حواديت السيسي وجامايكا
وائل قنديل
عندما تدار مصر بعقلية "جامايكا"، فمن الطبيعي أن تغرق في ثنائيات الخرافة والسخرية، لتطفو على السطح كل أشكال التفاهة والابتذال، فيما تستقر في القاع قضايا الشعوب الحقيقية.
عندما تدار مصر بعقلية "جامايكا"، فمن الطبيعي أن تغرق في ثنائيات الخرافة والسخرية، لتطفو على السطح كل أشكال التفاهة والابتذال، فيما تستقر في القاع قضايا الشعوب الحقيقية.
جامايكا ليست تلك الدولة الصغيرة التي اشتهرت بتقديم أبطال رياضة الجري، وإنما الشخصية الكوميدية التي ابتدعتها السينما المصرية الخفيفة، تعبيراً عن عالم السحر والعفاريت والخرافة.
انظر كيف يحفرون آبار الدجل والإلهاء، وينفذون عمليات الإخفاء القسري للوعي، بالتوازي مع اتساع دائرة الاختفاء القسري للمعارضين، وبشكل خاص من جيل الشباب، بما يشي أنهم مطمئنون تماماً لتمكّنهم من تدجين الحاضر، وحرق الماضي، وبات عليهم مصادرة القادم، وخطف المستقبل وإخفاؤه قسرياً.
نظام "جامايكا" يغرق الناس في ثنائيات المسخرة، معركة مرتضى وعبد الصادق، إحياء حروب الكرة بين الأهلي والزمالك، يصلح نموذجاً لحالة الإلهاء وخطف الوعي قسرياً، والتي تبدأ بتحويل رياضة كرة القدم إلى مجرد لعبة افتراضية محنطة، أشبه بالألعاب الإلكترونية.
كرة القدم تُلْعب في العالم كله، من أجل الجماهير، إلا في مصر، يمارسون اللعبة من أجل رئيس النادي الذي يستولي على ما يحققه اللاعبون، المشترون بنقوده، من مكاسب، ليصبح الفوز فوزه والإنجاز إنجازه.
وبدوره، يضخ هذه المكاسب في رصيد الزعيم الجنرال الذي أعاد هيبة الدولة، بينما أصحاب هذه اللعبة الأصليون، وأعني الجماهير، غائبون، أو مغيبون قسرياً، حيث يقبع الجمهور الحقيقي في المقابر، في صفوف طويلة من الشهداء، من مذبحة ملعب بورسعيد إلى مجزرة ملعب الدفاع الجوي، بينما المدرجات غارقة في صمت القبور، تنفيذاً لفرمان السلطة بأن تتم ممارسة اللعبة سراً.
وقريباً من ثنائية "الأهلي والزمالك" القديمة الجديدة، يشعلون حريقاً فضائياً آخر، بتلك المعركة الثنائية بين محامي الانقلاب وراقصته الاستعراضية الأولى، لتتنقل سما المصري وسمير صبري، من شاشة إلى أخرى، ليحبس الناس أنفاسهم كل ليلة، وهم يتابعون معركة "الأندر وير الأحمر" التي يطلبها باعة "التوك شو" بالحجز، لتحقيق أعلى مبيعات ممكنة، ولا مانع من الاستعانة ببعض الكومبارس من نخب سياسية، صار دورها الوحيد في مصر حالياً بيع أنتيكات 25 يناير في أكشاك وبازارات "30 يونيو"، وهي مهنة أقرب إلى أعمال السمسرة وتسهيل اللقاءات.
وفي المحصلة، يغرق الناس في مياه الردح والردح المضاد، وتختطف الأبصار ببهرجة القفشات ذات الإيحاءات المثيرة، في وصلات تلفزيونية ماجنة، يتنافس فيها المذيعون والمذيعات على اصطياد أكبر كمية من الرؤوس.
ولا تبتعد "حدوتة" وزير التعليم الجديد عن هذا السياق، فالرجل معيّن في مهمة أساسية، هي السيطرة على حقول الثرثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، أطول فترة ممكنة، لتطغى مسألة "الوزير الصفر" على مأساة "صفر مريم" الطالبة المتفوقة، المذبوحة في مستقبلها بسكين الطب الشرعي، حيث باتت "أمية وزير التعليم" اللغوية تطغى على كل ما هو جاد وحقيقي من قضايا التعليم.
وأزعم أن الرجل على استعداد للعب هذا الدور الكوميدي، المكتوب ببراعة، إلى آخر مدى، فمن تبرير أميته في الكتابة بتداخل حروب الكيبورد، إلى الإنكار التام لامتلاكه حساباً على "فيسبوك"، ليس مستبعداً أن يعلنوا عن تشكيل لجنة محايدة، تجري له امتحاناً في الإملاء على الهواء مباشرة.
ولمزيد من الإثارة، يفتتح إلى جانب مهرجان وزير التعليم، كرنفال "وزيرة النصف كم"، لتصبح القضية التالية في الأهمية: كيف تقف وزيرة تؤدي اليمين مرتدية "نصف كم"؟
وبينما تنعقد كل هذه المساخر الصاخبة، تمر بهدوء أنباء إغراق غزة بالمياه المالحة، ولا يجدون غضاضة في الاعتراف بالحرب على القطاع، ويستمر التعتيم على جريمة خطف المقاومين الفلسطينيين الأربعة، في سيناء، ولا يستشعر أحدهم خجلاً من أن يصبح الحديث عن خطف القاهرة رجال المقاومة الفلسطينية مرادفاً لقصص الأسرى الفلسطينيين في سجون العدو الإسرائيلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق