هل ماتت الديمقراطية في بلاد العرب؟
عقب إعلان نتيجة الانتخابات التشريعية التركية انفجر بركان من الحقد والكراهية والشماتة تجاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأعلنت قطاعات واسعة من الليبراليين واليساريين في العالم العربي فرحتها بسبب تراجع النسبة التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية وعدم قدرته على تشكيل الحكومة الجديدة بمفرده، وتطابقت رؤى هؤلاء الكارهين مع الإسرائيليين الذين أقاموا الأفراح ابتهاجا بما حدث في تركيا.
هذا التطرف في كراهية الإسلاميين وتمني الخلاص منهم أصبح سلوكا مشتركا لكثير من الأحزاب والتيارات التي ظننا أنه تعشق الديمقراطية وتحب الحرية، وتحول هذا الموقف العدائي الاستئصالي إلى ظاهرة تحتاج إلى دراسة وبحث عميق لمعرفة سبب هذا الغل تجاه الإسلاميين والرغبة في إقصائهم وإبعادهم والأمنيات بأن يستيقظوا في الصباح فلا يجدوا من الإسلاميين أحداً على وجه الأرض.
كشفت التطورات السياسية في دول الثورات العربية وجها آخر لكثير من السياسيين والنخب العلمانية بكل ألوانها من اليسار إلى اليمين يختلف تماما عن الصورة التي كانوا يظهرون بها من قبل، لقد تحولوا إلى كيانات انقلابية بشكل سافر وشاركوا في كل الخطوات الاستبدادية الإقصائية ونسفوا تاريخهم السابق وانقلبوا على ما ظننا أنها ثوابت عندهم!
لم يتوقف الأمر عند التأييد السياسي بل تطور إلى تأييد القتل وسفك دم خصومهم الإسلاميين الذين كثيرا ما تحالفوا معهم في جولات انتخابية وجلسوا بجوارهم في المؤتمرات واللقاءات، وأكلوا معهم وشربوا في الموائد الرمضانية والمناسبات الاجتماعية، بل تحول هؤلاء الكارهون في تبرير القتل واستباحة وإزهاق الأرواح للمشاركة في وضع خطط تصفية الاسلاميين ووقع بعضهم على خطط التصفية!
خلال الأعوام الثلاثة الماضية فشلت الديمقراطية كوسيلة لتشكيل نظام الحكم في دول الثورات العربية، وظهر واضحاً أن الديمقراطية جيدة في غياب الإسلاميين، ولا تعمل إذا أتت بمرشحين لهم توجهات إسلامية؛ ففي مصر تم الانقلاب على الديمقراطية وحل البرلمان وتم وضع الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي في السجن، وفي اليمن وقفت دول عربية –قبل عاصفة الحزم- والدول الغربية المهيمنة ضد الثورة وساندوا انقلاب ميليشيات الحوثي الطائفية، وفي تونس ضغط الداخل والخارج على حركة النهضة حتى لا تشارك في انتخابات الرئاسة وتحت التهديد تم تحديد حصة الإسلاميين في الانتخابات التشريعية، وأشادت ذات التيارات الليبرالية واليسارية ودول الغرب بعد نجاح سعيهم بالانتخابات الرئاسية التونسية بعد استبعاد الإسلاميين منها واعتبروها نموذجا يحتذى!
يبدو أن الديمقراطية لا تعمل في العالم العربي بسبب التدخلات الخارجية، بعكس ما يجري في دول الغرب حيث يتم التغيير الديمقراطي بعيدا عن المؤثرات الخارجية، ووفق تأثيرات محلية فقط وتنافس بين الأحزاب على برامج دون تدخل بالتهديد أو الإغراء من الخارج كما يجري في دول العالم الثالث.
في أمريكا والدول الغربية لا تتدخل دولة ما للتأثير في انتخابات دولة أخرى، ولا تتدخل حكومة في تشكيل حكومة دولة ثانية، فلكل دولة تقاليدها ونظامها السياسي الذي يخضع لنفوذ قوى مهيمنة داخلية، وهذا النفوذ ليس له لون واحد حسب طبيعة كل دولة، وهذا ما يجعل الانتخابات تحظى بالقبول الشعبي ويتم تداول السلطة بين الأحزاب والانتقال من اليمين إلى اليسار والعكس.
وهذه الطبقة المهيمنة على القرار السياسي في الغرب والتي تسيطر على الحكومات الغربية عبر آليات تؤثر في اتجاهات الصناديق الانتخابية هي ذاتها التي تتدخل في آليات الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية من أجل أن تضمن وصول حكومات موالية تحافظ على المصالح الغربية، واستمرار الهيمنة على العالم.
ما لا يدركه الذين يريدون ديمقراطية بلا إسلاميين، ويتبنون نهج الإقصاء والقضاء على العمل السياسي الإسلامي أنهم يفتحون الأبواب أمام طرق أخرى للتغيير غير سلمية، وبقدر إغلاق وسائل التغيير عبر الصندوق الانتخابي بقدر ما يدفعون قطاعات من الشباب الإسلامي للاتجاه إلى التغيير بالعنف والأفكار غير السلمية.
ولتوضيح الصورة أكثر فإن الاتجاهات الفكرية داخل الدوائر الإسلامية الآن اختلفت عن ذي قبل؛ فقديما كان التصنيف يشمل إسلاميين معتدلين وآخرين متشددين أو متطرفين، وكانت الاستراتيجيات للحكومات المحلية والخارجية تعمل على احتواء المعتدلين وعزل المتشددين، كل بطريقته وأساليبه المرتبطة بطبيعة كل دولة، أما الآن فالتقسيم تغير إلى حركات سلمية ترى أن سلميتها "أقوى من الرصاص"، والنوع الثاني حركات جهادية ترى أن السلمية لم تعد قادرة على تحقيق آمال الإسلاميين، والنموذج الذي يمثل الاتجاه الأول الإخوان المسلمون والأحزاب الإسلامية المنخرطة في العمل السياسي السلمي، والنموذج الذي يمثل النوع الثاني هو التيار الجهادي والذي يتبلور بشكل رئيسي في الدولة الإسلامية ( داعش) التي تتوسع وتتضخم يوماً بعد يوم.
لقد أثبتت تطورات الأحداث خاصة في العامين الأخيرين أن الضربات التي تعرض لها النموذج الإسلامي السلمي أدت إلى توسع وانتشار النموذج الثاني، والنموذجان ككفتي ميزان؛ إذا خفت الكفة الأولى ثقلت الكفة الثانية والعكس، فالعنف قد توقف في مصر بعد ثورة يناير 2011 وشارك كل الإسلاميين في الانتخابات والعمل السياسي وامتلأت الساحة بالأحزاب السياسية التي تمثل كل ألوان الطيف الإسلامي، ولكن ومع استمرار حصار النموذج الإسلامي السياسي السلمي ومنعه من العمل قد يفتح الباب على سيناريوهات أخرى.
إلغاء الديمقراطية في العالم العربي لمنع الإسلاميين من الوصول إلى السلطة بشكل هاديء لن يجلب الاستقرار والأمن كما يزعم دعاة الاستبداد ومن يدعمهم داخليا وخارجيا، فالشعوب اليوم لم تعد تقبل القمع والانتهاكات واستنساخ أنظمة حكم سابقة، لها ظروفها في فترات تاريخية مظلمة، فالأجيال الجديدة التي عاشت ثورة التكنولوجيا والسماوات المفتوحة لم تعد قابلة للخضوع والترويض بالقوة، بل كلما زاد القمع زاد تمردها وعنادها.
الحقيقة التي لا ينتبه إليها أنصار المعارك الصفرية أن الإسلاميين ليسوا أقليات يمكن الخلاص منها بالإبادة والإقصاء، ومن المنطقي أن الاستمرار في استبعاد الأغلبيات وما يصاحبها من تغيير الهوية والسعي لتغيير الثوابت الدينية والوطنية يشكل أكبر خطر على مستقبل المنطقة، ويفتح الباب لتغيير غير مسيطر عليه وغير معروف شكله وحجمه ولونه، سيتجاوز الثورات التي استطاعت الأنظمة القديمة امتصاصها والالتفاف عليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق