضراوة التصدى الشعبى الى العودة للاسكندرية فى 26 يوليو وقد شجعت هزيمة” ديبوى ” على القيام بعدة هجمات ضد جنود الحملة بجهة عمود السوارى فقتلت بعضاً منهم وجرحت البعض الاخر .
لم يكن الفرنسيون يتوقعون تلك المقاومة وقد جاء فى تقرير ديبوى الذى كتبه الى قيادة الحملة ” انى أسف كثيراً لاننى لم اجد فى جولتى هذه مصريا واحدا يحمل الشارة الفرنسية”
ولقد أستنتج ديبوى من جولاته ان هناك مخابرات سرية بين الاسكندرية والمدن التى مرت بها الفرق ولاحظ أن اهالى دمنهور كانوا على علم بقدوم الفرنسيين قبل دخولهم وان الاهالى كانوا مستعدين لحربهم ومن ثم استعدوا لهذا اللقاء .
وبدأ كليبر يستقصى مع الجنرال ” ديبوى ” كيفية وصول أخبار الزحف الفرنسى على دمنهور ومن هم الذين وراءه ؟
ونظرا لما ابداه ” محمد كريم ” من الفرح والارتياح توجهت له أنظار كليبر بالشك بأن يكون له يداً فى أحباط تلك الحملة .
خصوصا مع كره ” كليبر ” له لانه كان يكره وجوده معه شريكا فى الحكم بالاضافة الى اعجاب نابليون بشجاعة الشيخ , وان كليبر كان يشعر ان ” محمد كريم ” يمثل رمزا للفدائية و للمقاومة بالنسية للشعب المصرى.
القبض على محمد كريم
فتم القبض عليه وتم أرساله الى أبى قير حيث تم اعتقاله بالباخرة الفرنسية ” أوريان “او ” أورينت ” وهى أحدى قطع الاسطول الفرنسى الراسية والمعقود لوائها للأمير ” برويس ” وطلب منه ان يتعامل مع ” محمد كريم ” معاملة كريمة و لعل ذلك بسبب خوفه من نابليون و السبب الثانى انه لم يكن متأكداً من الاتهام الذى وجهه لمحمد كريم ومن معه
ولقد وضح ” كليبر ” فى الرسالة التى أرسلها للقائد ” برويس ” حول سبب اعتقال محمد كريم” وبعض حاشيته .
” لقد رأيت أعوان هذا الرجل يبقون ما أبقوا اّملين عودته اذا هو ظل قرسيا من المدينة لذلك رأيت قطعا لهذا الامر أن ارسل به إليك لكى تعتقله , أنى لم أقصد بذلك إلا حماية الجمهورية الفرنسية “
وفى رسالة موجهة من كليبر ل محمد كريم“
” أنى لم أقصد من أرسالكم الى بارجة فرنسية الا ان امكنكم من ان تلحقوا بالقائد العام لأنه بعث فى طلبكم فبعثت بكم الى قومندان الاسطول الفرنسى ليسهل لكم الوصول الى القاهرة عن طريق النيل فإذا ما وصلتم للقائد العام أمكنكم ان تثيتوا له انكم تستحقون ما وضعه فيكم من الثقة , وفى انتظار سفركم ارجو ان تبلغونى بما ترغبونه و سأمر بألا يمنع عنكم ما تطلبون “
ولقد قابلة القائد ” برويس ” بكل احترام وارسل رسالة لنابليون يخبره فيها
” اننى افردت له غرف كبيرة و لحاشيته و أنزلته نزلا كريما وانى اعامله بكل رعاية و احترام معتقدا بذلك اننى احقق رغباتكم الى ان تصدروا أوامركم فى شأنه وتبتوا فى مصيره “…
ولقد كان الهدف من اعتقال كليبر من الاسكندرية يخبر نابليون بما حدث فى دمنهور و الخسارة التى منيت بها الحملة وشكه ان المحرض الاول للأهالى و المبلغ لهم هو محمد كريم .
لقد أرسل كليبر لنابليون ما وقع فى يده من بعض مكاتبات متبادلة بين محمد كريم ورؤساء العربان فى البحيرة وذوى الشأن فيها , وأن ذلك هو دليله على خيانة محمد كريم وانه جمع أعيان الاسكندرية يوم اعتقاله ونقل إليهم ارتياب السلطات الفرنسية فى إخلاصه للجمهورية الفرنسية , وطالبهم بانتخاب حاكم غيره و أفاد كليبر باعتراضهم فى البداية ولكنهم أذعنوا لأمره عندما هددهم بأنهم إن لم ينتخبوا حاكماً غيره سوف يقوم كليبر يتعيين واحداً من قبله وقد لا يكون على هواهم و أخطر كليبر نابليون أن الاهالى اختاروا السيد ” محمد الشوربجى الغريانى ” بدلا من السيد ” محمد كريم وأخطر كليبر نابليون أن الغريانى هو ضالة الفرنسيين , وأبدى استعداداً كبيراً للتعاون مع الفرنسيين خصوصا ما تقاعس عنه محمد كريم فى تحصيل الغرامات و القروض الإجبارية على تجار الاسكندرية و أعيانها سداً لنفقات الجيش الفرنسى .
وكان محمد كريم قبل القبض عليه قد وقف مع أهالى مدينة الاسكندرية و تجارها لمناسبة ضريبة فرضت عليهم لسد نفقات الجيش الفرنسى وأن محمد كريم عارض تلك الضريبة مما جعل كليبر يأسرها فى نفسه .
ولقد أرسل نابليون رسالة الى كليبر التالية :
” فور اختيار محمد الغريانى حاكما للاسكندرية من قبل أعيانها و التجار فيها أخبرنى السيد محمد الغريانى قبوله وظيفة المحافظ وأن الاهالى يختلفون عن سائر أهالى القطر بأنهم صعب الممراس و أقرب الى القلق و الهياج و أبدى بعض استدراكات و ملاحظات تخص ادارة المدينة فأجبته على ملاحظاته بان الرجل الذى يتنبأ بمصاعب الوظيفة جدير بأن يعرف كيف يضطلع بها و يتغلب عليها و بذلك أقنعته بقبول المنصب .
وكان يعاون السيد محمد الغريانى الشيخ ” محمد المسيرى ” كبير العلماء فى المدينة وقد اولى طلبات كليبر من المحافظ الجديد تنفيذ الضريبة التى رفضها ” محمد كريم ” وهى عبارة عن 300.000 فرنك بجانب الغرامة السابق الامتناع عن تحصيلها 33.000 فرنك و طلب كليبر من العزبانى جمع هذا كله من الاهالى فى 24 ساعة ولو استخدم الشدة .
هذا يدل على مدى عظمة ” محمد كريم ” فى وقوفه ضد كليبر ووقوفه مع الاهالى ضد الاستعمار الغازى.
وقد جاء فى نهاية رسالة كليبر لنابليون .
” اّمل ان لا تأمر بعودته للإسكندرية خوفا من ان يستفحل أمره و يتضاعف نفوذه بين الاهالى “
ولقد أستجاب نابليون لرأى كليبر وطلب منه فى رسالة بتاريخ ” 30 يوليو 1798 م
رسالة يقول فيها ” إنى لا أوافق على اعتقال محمد كريم و حسب بل إنى أمر أمر فوق ذلك أن يعتقل كل من ساعدوه “
وطلب منه ان يرسل كريم و معاونوه مكبلين بالحديد إلى القاهرة تمهيدا للنظر فى أمرهم أمام محكمة عسكرية بتهمة الخيانة .
وفى اليوم التالى لأعتقال ” محمد كريم ” اصدر كليبر منشورا وزع على اهالى الاسكندرية بمختلف اجناسهم بتسليم كل ما يملكونه من الاسلحة وهدد ان من يتأخر منهم عن تنفيذ هذا الامر بعد 48 ساعة فإن جزاءه الاعدام وزاد فوق ذلك منشوره بأن من قتل أى جندى فرنسى سوف يهدم منزله و يعتقل مقابلة خمسون يؤخذون فى صورة رهائن إلى أن يظهر القاتل .
ونتيجة لتلك الافعال ركن اهالى الاسكندرية للهدوء و للسكينة ولم تعد هناك اى ثورات من الاهالى ممادفع كليبر للشعور بالراحة خصوصا بعد انتصار نابليون فى معركة أمبابة ” الاهرام ” .
ولقد تم أرسال ” محمد كريم ” بالاضافة إلى خمسين متهم معه باتأمر ضد الفرنسيين الى القاهرة .
وأمر نابليون فى رسالة لكليبر بتفتيش منزل محمد كريم بحثا عن أى أموال كانوا يعتقدون أنه يخيفها فى بئر منزله وهناك عثروا على دفاتر بها أحصاء بجميع أمواله و ممتلكاته .
وعند مرورة السفينة التى تنقل ” محمد كريم ” من رشيد أسقبلوها الاهالى بكل حفاوة و تقدير تقديرا لوطنية هذا القائد ضد الاحتلال ولم يسع الجنرال ” مينو ” حاكم رشيد إلا أن يسرع بأرساله الى القاهرة خشية ثورة الاهالى ضده .
التحالف الوطنى بين السيد ” محمد كريم ” والزعيم ” حسن طوبار “
ولقد حدث تحالف بين ” محمد كريم” و بطل أخر وهو ” حسن طوبار ” الذى كان زعيما لمنطقة المنزلة وهو بطل أذاق الفرنسيين ويلات من العذاب وكان يمتلك أسطولا كبيرا من مراكب الصيد ولم تكد تبدأ حملة بونابرت على هذه المنطقة حتى أتصل محمد كريم بالشيخ ” حسن طوبار ” الذى إتصل بدوره بمشايخ القرى و أهلها وراح ينظم صفوفهم و يثير الحمية فى صدورهم و يحرك فيهم روح الوطنية .
فقد نشبت معركة بين الفرنسيين و حسن طوبار ورجاله فما أن وصل الفرنسيين الى بلدة الجمالية و حلت سفنهم فى بحر أشمون من قله المياه فيه فانتهزت المقاومة الشعبية هذه الفرصة وراحت تمطرهم وابلا من الرصاص و الاحجار .
ونشبت معركة عنيفة دامت خمس ساعات انتهت بنصر الشعب المصرى و انسحب الفرنسيون ولكن بعد ان تمكنوا من اشعال النار فى هذه البلدة و أحراقها وكان النصر على الفرنسيين له صدى كبير فى نفوس الشعب فزاد ألتفافا حول حسن طوبار الذى كان يعتبر محمد كريم أستاذه فى الوطنية و المقاومة الشعبية .
وقد حاول الجنرال ” فيال ” بعد ذلك أن يجتذب إليه حسن طوبار مرة ثانية فحينما عين الجنرال فيال حاكما علي دمياط لم يكن يورق ذهنه شئ سوي شبح طوبار.. فأهدي اليه سيفا مذهبا ولم يشأ أن ينحيه عن منصبه. لكن حسن طوبار قابل ذلك بالسخرية الشديدة, فكيف يستميله سيف مذهب وهو يستطيع أن يسلح نفسه بالذهب تسليحا كاملا ولكن هذا الرجل كان يستمد قوته من سيرة البطل ” محمد كريم ” .
فقد رفض حسن طوبار مساومة الجنرال الفرنسى له وقال له :
لا جميل القول يغرينا
ولا رنين المال يطوينا
ولا عيد الحرم يثنينا
فحاول الفرنسيون القبض عليه بمعاونة بعض الاهالى الذين حاول الفرنسيون إغراءهم ولكنهم نسوا أن الشعب متضامن و متعاون معه بشدة .
ولقد زادت مقاومة حسن طوبار وسقى الفرنسيون نيران المقاومة عقب صدور قرار محكمة الاحتلال بإعدام ” محمد كريم “وأمتدت نيران الثورة الى دمياط , فقرر حسن طوبار أن ينتقل بمراكبه و جنوده و المشايعين له لمواجهة الفرنسيين .
وفى ليلة 16 من سيتمبر 1798 م تحركت أهالى البلاد المجاورة لدمياط و تحركت سفن حسن طوبار تشق طريقها نحو بحيرة المنزلة قاصدة شواطئ دمياط وهناك ألتقى الفلاحون القادمون من القرى بالشعب الثائر الهابط من سفن الصيد وكانوا مسلحين بالرماح و البنادقى وتوجه الجميع قاصدين دمياط للأشتباك مع الفرنسيين الرابطين هناك .
و أبتدأ القتال فكان أول ضحاياه الجنود المرابطين فى المواقع الامامية للمدينة مما جعل الفرنسيون يطلبون النجدة فجاءت لهم من كل مكان فتحول بهذا موقفهم من الدفاع الى الهجوم ودارت بينهم معركة وحشية بين الفريقين قتل فيها من الجانبين عدد غير قليل و اضطر المصريون للتراجع لعدم تكافؤ السلاح و تحصنوا بقرية الشعراء جنوب دمياط وقام أهالى عزبة البرج بالاعتداء على الحامية الفرنسية بها وهى قرية من قرى دمياط و جن جنون الجنرال ” فيال ” وفقد أعصابه و أمر جنوده , باقتحام القرى المجاورة و قتل كل من فيها من نساء ورجال و برغم تلك الفظائع لم تهدأ ثائرة ” حسن طوبار ” فظل يواصل دوره الرائع فى تنظيم المقاومة الشعبية و جمع نابليون قواده و أدرك أنه لا خلاص من الثورات الا بالتخلص من ” حسن طوبار ” كما تخلص من ” محمد كريم “
محاكمة محمد كريم و أستشهاده :
من عجائب الامور ان عقب مجيئه بيومين تم تدمير معظم سفن الاسطول الفرنسى على يد الاسطول الانجليزى فى موقعة ابى قير البحرية فأذا كان تأخر يومان لمات غرقاً ولكن كان قدره ان يرحل الى القاهرة لتزهق روحه رميا بالرصاص على يد الجلادين أنفسهم وقد أرسل نابليون إلى برسالتين الى فى شأن السيد محمد كريم الاولى موجهة إلى الاميرال ” برويس ” حوت مجموعة من التعليمات حول الاجراءت التى يجب ان تتخذ ضد محمد كريم بعد أن تأكد له خيانة محمد كريم من خلال معرفته بالرسائل المتبادلة بينه و بين مراد بك يستنجد به لمقاومة الفرنسيين .
وكان من ضمن الرسائل تلك رسائل رسالة ارسلها ” محمد كريم ” الى مراد بك بالقاهرة حيث جاء فيها .
” فى العشية السابقة على رسو الاسطول الفرنسى فى ميناء الاسكندرية إن العمارة التى حضرت مراكب عديدة مالها أول يعرف و لا أخر يوصف .. لله ورسوله أدركونا بالرجال “
وأوفد السيد محمد كريم لا يقل عن عن ثلاثة عشر رسولاً إلى القاهرة خلال الليل وهو خائف من الفرنسيين بقدر خوفهم مما ينتظهم من أخطار ومشاق “
تلك الرسائل هى التى اتخذها نابليون دليلا وقرينة على خيانة محمد كريم للجمهورية الفرنسية .
ولقد طلب نابليون من ” برويس ” شدة مراقبة ” محمد كريم ” ومن معه حتى لا يهربوا من السفينة .
أما الرسالة الثانية فقد كانت مرسلة إلى كلير وتكاد تشابه الرسالة الاولى وتكاد تشابه الرسالة الاولى ولكن زاد عليها ان نابليون علم بأن محمد كريم يحوز أموالا كثيرة مخبأة داخل بئر مطمورة وأن لديه سجلا خاصا أثبت فيه جميع ما يمتلك من مال و عقار وأن بعض الخدم يعرفون مقدار تلك الثروة وطلب منه أن يقوم بأعتقالهم و تهديدهم ليعترفوا بمكان تلك السجلات و الاموال.
وقد أمر نابليون كليبر بأن يقوم بتحصيل مبلغ ثلاثمائة ألف فرنك من السيد محمد كريم عن دفع المبلغ أو إذا لم يدفع على الاقل ثلثه فى مدة خمسة أيام , فعلى الجنرال كليبر أن يأمر بقتله رمياً بالرصاص .
وما كاد زورق الكابتن ” جوليان ” ينساب على صفحة النيل فى طريقه إلى الاسكندرية حاملا معه رسالتين إلى ” برويس ” و ” كليبر ” حتى فوجئ ” جوليان ” بالوقوع فى كمين أعده له الفدائيون , فقتل فيه شر قتله فى قريه ” علقام ” ( مركز كوم حمادة الان )
ظل محمد كريم ضيفا على الاميرال ” برويس ” حتى 30 يوليو 1799 م فى ظل كل احترام و تبجيل ولكن محمد كريم كان يشعر بالضيق من حبسه على البارجه .
وأضطر ” برويس ” تحت إلحاح بونابرت إلى أن يبعث بالشيخ محمد كريم إلى رشيد فى التاريخ المذكور ” 30 يوليو ” ومعه خطاب إلى الجنرال مينو حاكم المدينة بخصوصه .
وقال برويس فى خطابه إلى مينو :
” أنى لم أستطع أن أرفض رجاءه المتكرر البالغ نهايه التلطف وأرجوكم إذا نزل برشيد أن تعاملوه باحترام “
وما كاد محمد كريم يهبط مدينة رشيد حتى شاع ذكر قدومه فى أنحاء المدينة وما حولها من قرى , وهرعت الألوف لمشاهدته و السلام عليه , مما أدى الى دب الرعب فى قلوب الاعداء فقرروا التخلص منه بأن ينقل بسرعة الى القاهرة خوفا من ثورة اهل رشيد ضدهم
أرسل محمد كريم إلى القاهرة تحت حراسه مشددة مصحوبا برسالة من مينو لنابليون يقول فيها :
” إن السيد محمد كريم حضر إلى رشيد يوم 30 يوليو فحدثت حركة كبيرة فى المدينة للحفاوة به و تهنئته بوصوله و حيال هذه المظاهرات رأيت القبض عليه و إرساله إلى القاهرة خوفا من أستفحال أمره .
ووصلت السفينة التى ابحرت فى النيل الى شاطئ بولاق فى عصر اليوم الثانى عشر من شهر أغسطس و غادر محمد كريم السفينة إلى معتقله بعد غروب الشمس حتى لا يسود القاهرة الاضطراب و القلاقل وهو فى الاسر .
وظل فى محبسه عدة أيام منتظراً محاكمته .
تشكيل المحكمة وعملها :
تم تشكيل المحكمة برئاسة ” ديبوى ” حاكم القاهرة وأنعقدت الجلسة فى معسكر القيادة العامة ومعه مجموعة من الضباط الاقل مرتبة يصل عددهم إلى أربعة توسطهم ” ديبوى ” ببزته العسكرية ذات الألوان الزرقاء و الأشرطة الحمراء وقد وضع على صدره النياشين التى أحرزها فى ميادين القتال .
وكان الجنرال و أعضاء المجكمة يحملون وجها واحدا صورة طبق الاصل من وجه قائدهم ” بونابرت ” ذى السرعة التقليدية و النظرة النفاذة وكانوا فى جلستهم يميلون إلى الامام وقد أرتكزوا بذقونهم على أيديهم عابسى الوجوه .
وعين المستشرق الفرنسى ” فانتور ” مترجما بين هيئة المحكمة و محمد كريم وعلى بعد قليل من المنصة التى يجلس عليها أعضاء المحكمة جلس السيد محمد كريم فى وقاره المعهود يحرسه مجموعة من الجنود و الضباط من حملة البنادق ذات السناكى المثبتة فى أعلاها.
كان محمد كريم يجلس ثابت الجنان وفى يده سيحته الطويلة يلبس عمامة كبيرة وله لحية طويلة تبعث الهيبة فى النفوس وتفرض على الناظرين إليه الاعجاب و التقدير.
ونادى حاجب المحكمة باللغة الفرنسية ” فتحت الجلسة ” وبدأ فى أستجواب الزعيم محمد كريم
وسأله الجنرال ديبوى :-
لقد أثبت التحقيق أنك خائن ولست أهلاً للثقة التى منحها لك القائد العام , وأنك حرضت الناس وأهل البحيرة على الثورة ضد الجمهورية .
فرد ” محمد كريم “
إن الجمهورية هى التى خانت مبادئها اغتصبت- وطنى و قتلت الناس بلا شفقة ولا رحمة , لا لذنب سوى أنهم يدافعون عن بلادهم و نسائهم و أموالهم .
لقد حطمتم سجنكم الباستيل فى 14 يوليو 1789 وانقذتم أنفسكم من طغيان ملوككم و أعلنتموها ثورة على الظالمين ثم ناديتم بشعاركم حرية ومساواة و إخاء ولكنكم سرعان ما تنكرتم لهذا الشعار ونسيتم ما قمتم من أجله عندما دان لكم النصر وتملكتم شهوة الطمع و الاغتصاب فأنطلقتم من بلادكم وحرياتها و أصبح شعاركم ” الموت للشعوب و الحياة لفرنسا و حدها “
وذهل الحاضرون من بلاغة الشيخ خصوصا عندما طلب منه الامانه فى ترجمة كلامه مما أدهش الحاضرون من كلام شخص قاب قوسين أو أدنى للموت وساد الصمت المكان عندما حذره ” ديبوى بأن كلامه هذا سيقوده للاعدام .
فرد عليه ” محمد كريم ” فى جرأة .
أذا كان دفاعى عن بلادى و قول الحق سيقودنى للموت فمرحبا به فالموت حق و الاستشهاد فى سبيل الوطن غاية الشعوب الحرة التى تأبى الظلم و ترفض الاستعباد وأن كان قيامى بتحريض الشعب عليكم يعد خيانة منى فما أعظمها من خيانة , مادامت ستحرر مصر من قبضتكم و سيطرتكم الغاشمة ” ثم هب واقفا فى عصبية ظاهرة و قال :
” إن إيماننا بالله يفرض علينا أن نحب وطننا ونضحى فى سبيل أساعده وتطهيره من الغاصبين بدمائنا و أرواحنا فحب الوطن من الايمان كما قال نبينا صلوات الله عليه , وأن ما قمت به ضدكم هو تنفيذ لتعاليم ديننا الحنيف وأنكم اليوم بمحاكمتكم تسجلون على أنفسكم فى صفحات التاريخ أنكم قتلة سفاحون , وأن شعاركم الذى ناديتم به يوم ثورتكم ما كان الا ستارا زائفاً تخفون وراءه نياتكم الشريرة و أطماعكم نحو الشعوب الامنه المطمئنة .
أنكم ستؤكدون للعالم بموقفكم هذا و لمحاكمتكم لى ,أننا شعب عظيم ننشد الحرية و نضحى فى سبيلها بالنفس و النفيس و سيخلد التاريخ إسمى و أسماء المجاهدين من بعدى .
وقد أزداد غضب ” ديبوى ” اكثر من كلام ” محمد كريم ” و مد يده و أخرج من حفنة الاوراق التى أمامه رسالة لوح بها ل ” محمد كريم” انها بخط يدك أرسلتها ضدنا الى قصر مراد بك وفيها تحرضه ضدنا وهذا أثبات لا يقبل النقاش المراوغة .
فرد عليه محمد كريم
نعم أنها رسالتى وقد كتبتها بخط يدى استغيث به لقتالكم و طردكم من بلادى وان دفاعى ضدكم يوم نزلتم الى بلدى يبرهن لكم على اننى لا اقيم وزنا لحياتى , وإذا كنت أسف على شيء فليس أسفى أننى لم أنجح فى مقاومتكم بل لأننى اعتمدت على هذا المملوك المغرور الذى لولا غروره و جهله لما كنت اليوم ملقيا بين أيديكم .
لقد تأجلت المحاكمة لليوم التالى لإكمال الحوار وسماع الاقوال .
وكان رد محمد كريم الاخير :
” ستؤكدون للعام بموقفكم هذا و بمحاكمتكم لى انكم ظلمة كما ستثبتون أننا أمة تبغى الحرية و تضحى فى سبيلها لكل ما تملك و سوف , يخلد التاريخ إسم مجاهد رفع سلاحا ضد أعداء الحرية من أجل الحفاظ على حرية وطنهم .
لقد كان الحوار بين الضحية و الجلاد درسا من دروس التاريخ من أجل حماية حق المضطهدين فى مواجهة الغزاة المغتصبين .
ولقد توجه نابليون لرؤية خط سير المحاكمة ولم يسع نابليون إلا ان أوحى إلى المجلس العسكرى الذى شكل لمحاكمته أن يحكم عليه بالقتل رميا بالرصاص , مع مصادرة أمواله و أملاكه على أن يكون له الحق فى افتداء نفسه يثلاثين ألف ريال وكان أن نفذ المجلس العسكرى قرارات بونابرت , ولكن محمد كريم عندما سمع الحكم عليه قال لقضاته الفرنسيين :-
” لحظة أيها القوم , أما حياتى فلست متمسكا بها , ولا حريصا عليها فهى منتهية فى وقتها المحدد لها وقد .. وقد قال كتابنا العزيز .
” قل لن يصيبنا الا ماكتب الله لنا “
كما قال قرأننا المجيد .
” فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون “
وواصل محمد كريم أقواله :-
” أما أموالى فلتعلموا أننى ما أدخرتها لأشترى بها رحمتكم و أفتدى بها نفسى من الموت على أيديكم ولكننى أعددتها لحربكم و تنغيصكم إذا قدر لى أن أعيش وإذا مت فسيحمل علم الجهاد من بعدى أيد فتية و نفوس مخلصة ستجدون منها الأهوال و ستخرجون على أيديهم من بلادنا أذلاء مهزومين إن عاجلا أو أجلا .
وقد صدق السيد محمد كريم فيما قاله فى أعقاب الحكم الذى صدر عليه بعد جلسة محاكمة هزلية كان القضاه فيها هم الخصوم وكان الاعداء هم الجلادون وكان المغتصب هو الذى أتهمه بالخيانة .
ذهب شعب مصر يدافع عن وطنه فى ثورة عنيفة بعد شهر واحد من إعدامه وهى التى عرفت باسم ” ثورة ” القاهرة الاولى “ قامت فى وجه بونابرت .
وق أكد المؤرخون أن أكبر أخطاء نابليون هو أصداره الحكم بإعدام السيد محمد كريمفى السادس من سبتمبر سنة 1798 لان نابليون خان بذلك مبادئ الحرية و الدفاع عن شرف الوطنية .
لقد قابل محمد كريمالنطق بالحكم بصدر رحب ونفساً أبيه و أظهر جلداً وثباتاً ومرت الساعات وأطرق المترجم ” فانتور ” أن طرق باب المعتقل الذى يوجد فيه محمد كريم وطالبه بقبول دفع الفدية قبل مرور ال24 ساعة المحددة مؤكداً له أن بونابرت و هيئة المحكمة مصممة على تنفيذ الحكم بلا أدنى تأخير .
قال فانتور لمحمد كريم :-
” أنك رجل غنى , فماذا يضيرك أن تقتدى نفسك بهذا المبلغ …”
فرد عليه محمد كريم فى إباء و شمم بقوله :-
“إذا كان مقدور على أ أموت فلا يعصمنى من الموت أن أدفع هذا المبلغ وان كان مقدراً لى الحياه فعلام أدفعه .
كما حاول القنصل الفرنسى ” ماجلون “ أيضا مع محمد كريم فى أفتداء نفسه ولكنه قوبل بالرفض .
وعلم نابليون أن محمد كريم لن تلين قناته وإنه فهم لعبته التى كانت تعنى أنه فضل فدية نفسه على الشهادة بروحه فى سبيل وطنه مما يجعله يحظى يأحتقار شعبه , لذلك أصدر نابليون قرار بأعدامه فوراً .
أستشهاد البطل ” محمد كريم ” فى 6 سبتمبر 1798 م
لقد ذكر المؤرخ الجبرتى وصف لمشهد إعدام الشهيد محمد كريم:-
” فلما قرب الظهر , وقد إنقضى الاجل أركبوه حماراً , وأحاط به عدد من العسكر و بأيديهم السيوف المسلولة و يتقدمهم طبل يضربون عليها وشقوا به الصليبية إلى أن ذهبوا إلى الرميلة , و قاموا بقيده وكتفوه و ربطوه مشبوحا و ضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه ثم قطعوا رأسه ورفعوه على نبوت وطافوا به جهات الرميلة و المنادى يقول “هذا جزاء من يخالف الفرنسيس “
ولقد كانت اخر كلماته قبل أطلاق الرصاص عليه من جانب الفرنسيين موجهة للمصريين وهى : ” كونوا مثلا للتضحية .. اصمدوا فى وجه المستعمر وقاموا جبروته و طغيانه مهما كان العنف و العناء “
ولقد أخذ اتباعه رأسه مهللين ” الله اكبر ” و دفنوها مع جثته فى إحدى الترب التى كانت موجودة خلف جامع المحمودية بالقلعة .. والكل بين وجوم و حزن و ألم دفين ….
وهناك قول يقول بأن رأس الشهيد دفنت فى المنطقة الواقعة بين المكس و القبارى على طريق السكة الحديدية بجوار فرق الجراية .. حيث أطلق عليه الاهالى مقام ” سيدى كريم “
لقد أعتبر ” تيبودو ” أحد كتاب فرنسا اللامعين بعد أكثر من ربع قرن أن إعدام ” محمد كريم ” جريمة بشعة و قاسية ما كان لبونابرت أن يقدم عليها وقال فى ذلك :-
إن إعدام هذا الشريف هو أول عمل من التصرفات العدة التى وجهت فيها التهم إلى نابليون فى أثناء حملته على مصر .. لأن النفوس الحساسة تأثرت للخاتمة التى أنتهت بها حياة هذا الشريف النزيه الذى أعدم بأمر القائد العام على أن الجنرال كليبر كان أول من أقتنع بخيانته للجمهورية وهو الذى قبض عليه واتهمه لدى بونابرت وذلك لغيرة كليبر من مشاركته سلطانه ولانه وقف ضد رغباته بالاضافة إلى أن نابليون ظن أنه بالقضاء عليه سيقضى على المقاومة الشعبية التى تواجهه فى مصر كلها .
لقد أظهر ” محمد كريم ” للعالم أجمع عظمة الشخصية المصرية التى تضحى بروحها فداءاً للوطن وأظهر للعالم أجمع مدى وهم و سراب شعار الثورة الفرنسية ” حرية – أخاء – مساواة ” فقد أظهر فرنسا و ثورتها بوجهها الحقيقى وكذبها و أدعائها الديمقراطيه الكاذبة .
تكريم الدولة لمحمد كريم :
في عام 1953م تم تكريم محمد كريم ووضعت صورته لأول مرة مع صور محافظي الإسكندرية في مبنى المحافظة تخليداً لذكراه. كما أطلق اسمه على شارع التتويج وأصبح اسمه شارع محمد كريم (وهوالشارع الموازي لطريق الكورنيش ويبدأ من أمام الجندي المجهول وحتى ميدان المساجد). كما أطلق اسمه على احدى المدارس الخاصة بالإسكندرية (مدرسة محمد كريم بسموحة). وفي 27نوفمبر 1953 افتتح المسجد المجاور لقصر رأس التين وأطلق عليه “مسجد محمد كريم وقد صنع تمثال للقائد محمد كريم تم وضعه في حديقة الخالدين بالإسكندرية.
المصادر و المراجع التى تم الاعتماد عليها :
1.عبد الرحمن الجبرتى : عجائب الاثار فى التراجم و الاخبار , القاهرة , مطبعة الشعب , 1959
2.عبد الرحمن الجبرتى : تحقيق عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم , مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس , مطبعة دار الكتب , 9983 .
3.محمو محمود الشال : فى تاريخ مصر الحديث و المعاصر , الاسكندرية , 2006
4. محمد متولى , تقديم السفير أيمن القفاص : محمد كريم شهبد الوطنية المصرية ,
*أستاذ مصطفى سعد محمود الجنسية مصري حاصل على ليسانس الاداب فى التاريخ والحضارة الانسانية من كلية الاداب والعلوم الانسانية جامعة قناة السويس
*استاذة صابرين سليمان الجنسية مصرية حاصلة على ليسانس التربية قسم التاريخ كلية التربية جامعة الاسكندرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق