محمد البرادعي: نشاطركم الأحزان
جاء الوقت على الدكتور محمد البرادعي، ليصبح أقصى ما يمكنه فعله أن يعلن حزنه على بلده "حزين عليك يا بلدي".
هكذا وضعها البرادعي على "تويتر" مبللة بالدمع، غارقة في العجز وقلة الحيلة.
نشاطركم الأحزان، يا دكتور برادعي، فهل تشاطرون أحداً التفكير في مخرج من مستنقع العار الذي تغوص فيه بلدك؟
اختلف المفسرون في بيان ما يقصده البرادعي من تغريدته الأخيرة، وهي بالمناسبة تغريدة اقتصادية للغاية، انتهت قبل عبور منتصف الطاقة الاستيعابية للتغريدة الواحدة، ذات المائة وأربعين حرفاً، وسواء كان مبعث التغريدة المقتضبة الحزن على الطفل الشهير باسم "معتقل التيشيرت"، أو الأسى للتشكيلة الحكومية الجديدة التي أسندت وزارة التعليم إلى واحد من خريجي مدرسة شعبان عبدالرحيم، فإنها تعبر عن أن الرجل وصل إلى مرحلة بات فيها يرى بوضوح شديد مأساوية الوضع الذي آلت إليه البلاد، وهو الوضع الذي كان هو شخصياً أحد واضعي حجر الأساس له، وأبرز صانعيه.
حسناً، جَلّ من لا يخطئ، ولن نفيض في تبيان المبين وشرح المشروح، غير أنه من حقنا أن نتساءل:
ماذا بعد الحزن والأسى؟هل بات أقصى ما لدى رجل اعتبرناه يوماً أيقونة للثورة، وسقراطاً للتغيير، مَصمصة الشفاه ومغالبة الدموع ومكابدة الحزن على البلد، من الخارج، بينما المأساة تتسع وتتمدد في الداخل؟ يمكن للدكتور البرادعي أن يمدّ بصره، ويرهف سمعه، لما صدر عن تيار "الاشتراكيين الثوريين" وحركة شباب 6 أبريل من مبادرات وأفكار لخلق مناخ لمصالحة ثورية، تعيد ترميم ما تصدّع في فانتازيا 30 يونيو/حزيران 2013، وتحافظ على آخر ما تبقّى من ثغور يناير، ثم يضيف أو يحذف أو يعدّل أو ينصح، أو يفعل أي شيء، بدلاً من هذا "القلش الحزين" الذي لا يختلف كثيراً عن موجة "القلش الكوميدي" التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، سخرية من أحدث تشكيلة حكومية لنظام السيسي.
غاية ما يتمناه نظام عبدالفتاح السيسي أن تعود مصر إلى الحالة التي كانت عليها في زمن حسني مبارك، عملاً بنظرية رفع غطاء القدر، قبل أن يصل إلى مرحلة الغليان، وليس أفضل وأنجع من "التنفيس" سلاحاً لتلافي الانفجار، فتصبح حرية السخرية والتنكيت والقلش أقصى ما يمارسه المعارضون الظرفاء، فيما يحتفظ النظام لنفسه بحقوق الفساد والاستبداد، ومواصلة مشروعه الذي لا يختلف في تفاصيله عن مشروع "مؤسسة مبارك".
ويبدو أن النظام قد أيقن أن هذه "وصفة مجرّبة"، بحيث صار يتحرّى في إجراءاته وقراراته استثارة أكبر مساحة من مناطق الرغبة في السخرية، وربما السِّباب أيضاً، بحيث تتبدد طاقات الغضب والاحتجاج في قنوات التنكيت وانتزاع صيحات الإعجاب، واستعراض القدرة على الإضحاك، لتشتعل السوشيال ميديا بتلك العناوين الحرّاقة التي تذكّر بحقبة ما عرفت بمرحلة الصحافة القبرصية الصفراء، تلك التي كانت تدغدغ وعي القارئ بأكبر كمية ممكنة من العناوين ذات الرنين، بلا مضمون، والإفيهات ذات البريق، بلا قيمة.
ومن عجب أن الاستسلام لإغواء المسخرة، أو المضحكة، بات يصيب قطاعاً من الذين يحسبون على معارضة الانقلاب، أيضا، في إطار حالة من الشبق الإعلامي، حولت المسألة إلى لهاث خلف مساحات الانتشار والربح، فيما يبقى هؤلاء الذين يكتوون بالنار في الداخل، بحاجة إلى مشروع ثوري حقيقي، يلملم ما تبعثر، ويضفّر ما تفرّق. كنت أتساءل قبل يومين: إذا لم تطلق القيادات الفلسطينية الآن الدعوة لانتفاضة شاملة من أجل الأقصى، فمتى ينتفضون؟ فردت صديقة فلسطينية، من العروبيين الحقيقيين، أن الحاضنة اللازمة لحدوث انتفاضة لم تعد متوفرة، وأضافت: لم يعد هناك صدام حسين ولا ياسر عرفات، ولا شارع عربي حي.
فقلت من عندي: إذن، المجد لهؤلاء النبلاء الذين يواصلون التظاهر والاحتجاج في مصر لمدة عامين، بمواجهة آلة قمع إجرامية، لا تقل وحشية عن الآلة الصهيونية، من دون أن ينسوا فلسطين والأقصى، وهم يخرجون ضد الانقلاب.
قالت: صدقت. وأظن أن هؤلاء يستحقون شيئا أكبر وأعمق من الاكتفاء بالقلش، المضحك والمبكي، والسباق الفضائي المحموم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق