الأحد، 20 يوليو 2014

ما بين الشجاعية والإسماعيلية

ما بين الشجاعية والإسماعيلية

 الدكتور محمد عباس

ينفجر القلب بالألم
ما حدث في الشجاعية ليس جديدا وليس غريبا..
لكن أبناء الأفاعي والزواني يريدون منا أن ننسى..
يريدون أن ننسى على سبيل المثال ما حدث في الإسماعيلية بعيد الهزيمة المروعة عام 67 والذي سجله الكاتب الصحافي فتحي رزق في كتابه:

"جسر على قناة السويس"

لم تكن الأحداث أقل مما حدث في الشجاعية
ففي ليلة واحدة كان هناك 362 شهيداً بين امرأة وشاب و شيخ و طفل . . و 350 فرداً تختلف إصابتهم بين شديد الخطورة ومتوسطة وخفيفة، و قال الأطباء أن عدداً من هؤلاء المصابين معرضون للموت في أي لحظة.
***
فهل تسمح لى أيها القارئ أن أعود بك إلى الوراء لنقرأ إحدى هذه الروايات التى نسيناها ، لا كى نفهم ما حدث بل لنفهم ما سيحدث ، ولكى يعيش شباب اليوم معنا الألم الذى عشناه، والذى عاشه معنا محمود نور الدين، رئيس منظمة ثورة مصر (رحمه الله)الألم الذى دفعه لأن يفعل ما فعل، والذى بدون تذكره لا يمكن فهمه، نعود لنجتر ذلك الألم كيلا ننسى ما تحرص أجهزة إعلامنا أن ننساه، فلنقرأ القليل جدا من كتاب فتحى رزق: جسر على قناة السويس، فى ليلة 16 يوليو 1967 ..
16 يوليو
نفس الشهر..
لكن منذ ما يقرب من نصف قرن..
ها هو ذا يتكرر في الشجاعية كما تكرر مئات المرات في سواها وكما سيتكرر مئات المرات طالما استمر حكامنا الخونة
حكامنا الصهاينة الخونة:

فلنقرأ:

" ما حدث لمدينة الإسماعيلية مساء أمس كان شيئا مروعا، بل إنه فوق كل تصور بالفعل، لقد قام جيش إسرائيل الشجاع بدور رائع حقا فى ضرب المواطنين ومنازلهم، وذبح السكان والأشجار والحيوانات، واستطاع أن يؤكد أن إسرائيل ليست دولة بالمفهوم المتعارف عليه فى عالمنا الحالى. ويبدو أن الدولة التى قامت على الإرهاب لا تستطيع أن تعيش بغير المزيد من الدم والمزيد من الإرهاب(…)إننى - و أنا أكتب هذه السطور بعد أن أمضيت ليلة بشعة ونهارا قاسيا باكيا حزينا – أؤكد أن هؤلاء الصهاينة لن يستطيعوا الهرب من عقاب الشعب المصرى ولا بعد 10 أجيال، على ما اقترفته أيديهم المخضبة بالدماء ضد المواطنين العزل من النساء والأطفال والشيوخ، وبيوتهم التى دمرت فوق رؤوسهم بلا سبب جنوه. لقد عشت طول الليل فيما يشبه الكابوس المروع لهول ما رأيت، إن القتلى والجرحى من أبناء الإسماعيلية كانوا بالعشرات والمئات فى الشوارع وحول المنازل، فى الأزقة والحارات، وعلى سلالم المنازل ومحطة السكة الحديد، لم يسلم حى واحد من أحياء المدينة من القصف الوحشى بالمدفعية الثقيلة ومدافع الهاون والصواريخ، و قد خرج المئات من رجال الحكم المحلي و الدفاع الشعبي و المدني و المقاومة الشعبية و التنظيم السياسي، يشاركون مع رجال الإسعاف في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصابين والجرحى، و نقل الموتى إلي المقابر، و حصر تلك الأعداد الكبيرة من الذين سقطوا في مذبحة رهيبة لا يمكن تصورها، و تفوق في بشاعتها ما فعله الجيش النازي في المدن الأوربية عشرات المرات . .
لقد أمضيت الليل بطوله أتنقل من مكان إلي مكان داخل المدينة مذهولاً . .
و بكيت عدة مرات في الظلام الدامس و بجوار الأمكنة التي اشتعلت فيها النار و ظلت مشتعلة لساعات طويلة . .
الصورة كئيبة و مؤلمة و حزينة إلي درجة تعجز الكلمات عن وصفها . . لقد استهدف العدو ضرب الإنسان البسيط العادي في إنسانيته و صموده إلي أقصي درجة ممكنة . . فتح نيران المدافع الثقيلة علي المنازل مباشرة و الشوارع ، كل الشوارع، في طول المدينة و عرضها . . و ضرب محطة التيار الكهربي و محطة المياه و مبني السنترال في وقت واحد، فتحولت المدينة إلي جثة هامدة.
و في نفس الوقت ضرب العدو الآثم مبني محطة السكة الحديد في موعد قيام القطار الذي سيغادر المدينة إلي القاهرة، و القطار القادم من الشرقية إلي الإسماعيلية، و أصيب قطار الشرقية بإصابات مباشرة و اشتعلت فيه النار، و حصل ما يشبه الجنون للركاب الذين أصيبوا خلال لحظات بإصابات قاتلة من الانفجارات و تناثرت الشظايا و اشتعال النار، و بدءوا يلقون بأنفسهم من القطار و النيران مشتعلة فيهم، بينما كانت قذائف الهاونات تستقبلهم علي شريط السكة الحديد و أرصفة المحطة، و أصيب الذين استطاعوا الخروج من مبني المحطة في ميدان عرابي المواجه له حيث كان القصف العشوائي الرهيب لا يزال مستمرا.
احترق عدد كبير من الركاب، و أصيب عشرات أو قتلوا أمام المحلات العامة والتجارية و المقابر و دور العرض، و في الشوارع و داخل المنازل. . خرج الناس إلي الشوارع هرباُ من الجحيم الذي حاصرهم داخل البيوت . . النساء بملابس النوم وصرخات الأطفال و الأمهات تملأ الشوارع . .فهذا أب يبحث عن ابنه، و تلك أم تبحث عن طفلتها، و ذاك شيخ يصرخ باحثاً عن أسرته.
و هنا بلغت المأساة ذروتها، حيث كان المواطنون الذين خرجوا من البيوت يصطدمون بالعائدين إليها، بينما القذائف تتساقط علي الجميع و النيران مشتعلة في عشرة أمكنة، كأنها مشاعل الموت تضئ المدينة للعدو لكي يزيد من وحشيته. . ويا لها من ليلة حالكة السواد، شديدة الظلام، إلا من الحرائق التي شملت كل شئ . .
و رغم ذلك فقد بذلت خلال الليل جهود إنسانية و بطولة من الدرجة الأولي، شارك فيها عدة مئات من رجال الدفاع الشعبي و المدني و المقاومة الشعبية و رجال الإسعاف الشباب، و تم ترحيل العدد الزائد من الجرحى و المصابين الذين لم تستوعبهم مستشفيات المدينة إلي القاهرة و الشرقية، و تم نقل الشهداء إلي المقابر، و شكلت عدة مجموعات عمل قامت بحصر أسماء الشهداء و جمع حاجياتهم مثل البطاقات العائلية أو الشخصية والنقود و الخواتم و أي شئ يعثر عليه في ملابس الشهيد.
و استخدمت فرق العمل الكشافات ليلاً و طافت بالأحياء و الشوارع في عمل مكثف نشط رغم الظلام و الأحزان، و قد رأيت بعض الرجال يقومون بنقل أقاربهم القتلى ثم يواصلون عملهم بعد ذلك . .كان هناك شبه اتفاق علي الانتهاء من هذه المهمة قبل شروق الشمس حتى لا يري الناس أولئك المصابين و القتلى في الشوارع.
توقفت أكثر من مرة أمام القتلى . . أنظر للوجوه بحثاً عن الأقارب و الأصدقاء.
و من بين ما بكيت عليهم دون مقاومة ممرضة شابة كانت تعمل لدي أحد أطباء المدينة، و كانت قد أعطتني عدداً من حقن المضادات الحيوية بسبب السعال الشديد الذي انتابني خلال الأيام الماضية، و كانت آخرها قبل ضرب المدينة بساعات. كانت فتاه رقيقة الحديث دمثة الخلق، و قد أصابتها شظية في صدرها عندما خرجت تعدو من عيادة الطبيب عندما قصف العدو العمارة المجاورة لها.
و انهالت دموعي مرة ثانية عندما سقطت في الظلام علي رصيف شارع السكة الحديد أمام مبني النادي بسبب اصطدامي بعدد من جثث القتلى . . و عندما حاولت الوقوف وجدت يدي داخل أمعاء واحد منهم، و أحسست بهلع لا يوصف بينما كنت أتماسك وأمسح الدماء من علي يدي بملابسي.
و بكيت مرة ثالثة في ميدان شامبليون عندما وجدت حوذياً عجوزاً يبكي بصوت كالأنين و هو جالس علي أرض الميدان بجوار جثة تبين أنها لحصان (…) وقفت في شارع الثلاثينى الذي يقع في منتصف المدينة مذهولاً .. في هذا الشارع كان أكبر عدد من القتلى أمام المقاهي والمحلات العامة . وكان بين الذين اعرفهم محام اسمه عبد المنعم الطيب ، ووجدت دموعي تنهمر من جديد بعد أن نظرت في وجهه ..لقد كنا علي موعد بعد أن أصر علي المشاركة معنا في إصدار النشرة اليومية التي كنا نطبعها ونوزعها علي الأقدام ، وقال لي صارخا في آخر مرة قدمت فيها النشرة .. كيف تتركني أجلس علي المقاهى دون أن اعمل معكم .. إنني مستعد للعمل معكم كساعٍ أو فراش أو موزع لهذه النشرة .. أليس من العار أن انتظر الموت علي المقاهي ؟ ! ..
وعرفت أن الطبيب قد استشهد أمام باب المخبأ، لأنه أصر علي أن يقوم بعمل رجل الدفاع المدني، و أن يشرف علي دخول المواطنين إلي أحد المخابئ العامة . . و قبل أن يتوقف القتال بدقائق أصابته شظية فسقط أمام باب المخبأ شهيداً.
جلست في غرفة عمليات الدفاع الشعبي مكدوداً مهموماً ملطخ النفس بالوحل . . ورأيت الوجوه يلفها وجوم كئيب، و الأيدي تتحرك بصورة آلية. . التقارير الواردة ما زالت غير مؤكدة . . فهي تتغير كل 5 أو 10 دقائق . . و لكن الأرقام مفزعة، و كل شئ يؤكد أن الخسائر رهيبة . . ووصف أحد القادة العسكريين، و كان في مهمة داخل غرفة العمليات، ما حدث للإسماعيلية بأن العدوان قد أعد له مسبقاً، و هو مبيت بخبث، وأن حجم القصف الذي تعرضت له المدينة و أنواع الأسلحة المستخدمة لم يحدث لأية مدينة في العالم خلال الحرب العالمية الثانية.
و مع بدايات الشروق الأولي خرجت من غرفة العمليات أريد أن أشم هواء آخر غير ذلك الهواء المكتوم و المعبأ بدخان السجائر الكثيف . . و في الشارع الكبير هالني منظر المدينة، فلم أكن قد رأيتها في ( النور ) . . الإصابات في المنازل و المنشآت بشع، وبقايا دخان الحرائق لا يزال يخرج من بعض الشوارع و من الأبنية الواقعة علي الشاطئ الغربي لبحيرة التمساح، و من بعض الأماكن البعيدة في غرب المدينة و أحيائها الشرقية و الجنوبية.
حاولت أن أملأ صدري المرهق بدخان السجائر طوال الليل من النسمات القليلة القادمة من الشمال . . امتلأت أنفاسي برائحة غريبة . . لم يكن هواء المدينة بمثل تلك الرائحة في أي وقت من الأوقات . . رائحة يختلط فيها دخان البارود برائحة الدماء . . و تراب المنازل و الأبنية التي انهارت نتيجة القصف المدفعي مع رائحة الأشجار المحترقة التي لا تزال النيران مشتعلة في بعضها كل هذه الروائح تختلط في النهاية برائحة زهور الفل والياسمين النفاذة التي تمتلئ بها حدائق نصف المدينة . . المنطقة التي يطلق عليها حي التمساح أو الحي الشرقي.
في الشارع الكبير منازل كثيرة أصيبت إصابات مباشرة . . بعضها أحدثت فيه القنابل فتحات كبيرة و البعض الآخر تصدعت حوائطه و سقطت في الشارع . . بعض المنازل يخيم عليها الصمت . . كان جميع السكان مازالوا نائمين . . أو تركوها في الليلة الجهنمية مما أصابهم من ذعر و هلع.
في الشوارع الأخرى الجانبية عشرات من المنازل كانت إصابتها أكثر تدميراً.
بينما كنت أشعل سيجارة جديدة . . سمعت صوتاً غريباً . . كان هناك منزل يتصدع، و ما لبث خلال ثوان أن سقط نصفه الأمامي علي الأرض، و أحدث دوياً تردد صداه بعنف داخل نفسي . . أسرعت إلي هناك لكي أري ما حدث. . اقتربت بحذر شديد من المنزل محاولاً التأكد من أن المنزل لم يسقط علي من فيه من سكان.
في اللحظات التالية رأيت مجموعة من رجال الدفاع الشعبي . . و بادرني أحدهم بسرعة . . قائلاً :
( لقد أخليناه ليلاً من سكانه و لا يوجد به بشر . . لا تبتئس ) . .
مشيت إلي ميدان المحطة ( عرابي ) و في الطريق التقيت بأعداد متناثرة من الناس يخرجون من المنازل في صور ة غريبة وكأنهم يخرجون للحياة لأول مرة .. كل شئ مدمر تقريبا .. حتى الأشجار كانت قد أصابتها القنابل والهاونات والشظايا وقطعتها ، وأشجار أخري تكسرت كل أو بعض فروعها.. وأشجار اشتعلت فيها النار ، فاحترقت كل أوراقها الخضراء . . غير أنها بقيت واقفة . . رأيت أجساداً وجثثاً لكائنات صغيرة ، كلها من الطيور وأكثرها من العصافير التي تسكن الآلاف منها أعالي الأشجار .. كانت مبعثرة بأعداد لا حصر لها علي الأرض .. نزفت دماءها البريئة علي أديم الشارع أو فوق الأرصفة .(…) في ميدان السكة الحديد رأيت أعمدة الكهرباء واقعة علي الأرض ، وأسلاكها مبعثرة ، ومبني السنترال إصابته خطيرة، ومبني البريد شبه مدمر، و محطة السكة الحديد لا يزال الدخان يخرج منها .. ومع ذلك وجدت عدداً كبيراً من الرجال داخل المحطة يعملون بسرعة و في صمت شديد في نظافة المكان وغسل الأرصفة و إزالة أثار مذبحة الأمس، بينما ناظر المحطة يجري اتصالاته لتنظيم مغادرة قطارات الصباح إلي القاهرة و الشرقية في مواعيدها ..
كان وجوه هؤلاء الرجال يرتسم عليها تصميم شديد علي تغير تلك الصورة الكريهة بكل الوسائل قبل مواعيد العمل . . مشيت بخطوات متثاقلة نحو الحي الشعبي . . الذي كانت الإصابات فيه أكثر من الأحياء الأخرى . . رأيت مجموعات أخري من العمال الأشداء و رجال الدفاع المدني و الشعبي ينشطون في نقل مخلفات القصف و بقايا جثث الشهداء التي عثر عليها في ساعات الصباح الأولي إلي المقابر .
رأيت عند المقابر مشهد الحرب القذرة، ممثلاً في أكوام عديدة من الجثث تنتظر دورها للذهاب إلي مثواها الأخير . . و عدد كبير من العمال يحملون الجثث و يذهبون إلي مقبرة ضخمة في قلب المقابر، و هي مقابر قديمة أصبح موقعها مع الزمان في قلب المدينة تقريباً.
و جلس عدد من الشباب، و أمام كل منهم طاولة صغيرة، و كشف يسجل فيه أسماء الشهداء قبل نقلهم إلي المقابر و تجمعت أمامهم أعداد كبيرة من بطاقات تحقيق الشخصية و صور الأفراد و عائلات الشهداء و قطع النقود الورقية و الفضية و أوراق خاصة تحمل ذكريات غالية لهؤلاء الذين ماتوا بأقصى قدر من البشاعة بلا سبب . .
عدت إلي المقابر داخل سيارة الحاكم العسكري . . كان الرجل- و هو محافظ المدينة- في حالة شديدة من السوء، فلم ينم طوال الليل، و تحمل علي أعصابه مشهد مدينته و هي تذبح . . لم يتكلم خلال الطريق، كان ما جري قد أصابني بالإعياء الشديد . . و لابد من التشبث بأكبر قدر من المقاومة الجسدية و قوة الروح .. جيش العدو يريد قتل ما تبقى من الحياة في المدينة .. المدينة كما يبدو كانت هى الهدف الذى أراد تحطيمه .. الإنسان والروح .. تري كم عدد القتلى و الجرحى بالضبط .. هل كان من الممكن أن ينجو أحد من هؤلاء الذين قتلوا أو أصيبوا .. لا.. لم يكن من الممكن أن ينجو أحد.
في مبنى قيادة المقاومة الشعبية، و هو أحد الأبنية التابعة للتنظيم السياسى في أكبر شوارع المدينة، وجدت عدداً كبيراً من المواطنين من أبناء المدينة و القادمين من خارجها بدءوا يتوافدون للسؤال عن أقاربهم أو أولادهم و زوجاتهم .. وكل منهم يقول أنه ذهب إلى المنزل فلم يجد والده أو ابنه أو زوجته أو أقاربه . . الجميع يبحثون عن الذين خرجوا و لم يعودوا منذ ضرب المدينة بالأمس . .
البعض لديه أمل في العثور علي الغائب، و البعض يسأل في يأس عن أسماء القتلى والمصابين بحثاً عن اسم أو أسماء من يبحث عنهم . .
كانت هناك ثلاث مجموعات عمل من الشباب تجلس حول طاولات صغيرة وأمامهم كشوف بأسماء الجرحى و المصابين الموجودين فى مستشفيات المدينة .. أو الذين نقلوا إلي مستشفيات أخري خارج المدينة . . و كشوف أخري بأسماء الذين استشهدوا و يجري دفنهم في مقابر المدينة . .
يا له من مشهد عاصف مشحون بالحزن الشديد و الألم الجارح الغائر في قرارة النفس.(…) و قبل الظهر، و بعد أن تأكدت كل فرق المقاومة و الدفاع الشعبي و المدني و رجال الحكم المحلي إنه لم يبق مكان واحد في المدينة دون التأكد من خلوه من القتلى أو المصابين . . تم حصر كل الشهداء الذين دفنوا و المصابين في مستشفيات المدينة وخارجها . . بدأت الأرقام تتحدد، و الصورة الحقيقية للخسائر تتضح . . كان هناك أكثر من 600 منزل و مبني تعرض للإصابات من الدرجات الأولي و الثانية و الثالثة، من بينها محطات المياه و الكهرباء و السنترال و السكة الحديد والبريد و سوق الجملة التي يضم مخازن الدقيق و مواد التموين الحيوية، و عدد من محطات البترول، و قد تبين عدداً من هذه الأجهزة الحيوية لن يعمل قبل عدة أيام و إن كان بعضه يعمل الآن بكفاءة محدودة. . أما الخسائر في البشر فكانت الأرقام مروعة . . كان هناك 362 شهيداً بين امرأة وشاب و شيخ و طفل . . و 350 فرداً تختلف إصابتهم بين شديد الخطورة ومتوسطة وخفيفة، و قال الأطباء أن عدداً من هؤلاء المصابين معرضون للموت في أي لحظة.
هكذا نجح جيش إسرائيل ( الشجاع ) في ضرب المدنيين(…) و في أحداث اليوم أجدني أتذكر موقف أسر و عائلات الشهداء الجرحى، كان هؤلاء الناس من أبناء شعبنا صورة رائعة ممتازة من الصمود النادر . . لم أر واحدا منهم يبكي، حتى النساء من أمهات و أخوات الشهداء كن صورة ممتازة لشعبنا . . لم أر دمعة واحدة في عيون كل هؤلاء . . كن يقرأن كشف الشهداء و كشف الجرحى في هدوء تام لم أري مثله في حياتي. . كانت السيدات أقوي مما حدث رغم ما ذرفته أنا شخصياً من دموع."
* * *
هذه هى أحداث ليلة واحدة ، جملة واحدة من الرواية فكيف ننساها، كيف، حتى لو كانت إسرائيل قد تابت عن الإجرام وأنابت يبقى لنا القصاص مما مضى، فما بالنا وهى كل يوم تعيد ما فعلت وما ذكرى قانا عنا ببعيدة…

هل من الممكن أن تتآمر أمة على ذاتها و أن تخون نفسها…
أمة كاملة …

ملحوظة: الجزء الرئيسي من هذا المقال نشر في صحيفة الشعب منذ عشرين عاما كما نشر في كتابي: "بغداد عروس عروبتكم"

===================

قراءة كتاب فتحى رزق " جسر على قناة السويس" الرهيب والمروع، وهو كتاب أرجو أن أعود إليه بين يدى القارئ، فهو يسجل أحداث الهزيمة يوما بيوم وليلة بليلة، كتاب يفضح لا اليهود فقط بل ويفضح العرب الصهاينة وكل مشاريع الاستسلام ، و لو كنت وزيرا للتعليم لقررته على طلبة المدارس مائة عام، عندما صدر ذلك الكتاب، رحت وقد استبدت بى الدهشة أتساءل: كيف استطاع الكاتب أن يعيش هذه الأحداث كلها ثم ينجو من الموت، ثم كيف بعد أن نجا من الموت لم يمت من الانفعال وهو يكتبه، وفى اليوم التالى كانت الصحف تنعى فتحى رزق، مراسل الأخبار، والذى سجل فى عمل فريد يوميات الحرب فى الإسماعيلية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق