الحج في قلب الصراع الحضاري
محمد إلهامي
أركان الإسلام من أظهر الفوارق ودلائل التناقض بين طبيعة الإسلام ومنهجه وبين الفكر الغربي المادي ونموذجه الحضاري.
1- إن النطق بالشهادتين يرتب أوضاعا جديدة قانونية وشرعية وحقوقية لمن تلفظ بهما في الدولة الإسلامية، لأن قاعدة الدولة الإسلامية وصلبها وروحها وقطبها هو “الدين”.. مع مساحة واسعة من الحرية والتسامح مع الأديان الأخرى، ولكن في ظل الهيمنة الكاملة للإسلام. ولئن كان ثمة خلاف حول تولي غير المسلمين وظائف مهمة في الدولة الإسلامية، فإن الذي لا خلاف فيه بين العلماء هو هيمنة النظام الإسلامي على وظيفة الدولة.
بينما لم يزل الأساس النظري (ودعنا الآن من الأوضاع العملية) في النموذج الغربي أن يكون الدين أمرا شخصيا بحتا، ومن المكفول لكل أحد أن يتنقل بين ما شاء من الأديان، أو يخرج من دين ثم يعود إليه ثم يخرج منه، أو أن يبقى بلا دين بالكلية، ذلك أن عمود هذا النموذج هو “الدولة” لا الدين!
ففي حين يتحسس النظام الإسلامي لكل ما يهدد “الدين”، بل ولا يعتبر تهديد الدولة الإسلامية نفسها خطرا إلا لكونه تهديدا للدين التي هي قائمة على شأنه، يكون النظام الغربي حساسا لما يهدد “الدولة”، ولهذا فإن قانون “الدولة” يعاقب على كل ما من شأنه تقسيمها أو إنشاء كيانات لا تعترف بسلطتها أو التعامل مع أطراف تعتبرهم تهديدا لها أو الدخول في مساحات تراها الدولة من خصوصياتها واحتكارها.
2- وتبدو الصلاة هنا مثالا في غاية القوة والوضوح على هذا الموضوع؛ ففي الإسلام تحوز الصلاة قدرا كبيرا من مساحة القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي فرض على المرء في السفر والحضر والصحة والمرض، يصليها قائما أو قاعدا أو نائما أو يصليها إيماء أو بعينيه أو بقلبه، ولا يُسمح بترك الصلاة، بل يختلف العلماء حول تارك الصلاة: هل هو مسلم أم كافر؟ ولا يعني اختلافهم هذا مجرد حكم أخروي ديني بل هو يرتب لأوضاع وعقوبات قانونية دنيوية، فهم لا يختلفون في عقوبته بالقتل (وانظر وتأمل ضخامة العقوبة) ولكن يختلفون هل يُقتل ردة أم يُقتل حدا، يعني: هل عقوبة قتله هي عقوبة لارتداده عن الإسلام أم عقوبة على فعل يستوجب القتل مع كونه مسلما (كالقاتل، والزاني المحصن، والمفسد في الأرض).
بينما لن يحفل النموذج الغربي بشأن العبادة أصلا، ولن تجد في دساتيره أو قوانينه شيئا يوجب أو يحث على الالتزام بالعبادة، بل هو يتكون ويقوم من أوله إلى آخره لكي يحفظ “كيان الدولة”، وهو بطبيعة الحال لا يهتم بأن يراقب عبادة أحد ولكنه ينمي كل لحظة أجهزته الأمنية والاستخباراتية ليراقب تصرفات كل مواطن في مجال “تهديد الدولة”، وهو لا يبالي في هذا أن يخرق ستر الناس وأن يتنصت على هواتفهم ورسائلهم وإنما يرى هذا من صميم حق السلطة،
كما أنه لا يسمح بوجود وسائل إعلام تمارس أو تحرض على “تهديد الدولة”، بل على الحقيقة هو يسخر كل طاقاته وإمكانياته لصناعة “المواطن الصالح” بالنسبة للدولة، ذلك الذي يرى قيمها عقيدة وقانونها كتابا مقدسا وترابها غاليا ومختلفا عن كل أنواع التراب وعلمها راية تبذل لها الدماء بلا تردد.
3- ويبدو مثال الزكاة مثالا فريدا في الدلالة على الموضوع، ويبدو هذا أوضح ما يكون في دولنا التي فُرضت عليها العلمانية، إذ الدولة نفسها تنشيء القوانين والمؤسسات لجمع الضرائب بينما تترك أمر الزكاة لحرية كل فرد.
في الإسلام تقوم الدولة بمهمة جمع الزكاة، لأنها فرض ديني، ولأن الزكاة نزلت في كتاب الله وطبقها رسول الله فهي بطبيعة الحال سابقة على هذه الدولة وسلطتها، ومساحة استلاب الدولة الإسلامية لأموال الناس ضيقة ومحدودة؛ لأن كافة الموارد المالية قتلت بحثا ورسخت فيها آراء فقهية عبر قرون طويلة، فما يستطيع الحاكم في الدولة الإسلامية إلا أن يتلاعب في مساحات محدودة، ثم يكون تلاعبه مكشوفا،
وأهم من هذا: يكون تلاعبه ذريعة لمقاومته لا دفاعا عن المال بل دفاعا عن الدين وعن عباد الله المسلمين، دفاع من منطلق الجهاد والإصلاح الديني لا من منطلق الإصلاح الاقتصادي أو الكفاح الطبقي، والفارق بينهما في القوة والاتساع واضح!
بينما دولة النموذج الغربي تستطيع في كل حين اختراع ضرائب جديدة، وما عليها إلا أن تجعل ذلك “قانونا” يقره البرلمان المنتخب (والديمقراطية في الدولة الحديثة هي عملية خداع ضخمة تأتي بمن هم على هوى الدولة، وانظر مثلا كتابي: السيطرة الصامتة لنورينا هيرتس، وأفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها لجريج بالاست) ولهذا فإن مساحة استلاب المال من الشعوب هي مساحة واسعة بل مساحة مفتوحة، وكلما زادت العلمانية والحداثة، ضعف المجتمع، وازداد الغني غنى والفقير فقرا، وتراكمت القوة في يد السلطة ورجالها.
4- أما الصيام فكالصلاة في كونه عبادة تحفظها الدولة الإسلامية، فللمجاهر بفطره عقوبة قانونية، إلا أنه يزيد عنها في كونه نظاما يؤثر في حياة الناس ويومهم ويغير من عاداتهم وأوقات طعامهم وشرابهم وعبادتهم، وهي لحظة تخضع فيها حياة الناس لنظام تفرضه العبادة، وكل ذلك ممزوج بالسعادة والارتياح لما لشهر رمضان وفضله من مكانة في النفوس، مكانة بناها ورسخها الدين بنصوص القرآن والسنة وتراث طويل من سيرة الصالحين.
لكن نظام الدولة الحديثة لا يحفل بصوم أحد أو بفطره، هي بالنسبة له مجرد اختيار شخصي، لا الصائم يستحق الثواب ولا المفطر يستحق العقاب، وقد لا يمثل هذا مشكلة كبيرة في الدول ذات الأقليات الصغيرة المسلمة، بينما هو يمثل إرباكا في الدول التي يكثر فيها المسلمون أو بلادنا التي فُرضت عليها العلمانية؛ ذلك أن الصوم يمثل “ظاهرة اجتماعية” بما يغيره من عادات الناس وأسلوب حياتهم.
كما أن نظام الدولة الحديثة حساس لكل تحرك جماعي؛ لأنه مبني على التعامل مع “المواطن الفرد”، والنموذج المثالي له هو سلطة الدولة التي تدير شؤون أفراد لا شؤون كتل ومجموعات وطوائف وقبائل (نظام القبيلة نظام مضاد للدولة الحديثة).. ولهذا فإن الدول التي اشتدت فيها شوكة العلمانية حاولت -وإن لم تفلح- أن تنهي مسألة الصيام قسرا (كما فعل بورقيبة في تونس) أو تتجاهله تماما اعتمادا على أن يتناقض نظام الناس مع نظام عبادتهم، فيكونون أقرب اندماجا في نظام الحياة من نظام العبادة.
أما الذي يهدد الدولة الحديثة وتتحرك له بكل ما تملك من قوة، فهو الخرق الجماعي لقوانينها وعاداتها المستقرة، وهي في هذا تعاقب فاعليه أفرادا أو بالجملة، كالإضراب عن العمل أو التمرد العسكري، فهذا هو المثال الذي يقرب مسألة عقوبة المفطر في الدولة الإسلامية إلى أذهان من يعيشون في عالم الدولة الحديثة.
5- وأما الحج فلا مثيل له، فإنه ظاهرة عالمية مضادة للتقسيم القطري في أصلها وجوهرها، وهو تذكير سنوي بمعنى الأمة؛ ذلك المعنى الذي لطالما هفت نفوس الغربيين وعملاؤهم إلى اجتثاثه من النفوس، لزرع ولاءات أخرى تكون أعظم منه كالوطنية والقومية والإقليمية واللغوية والعرقية وسائر هذه التقسيمات، إن الحج يمثل سببا مثيرا للتوتر والارتباك في كتابات المستشرقين والمنصرين لأنه “عبادة” وهو في ذات الوقت “ذا مغزى وأهداف سياسية” كما يقولون.
إن الحج يعيد سنويا جمع هذه الأمة وتعريفها بنفسها وبأصلها وبوحيها وبأرضها المقدسة وبآمالها في التوحد والنظام، أن تكون الأمة كالحجيج: اتفاق في المظهر والحركة والغاية وإن اختلفت الألوان واللغات والبلدان والأعراق والسمات!
الحج يعيد تذكير الأمة بأصلها (إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) ووحيها (الكعبة) ونبيها (خذوا عني مناسككم) وعدوها (الشيطان وحزبه) وبانتمائها (أمة الإسلام) وغايتها (اليوم الآخر) ورسالتها (الجهاد والزهد.. وليس من مشهد أقوى في الجهاد والزهد من مشهد ذوي الأكفان البيضاء وهم يطوفون ويلبون ويكبرون ويسعون بين جبلين ويبيتون في الضيق والزحام).
إنه مشهد مناقض لكل ما تريد الهيمنة الغربية أن تحققه!! ولذلك فإنه يثير حنقهم كما تشي بذلك كتاباتهم هم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق