معارك المصطلحات في الواقع الإسلامي
ألقي القبض على أحمد عرابي بعد هزيمته أمام الجيش الإنجليزي، ومن بين أسئلة الاستجواب الطويل الذي استغرق عدة أيام، وُجِّهت له تهمة رئاسته لـ “الحزب الوطني” ووجه بورقة وُجِدت عند بعض الضباط فيها قول عرابي وتوقيعه بأنه “رئيس الحزب الوطني”، ثم سُئل: “ألم تعلموا أنه بالممالك المنتظمة ووجود الحضرة الخديوية بمقر الحكومة لا يجوز وجود أحزاب حتى تمضوا تلك المكاتبة بصفتكم رئيس الحزب، فهل تَصَرَّحَ لكم من الحضرة الخديوية بذلك؟ وإن كان لم يَتَصَرَّح لكم فهل جَعْل نفسكم رئيسا لحزب داخل الحكومة لا يُعدّ عصيانا؟”
وكان من جواب عرابي قوله: “من المعلوم بداهة أن مصر مأهولة بأجناس مختلفة وعناصر متنوعة وكل عنصر منهم يعتبر نفسه حزبا كما أن أهل البلاد هم حزب قائم بذاته يُعتبر عند الآخرين منحطا عنهم ويُطلقون عليه لفظ فلاحين إذلالا لهم وتحقيرا، أولئك هم الحزب الوطني وهم أهل البلاد حقيقة…”.
وقد اتخذ تيموثي ميتشل –المؤرخ المعروف- من إجابة عرابي هذه مثالا أراد أن يثبت به الطبيعة المتقلبة للغة في إطار مناقشته لسلطة اللغة والمؤلف وفلسفة الشيء، متأثرا بجاك دريدا (1)، إلا أن التفسير البسيط والمباشر للأمر هو أن عرابي أراد أن يهرب من التهمة فعمد إلى تفريغ كلمة “حزب” من معناها المباشر الذي يعني تنظيما قائما في البلاد مضادا للسلطة إلى معناها اللغوي الواسع الذي يجعل كلمة حزب تشمل كل جمع وطائفة وطبقة، حتى أنها تشمل جميع الفلاحين أو جميع المصريين الرافضين للاحتلال.
وبهذه الإجابة التي لا تعتمد إلا على تلاعب بالمعنى، نقل عرابي موقفه من كونه خارجا عن سلطة الدولة إلى كونه ممثلا لمصلحة الشعب، وأن هذا ليس بدعا من الأمر، “لأن كل أمة من الأمم المتمدنة الراقية فيها أحزاب مختلفة قائمون بحفظ حرية بلادهم والمدافعة عن حقوقهم” .(2)
وقد نجحت حيلة عرابي هذه –نظريا وعلى سبيل الجدل- فلم يكررها المحقق كتهمة، ومن يقرأ محضر التحقيقات –وهو طويل- يرى ويشهد أنه لا يتجاهل أمرا إلا إذا أُفْحِم وأعوزته الحجة، أما في غير ذلك فهو يستمر في الإلحاح على المتهم ومحاصرته.
بعد هذه الواقعة بأكثر من قرن من الزمان، وفي تركيا، جاء حزب العدالة والتنمية، وهو يحمل ميراثا من التجارب التاريخية وفي بيئة حاكمة ترى أن “العلمانية مقدسة” وترى أن الإسلاميين يضادونها، وقد نفذوا العديد من الانقلابات العسكرية ومن أحكام حل الأحزاب الإسلامية.. فكان الحل عندهم شبيها بما فعله عرابي.
يقول محمد زاهد جل –وهو باحث مقرب من الحزب- بأن حزب العدالة والتنمية قد “قدَّم مقاربة جديدة لمفهوم العلمانية، تعبر عن المضامين الصحيحة داخل هذا المفهوم وتبعد عنها المضامين الأخرى، فهو لم يجعل من العلمانية الأوروبية معياره ولا نموذجه ولا محرابه، ولم يجعل من العلمانيين الغربيين قدوته ولا أئمته ولا وعاظه، وإنما فهم أن العلمانية هي أنها الدعوة إلى العلم وتحرير تفكير الإنسان وعقله، ورفض الأفكار التي تلغي حرية الإنسان وتحرمه من عقله وتمنعه من اتباع العلم واكتشاف الحياة وتسخيرها لمصلحة الإنسان والناس والبشرية جمعاء.
إن حزب العدالة والتنمية بحسب هذه المقاربة التي يقدمها لمفهوم العلمانية يرفض من يحصر العلمانية على معنى الإلحاد أو رفض الدين أو رفض المتدينين في الحياة العامة أو الفصل بين الدين والدولة، أو الفصل بين الدين والحياة، إنما أراد أن يفرض تصورا خاصا للعلمانية قد لا يكون موجودا في الحاضر ولا في التاريخ، فالجميع لم يمكن التخلص من الفكرة الدينية، وعلى فرض وجوده في التاريخ، فهو تصور لا يقصده المسلمون ولا يسعون إليه، وهو ليس مما يسعى إليه العقلاء ولا العلماء ولا الأحرار.
وبناء عليه فهو يرى أن كل دعوة إلى العلمانية على أنها فلسفة ضد الدين الإسلامي ينبغي أن يعلم أنها ليست علمانية صادقة ولا حرة ولا عقلانية ولا عالمة، وإنما هي تصورات مستوردة عن علمانيات قاصرة أو جزئية أو تاريخية بظروفها وزمانها ومكانها الخاص، وهي ليست جديرة بأن تكون فلسفة منقذة في مشروع النهوض العربي الحديث، في مقابل علمانية مؤمنة تملك مقومات المشروعية العلمية والعقلية للنهوض بالدول العربية الناشئة في ربيع الحرية والعقلانية والعلم.
على هذه الأسس، استطاعت التجربة التركية الحديثة أن تخوض تجربتها مع معركة جدل العلمانية، وهي تؤمن بالدين والإسلام دون تناقض بينهما ولا تعارض، وأن تقيم نهضتها وتخطط لتنميتها، وبالأخص في عهد حزب العدالة والتنمية، في توظيفه لتلك المضامين التي قدمها نحو هذا المفهوم، كقوة فكرية تنهض بمقومات المجتمع التركي المسلم دون اصطناع معارك بينهما لتوهم أن الإسلام يقف ضد التقدم والتنمية والعقل” .(3)
وهكذا كان الحل هو تفريغ اللفظ من معناه المستقر لحساب معنى آخر مقصود، مما يجعل المعركة السجالية الكلامية أكثر إرباكا وتعقيدا وأبعد عن التهمة.. كأنما هي أقرب إلى التورية والمعاريض الذي أبيح اللجوء إليه عند الضرورة والاضطرار.
بعد هذا بنحو عشر سنوات، كانت المعركة الكلامية في مصر –عقيب ثورة يناير- تدور هي الأخرى حول مصطلح “الديمقراطية”، وفيما يبدو أن جميع من في الساحة السياسية يقبل الديمقراطية، إلا أن الجميع أيضا يدرك أن معناها عند قوم ليس كمعناها عند الآخرين..
فأما الإسلاميون فهم يعبرون عنها باعتبارها وسيلة وأداة للكشف عن “الإرادة الشعبية”، وهي الطريقة التي وصلت إليها التجربة البشرية لتحقيق اختيار الحاكم وعزله، لذلك صدَّر حزب الحرية والعدالة –الذي انبثق عن جماعة الإخوان المسلمين- برنامجه السياسي بعبارة “الشورى هي جوهر الديمقراطية” في محاولة لإفراغ معنى الديمقراطية (وهي اللفظ الغربي) ليوضع فيه “الشورى” التي هي القيمة الإسلامية.
وكان أبسط تعبير عن هذه الفلسفة هي العبارة البسيطة الدقيقة والعميقة للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، إذ ما كان يُسأل عن الديمقراطية حتى يقول: “الديمقراطية حلال ما لم تحل حراما أو تحرم حلالا”. وهو بهذا يجعلها وسيلة محكومة بالإسلام.
إلا أن خصوم الإسلاميين أصروا –في إطار هذه المعركة السجالية- على أن الديمقراطية ليست صندوقا فقط وإنما هي منظومة قيمية، وهي ليست مجرد وسيلة وإنما ثقافة، وهم في هذا مصرون على أنها جزء من المنظومة القيمية الغربية التي أنتجتها.
تلك ثلاثة أمثلة تاريخية قصدنا منها أن نقول الآتي:
أولا: إن هيمنة المصطلحات في بيئة حاكمة تُلجئ المقهور المغلوب إلى استعمال هذه المصطلحات المهيمنة وتحديد موقفه منها، وبمقدار ما تحظى به هذه المصطلحات من هيمنة بمقدار ما يكون العجز عن التخلص منها، وحينئذ تجري معركة صراع حول معنى هذه المصطلحات.
إن المعركة هي معركة المعاني، لكن جولة الصراع حكمت في بعض الأوقات بسيادة مصطلح بعينه، وفي عصور الدولة الحديثة فإن السلطة قادرة على ترويج مصطلحاتها عبر وسائل الإعلام ومناهج التعليم ومنافذ الثقافة، مما يجعل التعامل مع المصطلح ضرورة لا فكاك منها.
ثانيا: إن تحديد الأحكام الشرعية في المصطلحات الملتبسة التي سادت في مثل هذه الأجواء، مثل العلمانية والديمقراطية والأحزاب والحرية والانفتاح … إلخ، لا يمكن أن يتم إلا بعد فهم مقصد القائل به، إذ المصطلح في نفسه لم يعد معبرا عن معنى محدد، ولا حتى كونه صدر ضمن سياق فلسفي بعينه أو في بيئة ثقافية بعينها، لم يعد تعريف أهل المصطلح له هو الحاكم في بيان الحكم الشرعي، لأن مدلول المصطلح ومعناه قد انتشر، ورُوِّج له بمعان أخرى لأغراض مختلفة، ثم تلقاه كثيرون ففهموا منه معاني متباينة. فلا بد من تحرير المعنى الذي يقصده قائله به قبل أن يُنظر في حكمه الشرعي، وبطبيعة الحال فسيختلف الحكم الشرعي مع كل قائل، فنفس المصطلح قد يقصد به قائله أشد الكفر وقد يقصد به قائله مقاصد الشرع.
هذا مع التشديد والتأكيد وبيان أن الأصل هو استعمال الألفاظ التي لا شبهة فيها ولا تحتمل المعنى الملتبس، وأن لا يُلجأ إلى هذا الالتباس إلا في حالات الضرورة –لغرض الإفهام والإفصاح، أو تحت ضغط الواقع الأكيد- وقد أمر الله تعالى عباده بقوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] لأن اليهود كانوا يقولون “راعنا” وهم يقصدون معنى “الرعونة” لا “المراعاة”، ووجهم ربنا إلى لفظ لا يلتبس وهو “انظرنا”.
وكان أبسط تعبير عن هذه الفلسفة هي العبارة البسيطة الدقيقة والعميقة للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، إذ ما كان يُسأل عن الديمقراطية حتى يقول: “الديمقراطية حلال ما لم تحل حراما أو تحرم حلالا”. وهو بهذا يجعلها وسيلة محكومة بالإسلام.
إلا أن خصوم الإسلاميين أصروا –في إطار هذه المعركة السجالية- على أن الديمقراطية ليست صندوقا فقط وإنما هي منظومة قيمية، وهي ليست مجرد وسيلة وإنما ثقافة، وهم في هذا مصرون على أنها جزء من المنظومة القيمية الغربية التي أنتجتها.
تلك ثلاثة أمثلة تاريخية قصدنا منها أن نقول الآتي:
أولا: إن هيمنة المصطلحات في بيئة حاكمة تُلجئ المقهور المغلوب إلى استعمال هذه المصطلحات المهيمنة وتحديد موقفه منها، وبمقدار ما تحظى به هذه المصطلحات من هيمنة بمقدار ما يكون العجز عن التخلص منها، وحينئذ تجري معركة صراع حول معنى هذه المصطلحات.
إن المعركة هي معركة المعاني، لكن جولة الصراع حكمت في بعض الأوقات بسيادة مصطلح بعينه، وفي عصور الدولة الحديثة فإن السلطة قادرة على ترويج مصطلحاتها عبر وسائل الإعلام ومناهج التعليم ومنافذ الثقافة، مما يجعل التعامل مع المصطلح ضرورة لا فكاك منها.
ثانيا: إن تحديد الأحكام الشرعية في المصطلحات الملتبسة التي سادت في مثل هذه الأجواء، مثل العلمانية والديمقراطية والأحزاب والحرية والانفتاح … إلخ، لا يمكن أن يتم إلا بعد فهم مقصد القائل به، إذ المصطلح في نفسه لم يعد معبرا عن معنى محدد، ولا حتى كونه صدر ضمن سياق فلسفي بعينه أو في بيئة ثقافية بعينها، لم يعد تعريف أهل المصطلح له هو الحاكم في بيان الحكم الشرعي، لأن مدلول المصطلح ومعناه قد انتشر، ورُوِّج له بمعان أخرى لأغراض مختلفة، ثم تلقاه كثيرون ففهموا منه معاني متباينة. فلا بد من تحرير المعنى الذي يقصده قائله به قبل أن يُنظر في حكمه الشرعي، وبطبيعة الحال فسيختلف الحكم الشرعي مع كل قائل، فنفس المصطلح قد يقصد به قائله أشد الكفر وقد يقصد به قائله مقاصد الشرع.
هذا مع التشديد والتأكيد وبيان أن الأصل هو استعمال الألفاظ التي لا شبهة فيها ولا تحتمل المعنى الملتبس، وأن لا يُلجأ إلى هذا الالتباس إلا في حالات الضرورة –لغرض الإفهام والإفصاح، أو تحت ضغط الواقع الأكيد- وقد أمر الله تعالى عباده بقوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] لأن اليهود كانوا يقولون “راعنا” وهم يقصدون معنى “الرعونة” لا “المراعاة”، ووجهم ربنا إلى لفظ لا يلتبس وهو “انظرنا”.
1- تيموثي ميتشل: استعمار مصر ص228، 229.
2- مذكرات أحمد عرابي 2/784 وما بعدها.
3- محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص89 وما بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق