القبض على (1984)
محمد طلبة رضوان
تقول الأسطورة: إن حس الفكاهة، والسخرية اللاذعة عند المصريين بدأ مع بناء الأهرامات، وحمل الأحجار الثقيلة، كان المصريون يسخرون من أنفسهم، تهوينًا من هول ما أُجبروا على حمله، من يومها تعوّد المصري أن يسخر من كل ما يثقل عليه ويعجز عن تغييره.
***
يقول الخبر الذي نشره موقع “المصري اليوم” أمس الأحد، إن أجهزة الأمن ألقت القبض على طالب، في محيط جامعة القاهرة، واتهمته بحيازة رواية 1984 لجورج أورويل، والتي تتحدث عن ديكتاتورية الأنظمة العسكرية، بالإضافة إلى بعض المتعلقات الشخصية، وكشكول “مدوّن به عبارات تتحدث عن الخلافة الإسلامية”.
***
لماذا صدق المصريون الخبر، رغم غرائبيته، وانفجروا في وصلة سخرية مريرة من كل شيء؟ هل يعقل أن لدينا ضابط شرطة يعرف شيئًا عن رواية 1984؟قطعًا لا، هل يعقل أن لدينا طالبًا يجمع في حقيبته بين رواية لجورج أورويل وكشكول مدون به عبارات عن الخلافة الإسلامية؟! بالطبع لا.
أغلب الظن، أن الطالب المذكور قد ألقي القبض عليه فعلًا، لكن لسبب آخر غير حيازته لرواية؛ إلا أن الصحفي، أو الديسك، لم يجد سوى “تعلية” “الرواية” بوصفها علة إلقاء القبض على المدعو “محمد. ط”، لأسباب تتعلق بالترافيك، ونسب المشاهدة، وإثارة الجدل، والشير، إلخ.
والسؤال: لماذا يصدق القارئ خبرًا كهذا، لماذا صدقنا وسلمنا، أن رواية مترجمة، وكشكولًا مدونًا به خواطر شخصية، يمكن أن يكونا سببًا لإلقاء القبض على مواطن، والتحقيق معه؟
***
في عام حكم مرسي، انتشر خبر على مواقع التواصل الاجتماعي يفيد بأن الشرطة قامت بإزالة سور الكتب بشارع النبي دانيال بالإسكندرية، وهو السور الذي يوازي سور الأزبكية بالقاهرة، يقصده مثقفو الإسكندرية لشراء الكتب المستعملة بأسعار زهيدة، كان الخبر أسود، واندفعنا جميعًا في وصلة لطم كربلائية عن الحكم الديني الفاشي، الذي يعيد إحراق كتب ابن رشد، استدعينا تراث القرون الوسطى ومحاكم التفتيش كله، ولم نستمع إلى أي من الأصوات التي كذبت الخبر في حينه، وتعاملنا مع الخبر بوصفه وقع وانتهى الأمر، ولما تبين كذب الخبر، وكونه “مفبركًا”، من الألف إلى الياء، لم يعلق أحد!
إن تصديق الخبر الكاذب، مثل تصديق الحديث الموضوع، كلاهما تخلقه الظروف المحيطة بنوعية الخطاب، تلك التي استدعته وساهمت في انتشاره ورواجه، والتسليم بصحته، لقد صدقنا أن الشرطة ألقت القبض على الطالب؛ لأنه يقرأ لجورج أورويل، لنفس الأسباب التي دفعتنا لتصديق إزالة الإخوان لسور الكتب، ولا يعني كذب الخبر في الحالتين، انعدام مسؤولية السلطة عن تصديق الناس، لقد صدقنا؛ لأن واقعنا يصدق على “الرواية”، صحت أم لم تصح.
تعالى نتفق، أنت حر، تعتقد ما تشاء، ارفض الثورة كما يحلو لك، صدق كما شئت أنها ثورة خونة، ومأجورين، وعملاء، وأنها نكسة، وأن الجيش حمى المؤامرة، ثم عاد ليكشفها، وأنه لا تعارض بين الاثنين، صدق ما شئت، وعلى ما شئت. ولكن، فكّر قليلًا، لماذا يصدق الناس مثل هذه الأخبار رغم غلبة الظن على كذبها؟
لقد جاء السيسي محمولًا على أجنحة الأمن والاستقرار، والحفاظ على الدولة، صدقته، وآمنت به، وفوضته، ووافقت على قتل الناس، واعتقال النشطاء، صوّت بـ”نعم” على دستور عسكرة الدولة، قلت أن هذه هي ضرورات المرحلة، التمست الأعذار والمبررات لكل شيء، وأي شيء.
دعك من الإخوان الآن، أنت تكابر في تقييم واقعك كي لا تشمت الإخوان بك، هب أن الإخوان، وكل خصوم السيسي، قد اختفوا من الوجود، كيف ترى السيسي الآن؟ هل حقق لك “الزعيم” طرفًا مما كنت تحلم به وأنت تفوض، وتصوت، وتنتخب، وتبرر؟
لقد خلق السيسي مجتمعًا عبثيًا، منذ اليوم الأول، يصدق فيه الناس أن “صباع” الكفتة يشفي من الإيدز، وكافة الأمراض، وأن الجيش المصري ألقى القبض على قائد الأسطول السادس الأمريكي، وأن المخابرات سرقت ملف الشرق الأوسط من مكتب أوباما، وأن الرئيس الأمريكي يحلم بالسيسي كل ليلة في نومه، فيبلل فراشه في البيت الأبيض خوفًا من الأسد المصري.
لقد خلق السيسي، بعسكره وإعلامه وشيوخه، مجتمعًا مقرفًا، رخيصًا، يُقبض فيه على الناس لأتفه الأسباب، تبيع الأندية الكبيرة لاعبيها؛ لأنهم متعاطفون مع مجزرة رابعة، يفصل فيه بطل عالمي من اتحاد التايكوندو؛ لأنه رفع شعار رابعة، يقبض فيه على فتيات صغيرات بتهمة حيازة بالونة عليها شعار رابعة، تقبض فيه الشرطة على الدكتورة هبة رؤوف، لمجرد تدخلها لتوضيح موقف أحد الشباب المشتبه في كون اللون الأصفر على التيشيرت الذي يرتديه، قريبًا لشعار رابعة.
كل هذه الأخبار، بكل أسف، صحيحة، وكلها وقعت، وتقع يوميًا، فلماذا لا يلقى القبض على طالب بتهمة حيازة رواية؟! عادي.
لقد أجاد النظام العسكري في خلق مجال عام، لا قيمة فيه لقانون أو دستور، أو عقل، أو منطق، الأكاديميون في السجن، والمخبرون على الشاشات، الحائزون على جائزة نوبل خونة وعملاء، وأحمد موسى ولميس وإبراهيم عيسى وعكاشة، هم نماذج الوطنية الراهنة.
خسرت مصر، خسر واقعها، ويخسر مستقبلها وينزف من رصيده كل يوم، يصدق الناس الخرافات؛ لأن واقعهم خرافي، يكره بعضهم بعضًا؛ لأن مناخهم لا يسمح لهم سوى بالكراهية، يشمت بعضهم في بعض؛ لأنه لا مجال سوى للكيد والشماتة. عبارات مثل الحوار، حقوق الإنسان، دولة القانون، والدستور، صارت عبارات سيئة السمعة. الفاشية، والدولتية، وإراقة الدماء، والفرم، والضرب، والحط، صارت شعارات المرحلة التي يتباهى مؤيدو النظام بترديدها، ليل نهار، وإشهارها في وجه التاريخ بوصفها ضرورات لإثبات “ذكورة” الزعيم المنقذ، ووطنيته، والأهم: حضوره.
***
يقول جورج أورويل في الرواية “الحرز” (1984):
“هل فهمت أي نوع من العالم نقوم بخلقه الآن، إنه النقيض التام ليوتوبيا المدينة الفاضلة، التي تصورها المصلحون الأقدمون، إنه عالم الخوف والغدر والتعذيب، عالم يدوس الناس فيه بعضهم بعضًا، عالم يزداد قسوة كلما ازداد نقاءً؛ إذًا التقدم في عالمنا، هو التقدم باتجاه المزيد من الألم“.
قراءة في رواية "جورج أرويل"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق