الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

بلدي خير من يرعى موسم الحج


بلدي خير من يرعى موسم الحج

أحمد بن راشد بن سعيد

مأساة كبيرة حدثت في منى في موسم حج هذا العام، أعقبت مأساة سقوط الرافعة في المسجد الحرام، وكأني أستمع إلى أمير الشعراء وهو يقول بنبرة حزينة:
جرحان يمضي الأمّتان عليهما
                   هذا يسيل وذاك لا يلتامُ.
الذين لقوا حتفهم في الرافعة 111، والمصابون 331، أما الذين تُوفّوا فى التدافع بمنى، فكانوا 769، والجرحى 934. في الحادث الأول أعلنت القيادة السعودية بشجاعة عن خطأ بشري تسبّب في الحادث، واتخذت إجراءات عقابية حاسمة.
ثم جاء حادث منى ليُنسيَ بهوله حادث الحرم. كان حجم الضحايا كبيراً، والصدمة أكبر.
كان صباح عيد الأضحى، وتوالت إحصاءات الضحايا على حساب الدفاع المدني السعودي في موقع تويتر، معلنةً في البدء أن المُتوفَّيْن 100 والجرحى 400، ثم ارتفع العدد بوتيرة حبست الأنفاس وأدمت القلوب. هل ثمة خطأ بشري آخر؟ وارد جداً. لا يمكن أن يقع كل هذا العدد من الضحايا اتفاقاً، ثمة سبب أدّى إلى حدوث هذه الكارثة التي لم يشهد مثلها الحج منذ موسم حج 1426 (كانون الثاني/يناير 2006) عندما حصل تدافع عند الجمرات أسفر عن وفاة 362 حاجاً، واستجابت له السلطات السعودية ببناء جسر عملاق للجمرات من 4 طوابق بتكلفة تجاوزت 4 بلايين ريال، وقد مثّل المشروع إنجازاً كبيراً، وأسهم في تيسير رمي الجِمار، ولم يحدث بعده تدافع مميت كالذي حصل في منى هذا العام.
لقد حدثت مأساة التدافع بعيداً عن الجسر، أما الرمي فقد كان ميسوراً، وقد شاهدنا كيف رمى حاج الجمرات بيده اليمنى، وهو يحمل حافظة (ترمس) القهوة باليد اليسرى.
ثمة من يتحدث عن فشل الحكومة السعودية في «إدارة الحشود». باطل أُريد به باطل.

من الصعب جداً النظر إلى موسم الحج بوصفه أنموذجاً لإدارة الحشود.
نحن لا نتحدث هنا عن قُدّاس يقيمه بابا الفاتيكان في ساحة عامة، ولا عن مشجعي مباراة في ملعب كرة قدم، ولا عن جمهور مغنيّة في بهو فندق. 
موسم الحج فريد على مستوى الكون. الحجاج بالملايين ولا يمكن مقارنتهم بالحشود التي نراها في مناطق عدة في العالم، وقد يحدث فيها تدافع ويسقط ضحايا كثيرون. لا يوجد تجانس لغوي وثقافي وبيئي بين الحجاج، ما قد يؤدي إلى اختلاف وبلبلة وسوء فهم، وربما نزاع وشجار. فضلاً عن ذلك، ثمّة حجاج أميون، أو محدودو التعليم، وثمّة حجاج مسنّون ضعفاء وقد يسقطون سريعاً في أي حادث تدافع. إدارة الحشود بالمفهوم التقليدي لا تنطبق على موسم الحج؛ لأنه لا نظير له في التاريخ. 
من الظلم إذن الزعم بأن المملكة فشلت في إدارة الحشود، وهي التي تسخّر كل طاقاتها لخدمة موسم الحج، وتستنفر كل أجهزتها الأمنية لحماية من تسمّيهم «ضيوف الرحمن»، وتنفق أموالاً طائلة على إنجاز مشاريع تجعل أداء الحج أكثر سهولة وأقل خطراً.
إيران التي تتربص بالسعودية الدوائر، وتمارس القتل الجماعي للعرب السنّة في الشام والعراق واليمن، تباكت على دماء الضحايا في منى، وألقى مرشدها خامنئي، ورئيسها روحاني، مسؤولية التدافع على سلطات المملكة وكأنها باشرت قتل الحجاج. خامنئي طالب السعودية بالاعتذار للأمة الإسلامية، وطالب الأمة بإيجاد «حل» للمشكلة. الحل طبعاً هو انتزاع إدارة الحج من المملكة، وتسليمها إلى منظمة التعاون الإسلامي، ما يعني «تدويل» الحج، وهو ما أفصح عنه محمد إمامي كاشاني، خطيب جمعة طهران، الذي زعم أن السعودية باتت مشغولة بإنتاج «داعش والإرهابیین، أو قتل الناس في الیمن، ولیس لدیها وقت» للاهتمام بالحج.

تسابق رموز الكيان الصفوي إلى استغلال الفاجعة، والسعودية لم تفرغ بعد من إحصاء الضحايا وإنقاذ المصابين، الأمر الذي أكّد فقدان القوم أدنى خصال المروءة ومكارم الأخلاق. 
مساعد مدير مكتب روحاني، حميد أبو طالبي، استنكر «عدم كفاءة الحكومة السعودية في هذه الحادثة»؛
أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، زعم أن «عدم کفاءة القائمین علی النظام فی الحج يُعدّ من الأسباب الرئیسة لوقوع کارثة منی»؛ 
مساعد وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، قال إن «إهمال الرياض لا يُغتفر»، والتلفزيون الرسمي نقل صور متظاهرين يهتفون بالموت لقادة المملكة معبّرين عن غضبهم من عجزها عن «إدارة الحج، وعدم أهليتها له» 
(السفير، 26 أيلول/سبتمبر 2015).
فكرة «تدويل الحج» ليست جديدة، وهي تُطرح للنكاية بالدولة السعودية.

لا يمكن أن تحدث «إدارة مشتركة» لموسم الحج من دون مس بسيادة المملكة على ترابها الوطني. والتدويل كارثة كبيرة حيث سيجعل الحج محكوماً بالتوافقات، وخاضعاً للمزايدات، وسيفتح الباب أمام طقوس لا صلة لها بجوهر المناسك، كالتظاهرات واللافتات والشعارات والهتافات، وما يسمّيه الخطاب الصفوي الإيراني: «إعلان البراءة من المشركين»، وهو ما لا يمكن أن تقبل به دولة تستند في شرعيتها إلى خدمة الحرمين، ونصرة المسلمين، والإبقاء على عقيدة التوحيد بمنأى عن العبث.
خادم الحرمين، الملك سلمان، أمر بمراجعة خطط الحج، وولي العهد، الأمير محمد بن نايف، أمر بتشكيل لجنة تحقيق. خطوتان ضروريتان تنمّان عن الإحساس بالمسؤولية. 

إن مأساة تدافع منى تحتّم إجراء تحقيق شامل و «شفّاف»، كما تحتّم الإعلان عن نتائجه مهما تكن قاسية، وكشف المسؤولين ومحاسبتهم. لكن يجب أن يفوّت السعوديون والمسلمون الصادقون حيث كانوا الفرصة على من يريدون انتزاع مكاسب سياسية رخيصة من أشلاء الضحايا، ودموع محبّيهم. 
وهنا لا بد من الإشادة بموقف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي تصدّى للانتهازية الإيرانية، فاستنكر إظهار المملكة بمظهر المذنب، قائلاً إنه ليس لأحد الحق في انتقاد إجراءات الحج، مشيراً إلى أن السلطات السعودية تقوم بواجباتها على أكمل وجه، وأنه لاحظ خلال أدائه الحج والعمرة اهتمامها بتنظيم أداء الشعائر، معرباً عن ثقته بأنها ستتخذ قرارات صارمة بعد التدافع في منى، ورافضاً إشراك دول أخرى في تنظيم الحج بقوله إن «التفكير بطريقة عاطفية أمر خاطىء» وإن السعودية تعمل باستمرار على تطوير البنية التحتية، وجميع الاستعدادات المتعلقة بالحج (تركيا بوست، والجزيرة نت، 25 أيلول/سبتمبر 2015).
مأساة التدافع مؤلمة حقاً، ولكن يجب على الجميع انتظار نتائج التحقيق وعدم القفز إليها، بما في ذلك لوم الحجاج. 

ثمة تقارير تتحدث عن تسبّب إيرانيين في التدافع، وهو أمر غير مستبعد لاسيّما أن مواسم حج سابقة شهدت ضلوع إيرانيين في حوادث قتل وتخريب، ولاسيما أن المملكة تقاتل اليوم تدخّل إيران في اليمن، وتتصدى لتوحشها في سوريا.
من المهم إذن المبادرة إلى التحقّق والمساءلة، ومن المهم في الوقت نفسه الاصطفاف بالكامل مع قيادة البلاد في مواجهة تداعيات المأساة، ورفض المتاجرة بها.

• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق