ثورة مصر بعد التغييب المحتمل لمرسي
نبيل الفولي
تتزايد احتمالات إقبال النظام الانقلابي فيالقاهرة على إعدام الرئيس المنتخب محمد مرسي وقادة الإخوان المرتهنين خلف قضبان السجون في وادي النطرون والعزولي والعقرب ومزرعة طرة وبرج العرب والحضرة، وغيرها من معسكرات الاعتقال النازية للنظام.
ومهما كانت قوة هذه الاحتمالات أو ضعفها، فإن القوى الثورية المصرية مدفوعة دفعا إلى أن تدرس خياراتها، وتعد نفسها لاحتمال كهذا، حتى يستمر المسار الثوري ولا ينتكس، ويتصاعد ولا يتراجع، ولا يقع في حبائل النظام وفخاخه الخطيرة، بل يتبع إستراتيجيات تضاعف فرص سقوط الانقلاب الذي قتل كثيرين من معارضيه في الميادين العامة وأحرام الجامعات وزنازين الاعتقال، بل في عقر دارهم بلا محاكمة ولا مساءلة، ولن يستحيي أن يقتل من شاء بمحاكمات مزورة يخبئ بها بشاعة جرائمه.
أحسب أن من المعالم المهمة التي تميز المشهد المصري الآن ويجب فهمها جيدا لاختيار الخطوات التالية في المسيرة الثورية، أن الذي يدير شؤون الدولة المصرية ليس فردا بعينه، لا السيسي ولا غيره، ولكن تقوم مجموعة الجنرالات الأقوياء في الجيش المصري أو في المجلس العسكري بتنفيذ سياسات تُرسَم بصورة تعاونية بين عدة جهات داخلية وخارجية -إقليمية وغير إقليمية- لا يخفى على فطن من تكون، نظرا لأن المنتفعين ببقاء الانقلاب هي أطراف محددة ومعروفة بداهة!
"أحسب أن الذي يدير شؤون الدولة المصرية ليس فردا بعينه، لا السيسي ولا غيره، ولكن تقوم مجموعة الجنرالات الأقوياء في الجيش المصري أو في المجلس العسكري بتنفيذ سياسات تُرسَم بصورة تعاونية بين جهات داخلية وخارجية"
إن مما لا يقبل شكا كبيرا أن سلطة السيسي الفعلية ما زالت تتآكل منذ خلع زيه العسكري، خاصة مع الإخفاقات المتتالية والمتنوعة لنظامه منذ تولى السلطة قبل عام، وقد كانت مساهمته في رسم سياسة البلاد وهو وزير للدفاع أكبر مما هي عليه الآن بلا ريب.
ولعلنا حين نفهم حركة التغيير التي أجريت على بعض قيادات الجيش المصري في أبريل/نيسان الماضي على أنها تصعيد لذوي النفوذ الحقيقي على حساب الضعفاء -الذين بقيت لهم مناصب شكلية فحسب- يمكن أن نفهم كنه المشهد المصري الحالي.
ومن هذه النقطة يجب على إعلام الثورة وفنّها الجميل وحراكها الميداني أن ينتقلوا جميعا من تسليط الضوء على شخص عبد الفتاح السيسي -الذي أخذ حقه في هذا الجانب وزيادة- إلى كشف الصورة الحقيقية والكاملة التي لا تقف عند شواطئ "المشير"، وتتجاوزه إلى منظومة انقلابية كاملة تمثل جدارا صُلبا يغذي بقاء الانقلاب في صورة أو أخرى.
ومن أخطر ما تمتاز به هذه المنظومة هو أنها تستطيع بسهولة امتصاص غياب السيسي أو غيره من أفرادها عن الساحة تماما، بل إنها مستعدة -مقابل التأثير في بعض المعادلات السياسية- أن تضحي ببعض رجالها ليبقى مركبها في بحر الحياة السياسية المصرية حاضرا، فهل الثوار قادرون من جانبهم على امتصاص أو استيعاب الغياب المحتمل للرئيس محمد مرسي عن المشهد لتبقى سفينتهم؟!
إن السيسي حر طليق، حين نفهم الحرية بمعناها العام، ومع هذا فهو مهدد من الطاقم الانقلابي نفسه، فضلا عن خصومه الصرحاء، فما بالنا بالرئيس الأسير الذي لا حول له ولا قوة، ولا يملك إلا الثبات على موقفه الرافض للتنازل عن حق شعبه، وإثبات صدقه حين قال: إنني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا للحفاظ على ثورة 25 يناير.
ومع أن العواطف الإنسانية حاضرة بقوة في مشهد كهذا، إلا أن العقل هو الذي يلجم نزوات العواطف، ويمنعها من الانفراد بصناعة مشهد شديد الحساسية قد يحدد مصائر أجيال وأجيال، مشهد يحتاج إلى صناعة إنسانية ثقيلة للتاريخ يختلط فيها الحماس بالعلم، والعاطفة بالفكر، والتخطيط الدقيق بالعمل القوي المنجز.
لا شك أن استهداف حياة الرئيس مرسي ومن معه من قيادات الإخوان هو الحل الأخير والصعب أمام المنظومة الانقلابية للقضاء على ثورة 25 يناير وامتداداتها، التي مهما تكلمنا عن المد والجزر، أو حتى الانحسار والانكماش النسبي الذي يجري لها من حين إلى آخر، فيكفي أنها رقم خطير ينتظر أي ثغرة يقفز منها ليزيل الغثاء الذي علا على سطح الحياة في مصر، وكسا برها وبحرها وجوها بالكآبة والسواد.
لكن ما الذي يمكن أن يستهدفه النظام بالتحديد إن غلبته الحماقة وأقدم على هذه الخطوة الشديدة الخطورة؟
والإجابة تكمن في هدفين يمكن أن نلاحظ أن الانقلاب حاول أن يحققهما من بدايات انقضاضه على ثورة 25 يناير: أولهما تفريق صف الثوار، والثاني تحويل الثورة عن سلميتها وتوريطها في حرب أهلية ترجع بمصر إلى الوراء قرنا من الزمان على الأقل.
والإجابة تكمن في هدفين يمكن أن نلاحظ أن الانقلاب حاول أن يحققهما من بدايات انقضاضه على ثورة 25 يناير: أولهما تفريق صف الثوار، والثاني تحويل الثورة عن سلميتها وتوريطها في حرب أهلية ترجع بمصر إلى الوراء قرنا من الزمان على الأقل.
أما تفريق صف الثوار، فقد نجح بامتياز حين كان المجلس العسكري يلبس قناع الوطنية ويدير أمور البلاد عقب سقوط مبارك، وأدى هذا النجاح إلى خسائر فادحة للثورة والثوار ما زالوا يعانون منها إلى الآن. ونجح هذا الأسلوب كذلك في العام الذي تولى فيه محمد مرسى السلطة، بل لعله كان أبرز مميزات هذه المرحلة، حتى وقفت قيادات ثورية شابة -هي الآن خلف الأسوار- في صفوف الانقلاب إبان وقوعه، بل دعت إليه بصراحة قبله، وباركت الدماء التي سالت في ميادين القاهرة والمحافظات بعده.
أما بعد إسقاط مرسي، فلم يحدث انشقاق كبير أو حتى متوسط في صف الجبهة المناصرة له إلى الآن، على الرغم مما هو معروف من أنها جبهة متنوعة الانتماءات، ولا يغلب عليها تيار الإخوان المسلمينالذي ينتمي إليه مرسي نفسه غلبة حاسمة.
"يجب أن يعد أصحاب الخيار الثوري عدتهم لإكمال المسيرة، وسد كل ثغرة يحدثها النظام بقراراته وسلوكياته، ومقابلته بنقيض مقصوده، وإفشال مسعاه ومخططه برمته، خاصة إن صاحَب ذلك تغيير في بعض الوجوه الانقلابية وتحميلها مسؤولية الفشل المستمر"
إلا أن حرمان هذه الجبهة من نقطة ثابتة، أو هدف واضح وحاسم تسعى إلى تحقيقه، كالمطالبة بعودة الرئيس الشرعي المنتخب إلى منصبه، يمكن أن يمثل عاملا مهددا لوحدتها، خاصة أن اجتهاد أطرافها في مواجهة "التغييب المحتمل للرئيس" من المتوقع بقوة أن يتنوع إلى درجة التناقض التام، وعدم القدرة على التلاقي في منطقة وسطى على الإطلاق.
والحقيقة أن التاريخ في القديم والحديث ينبئنا أن كثيرا من المشروعات الوطنية والحربية والاقتصادية ماتت بموت قادتها ومؤسسيها، إلا أن ذلك ليس حتمية تاريخية، إذ ما دام أصحاب أي قضية لا يراهنون على شخص بعينه -مهما تكن مركزيته وتأثيره- فإن السير في الاتجاه الصحيح وامتصاص الصدمة هو الاحتمال الأقوى في هذه الحالات.
والحقيقة أن التاريخ في القديم والحديث ينبئنا أن كثيرا من المشروعات الوطنية والحربية والاقتصادية ماتت بموت قادتها ومؤسسيها، إلا أن ذلك ليس حتمية تاريخية، إذ ما دام أصحاب أي قضية لا يراهنون على شخص بعينه -مهما تكن مركزيته وتأثيره- فإن السير في الاتجاه الصحيح وامتصاص الصدمة هو الاحتمال الأقوى في هذه الحالات.
وأما تحويل الثورة عن مسارها السلمي، فهو الحلم الأكبر للمنظومة الانقلابية، وقد ارتكبوا في سبيله شنائع لا تُحصَى، واستفزوا بسلوكهم الثوار بكل وسيلة استطاعوها، من انتهاك الأعراض الشريفة، وتعذيب المعتقلين الأبرياء، وإهمال المرضى حتى الموت، واقتحام البيوت الآمنة، ومصادرة الأموال الحلال، واختطاف الشباب المناضل واغتياله بطرق خسيسة، وتسليط السفهاء على شرفاء الوطن تجريحا وولوغا في سمعتهم، وغير ذلك.
ولا شك أن التطبيق المحتمل للأحكام الجائرة على الرئيس مرسي ومن معه هو مهدِّد آخر خطير للمسار الثوري، ففضلا عن أنه يهدد وحدة الصف الثوري بصورة خطيرة في ظل فراغ مواقع السلطة فيه على مستوييها السياسي والدعوي، فإن رد الفعل الثوري إن لم يجد قدرة من قادة الحراك على توجيهه إيجابيا والتحكم فيه وفي مستواه، وإن لم يجد من مجموع الثوار تفهما دقيقا لحقيقة ما يساقون إليه، وما عسى أن يحشره النظام في هذه اللحظة من البلطجية والخارجين على القانون لتحقيق مآربه؛ فستصبح مصر في وضع شديد الخطورة.
يجب أن يعد أصحاب الخيار الثوري عدتهم لإكمال المسيرة في كل حال، وسد كل ثغرة يحدثها النظام بقراراته وسلوكياته، ومقابلته بنقيض مقصوده، وإفشال مسعاه ومخططه برمته، خاصة إن صاحَب ذلك تغيير في بعض الوجوه الانقلابية -وإن كان السيسي نفسه- وتحميلها مسؤولية الفشل المستمر.
ومن الحكمة أن تُتَّخذ العدة في هذا السبيل من الآن، ويقال للنظام بكل شجاعة: إن ثورتنا مستمرة، وإن قتلتم الرئيس ومن معه، وإنّ سعينا لنيل حريتنا وإنقاذ وطننا لن يتوقف، فقد أبصرنا طريقنا، ولن نُستعبَد بعد اليوم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق