السبت، 20 يونيو 2015

لماذا لا يهتم العالم بأحداث مصر ؟

لماذا لا يهتم العالم بأحداث مصر ؟



شريف عبدالعزيز

أخيرا، أسدل الستار على المحاكمات المثيرة للرئيس المصري محمد مرسي وقادة جماعة الإخوان المسلمين، في القضايا المعروفة إعلاميا بالتخابر واقتحام السجون، بإصدار أقصى درجات العقوبة؛ الإعدام شنقا بحق مائة وسبعة من قيادات الإخوان بمن فيهم قادة الصف الأول ومعظم أعضاء مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان.
 ورغم إقدام القضاء المصري بعد 3يوليو على إصدار مئات الأحكام بالإعدام والتي جعلته في المرتبة الأولى تاريخيا في إصدار مثل هذا العدد من الإعدامات في عام واحد ، ورغم تنفيذ الحكم فعليا في سبعة أفراد من معارضي السيسي ، إلا هذه المرة توقع الكثيرون أن يكون رد فعل الهيئات الدولية والدول الخارجية والمؤسسات المعنية بالعدالة والقضاء والديمقراطية والحرية ، أن يكون ردا فعلهم مغايرا ، بحيث تصوروا أو بالأدق توهموا أن هبة دولية وانتفاضة أممية ستحدث بسبب إعدام أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في مصر.
ولكن ردود الأفعال على هذا الحكم المسيس جاءت فاترة وباهتة إلى حد بعيد، وباستثناء منظمة هيومين رايت واتش صاحبة المواقف الشجاعة والجريئة ضد الإجراءات القمعية في مصر منذ 3 يوليو، باستثناء رد هذه المنظمة فإن الردود الدولية والإقليمية جاءت لتؤكد على أشد حقائق ومآلات أحداث 3 يوليو مرارة وألما وهي : مصر لم تعد مهمة ، مصر لم تعد في بؤرة الأحداث كما كانت من قبل، مصر لم تعد مركز الثقل العربي والإسلامي.
مصر ظلت لفترة طويلة من التاريخ مركزا للثقل العربي والإسلامي ، فعلى أرضها قامت الدول الكبار، وبسواعد أبنائها شيدت الأمجاد العظام، ومن سواحلها انطلقت الحملات والفتوحات، وفي رحاب أزهرها ومدارسها تخرّج العلماء والأئمة الأعلام ، وحتى بعد سقوطها فريسة الاحتلال الأوروبي ظلت مصر هي قلب الحدث النابض،ونقطة ارتكاز أولى للعالم العربي، وبلا شك كانت أهم دولة فقد كانت مصدر الفكر السياسي الرئيسي في مرحلة ما بعد الاستعمار في المنطقة: الناصرية والقومية، وكانت مصدر العمل الإسلامي المنظم في أوائل القرن المنصرم ؛ جماعة الإخوان المسلمين، وكانت القاهرة المركز الثقافي للشعوب العربية، ومصدر ضخم للقوة الناعمة ممثلة في الثقافة والفن بدروبه المتنوعة من السينما والتلفزيون والموسيقى والفن والأدب ، وكانت القاهرة قبلة كل باحث عن الشهرة والمجد والنبوغ ،وكانت وسائل الإعلام فيها نابضة بالحياة والمهنية.
وعلى الرغم من أنها تفتقر إلى الموارد الطبيعية التي تمتلكها دول كالمملكة العربية السعودية أو العراق، فقد كان لمصر، نسبة إلى تلك البلدان، وفرة في رأس المال الفكري وكانت مركزاً للتعلم، مع أفضل الجامعات في المنطقة، على حد سواء العلمانية والدينية. وكانت القوى العاملة في دول الخليج الغنية حديثا تغذي مصر.
كل هذه الأمور جعلت أمريكا تضع مصر في قلب الحدث وتتعامل معها على على أنها الدولة الأكثر تهديدا لأمن الكيان الصهيوني،خاصة وأن المواجهات بين الطرفين قد امتدت عبر ثلاثة عقود متتالية عدة مرات ، وأبدى المصريون حماسة تفوق جيرانها في عداوة الصهاينة والاستعداد لمعاودة قتالها مرة بعد مرة ، حتى بعد نجاح الأمريكان في إخراج مصر من معادلة الصراع العربي الصهيوني بتوقيع معاهدة كامب دايفيد ، ظلت مصر هاجسا قويا للأمريكان والصهاينة .
ولكن بعد أكثر من ثلاثين سنة من الحكم البائس لمبارك وعصابته تحولت مصر من قائدة العرب وزعيمة الأمة إلى كيان وظيفي تقزم دوره الدولي والإقليمي ليقتصر على حراسة البوابة الغربية للكيان الصهيوني ، ولعب دور الوسيط غير النزيه في الصراع العربي الإسرائيلي ، بعد أن انسحبت مصر من فضائها العربي والإسلامي والأفريقي لتدور في فلك السياسة والمصالح الأمريكية في المنطقة ، غير مكترثة بقضايا المنطقة وأزمات الأمة . وبالتالي قلّ الاهتمام بمصر ، وقلّ نفوذها ، وتمددت دول أصغر ، وأقل أهمية ، في الفراغات الكبيرة في النفوذ الاستراتيجي الذي خلفته مصر بعد تقزم دورها وانكفائها على ذاتها راضية بالدوران في فلك القطب الأمريكي وربييه الإقليمي ؛ إسرائيل ، وبرزت قوى إقليمية جديدة على الساحة لم يكن يخطر ببال المصريين يوما أن تباريهم أو تضارعهم مثل هذه الدول ، حتى في مجال القوة الناعمة والنفوذ الثقافي الذي ظلت مصر متربعة عليه لأكثر من قرن من الزمان ، إذا بها تجد نفسها تتقهقر فيه يوما بعد يوم.
فلم تعد القاهرة قلب المنطقة الثقافي: لم تعد مصر تنتج فناً مرموقا أو متهافتا عليه . مشاهدو التلفزيون العرب يشاهدون الآن المسلسلات العاطفية التركية والهندية أكثر، وأشرطة الفيديو الموسيقية اللبنانية وقنوات الأخبار الفضائية القطرية.
 الجامعات المصرية اليوم سيئة للغاية فيما تفضل دول الخليج العمال الفيلبيين والهنود والباكستانيين على المصريين.
والساحة الإعلامية المصرية باتت اضحوكة المنطقة، وبعــد عقــود من الادارة السيئة التي تولاها بيروقراطيون فاسدون، أصبحت مــصر حالـــة اقتـــصادية ميؤوساً منها.
لديها عدد قليل من الموارد القيّمة لبيعها الى العالم،بعد أن تم تصفية الثروة القومية لمصر في عملية الفساد الأشهر في تاريخ مصر الحديث ؛ الخصخصة ، بل ان الصينيين الذين لا يردعهم العنف وانعدام الاستقرار السياسي، ويستثمرون في العديد من البقاع الخطرة في العالم ، يحجمون عن الاستثمار في مصر.
وبعد اندلاع ثورات الربيع العربي ، وتوالي سقوط طواغيت أمريكا في المنطقة الواحد تلو الأخر ، اتجهت الأنظار مرة أخرى إلى مصر ، فالاهتمام بمآل الثورة فيها اختلف كثيرا عن غيرها من بلدان الربيع العربي ، فمصر لو تخلصت من أدرانها وكسرت قيودها ، وتسلم زمام الحكم فيها شرفاء نزهاء ، ستعود مصر إلى مكانتها الاستراتيجية وثقلها الإقليمي ، ستعود إلى مركز الثقل العربي والإسلامي مرة أخرى ، لذلك كله كان الاهتمام الثورة المصرية أكبر من غيرها ، وكذلك الاهتمام بالتحكم في مخرجاتها وضبط مسارها كان هو الأهم لدى اللاعبون الدوليون .
ربيع العرب سرعان ما تحول إلى ربيع براغ ، وحالة الديمقراطية الوليدة في مرحلة ما بعد الشمولية العسكرية سرعان ما تحطمت بأبشع صورة ، فقد تغيّر المشهد المصري بشكل جذري من التعدّدية النشطة والحيوية غداة ثورة يناير 2011، إلى استبعاد أو تهميش المجموعات الإسلامية في العام 2015 التي فازت في الانتخابات، والآن، يحتل النفعيون البيرقراطيون المرتبطون بنظام حسني مبارك السابق مركز الصدارة في المسرح السياسي، وطفت على سطح الأحداث مجددًا التنافسات في معسكرهم، وعاد المشهد المصري لسالف عهده تماما مثل أجواء ما قبل الثورة المجيدة ، فالأحزاب الإسلامية التي هيمنت على الانتخابات الأولى بعد إطاحة حسني مبارك، باتت الآن خارج المشهد، بين قتيل ومعتقل ومطارد ومنفي ، كما أن العديد من الشبان البارزين أو القادة الثوريين باتوا نزلاء سجون أو في المنفى، وأحزاب المعارضة عبارة عن كيانات افتراضية كرتونية ليس لها ثقل ولا دور ولا قيمة عند السلطة أو الشعب على حد السواء ، وصعد مجددًا وسريعًا إلى السطح اللون الناصري من الوطنية مع تشوّهاته العسكرتارية والشعبوية والمشاعر المعادية للأجانب، وشهدت الأشهر القليلة التي تلت إطاحة مرسي في يوليو 2013 إحياءً مفاجئًا لهذا النمط من الوطنية الذي حمل في تضاعيفه حياكة عبادة الشخصية.
فشل مصر في الاختبار السياسي الأبرز في حياتها خلال سبعة عقود كاملة ، وتم وأد حالة الديمقراطية الوليدة في مرحلة ما بعد الشمولية بكل قسوة ، بصورة  كلفت مصر والمصريين غاليا جدا ، فبعد أن تراءى للجميع أن ثورة يناير ستعيد مصر إلى مركز الثقل وصناعة الحدث ورمانة الميزان ، إذا بمصر تتقهقر لمرحلة أسوأ من مرحلة مبارك، بل بصورة جعلت كثير من المصريين يترحمون على أيام مبارك بمن فيهم الإسلاميون أنفسهم .
 فمصر اليوم نموذج مثالي للدولة القمعية التي تتفنن في إهدار الحقوق الأساسية لمواطنيها، وكل ما كان لا يجسر مبارك على الاقدام عليه، ويتخوف من عواقبه ، أقدم عليه نظام السيسي وزيادة، فالدعم قد رفع ، والأسعار قد رفعت، والأفواه قد كممت، والسجون قد امتلئت، والحريات قد أجهضت، والسلطات الثلاث اجتمعت في يد واحد، ولا أحد يجسر في مجرد التفكير بالمعارضة، فالجميع قد تعلم حكمة الثعالب من رأس الاخوان الطائرة.
مصر لم تعد مهمة لأي من دول المنطقة والعالم لأنها تحولت من دولة محورية تشارك في صنع سياسات المنطقة وتوجهها إلى دولة تابعة في كل شيء . والاعتماد المستمر على الخارج في متطلبات الاقتصاد القومي الأساسية من أبرز سمات التبعية، الأمر الذي يترتب عليه فقدان السيطرة على القرار الاقتصادي المتعلق بهذه السلع واختلال الموازين المتعلقة بالتعاملات الخارجية مثل الميزان التجاري أو ميزان المدفوعات.
 ومن شأن هذا الاختلال، أن تجبر مصر على أن تعيد باستمرار أولوياتها وفق هذه المتغيرات، مما قد يتعارض في كثير من الأحيان مع أجندة السيادة الوطنية والأمن القومي . فالحاجة المتنامية للطاقة والغذاء وخاصة بعد أحداث 3 يوليو للحصول على رضا المواطنين ، دفعت سلطة ما بعد الديمقراطية للتوسع في التبعية الاقتصادية لدول الخليج التي دعمت مصر بعد 3 يوليو بأكثر من 32 مليار دولار ، مما جعل مصر تابعة اقتصاديا بصورة كاملة لدول الخليج.
 أيضا الحاجة الماسة لتوفير دعم سياسي قوي يواجه العقوبات الإقليمية والدولية التي فرضت على مصر بعد 3 يوليو ومجازر 14 أغسطس ، جعل مصر عرضة للتبعية السياسية للكيان الصهيوني ، فسلطة تل أبيب من أكثر داعمي نظام الجنرال في المنطقة ، والشركات الإسرائيلية العاملة في مجال العلاقات العامة ، وتلميع الصورة ، اجتهدت بقوة من أجل تجميل وجه سلطة 3 يوليو وإقناع الدول الرافضة لها بقبولها وإقامة علاقات طبيعية معها .
لذلك كله لم تعد مصر نقطة اهتمام لأحد من الأطراف الدولية ، فهي قد عادت للعب دورها الذي كانت تمارسه تحت قيادة المخلوع مبارك وبرعت فيه لسنوات طويلة ، وهي حراسة البوابة الغربية للكيان الصهيوني ، وخنق قطاع غزة والضغط على الفلسطينيين من أجل القبول الدائم بالاملاءات الصهيونية .
وتراجع الاهتمام بمصر لصالح بقاع أخرى مثل الشام والعراق واليمن حيث تدور فصول أخرى للصراع بين الأمة وخصومها التاريخيين ، بل تراجع دورها عند الغرب ، ليكون أقل من دور وأهمية دور دويلة مثل جيبوتي والتي يوجد بها أكبر قاعدة أمريكية وفرنسية في المنطقة ، لذلك كله لن يهتم أحد بما يجري في مصر ، ولن يهيج الرأي العالمي لإعدام مرسي ورفاقه ، فالذي بلع وغض الطرف عن ضحايا مجازر رابعة وإخواتها وهم بالآلاف ، لن يكون صعبا على القبول بإعدام بعض عشرات آخرين.
فمصر لم تعد شمسها الذهب، بل عاد عصرها النكد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق