الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

استراتيجيّات التشتيت.. كيف يُشغل الطّغاة الشّعوب عن قضاياهم الحقيقيّة؟

 استراتيجيّات التشتيت.. كيف يُشغل الطّغاة الشّعوب عن قضاياهم الحقيقيّة؟

محمد خير موسى

"تتوالى السّيوف التي يغرسها المصارع في ظهره؛ سيف تهاوي العملة، وسيف غلاء المعيشة، وسيف رداءة البنية التّحتية، وسيف الحريّات الغائبة، وسيف جنون الأسعار"-

يبقى الثّور الغاضب محبوسا خلف بوّابة حديديّة صارمة لا يستطيع مغادرتها، فيتصاعدَ غضبُه حتى إذا وصل إلى حدّه الأقصى تُفتَحُ له البوّابة لينطلق مسرعا هائجا غاضبا باتّجاه ذلك الكائن الصّغير؛ المُصارِع الذي يعلم يقينا أنّه لا يستطيع الوقوف في وجه الثّور الغاضب والهائج، فلا بدّ أن ينتهج سلوكا مختلفا لمواجهة غضب الثور وهياجه المتصاعد؛ يحملُ على الفور منديلا أحمر يوجهه ذات اليمين وذات الشّمال، يتشتّت انتباه الثّور فيصبح همّه المنديل الأحمر الذي لم يكن في لحظةٍ من اللحظات قضيّته، وفجأة يظهر مصارع آخر يحملُ منديلا آخر، والثّورُ الغاضبُ قد تشتّت انتباهه وغاب تركيز غضبه وانشغل بالمناديل الحمراء الجانبيّة عن المُصارع الذي يسارعُ إلى غرس السّيوف واحدا تلو الآخر في ظهره. وغضبُ الثّور رغم ذلك ما يزال موجها إلى المنديل الأحمر الهامشيّ حتّى يتمكّن المُصارعُ من هدّه والإجهاز عليه.

في الغرف المُغلَقة يجتمعُ المُصارِعُ الصّغير مع مناديله الحمراء، والمصارعُ هنا هو السلطة بكل مكوناتها من أجهزة مخابرات ومؤسسات حكوميّة ومنظومة حكم، والمناديل الحمراء هم أذرعه الإعلاميّة ورجاله من الفنانين والفنانات أو حتى الدعاة والمؤثرين الذين يحركهم بالريموت كونترول في وسائل التواصل الاجتماعيّ، فيكلّفُ أحد هذه المناديل بالظّهور على الشّاشة وبالتغريد والنشر والبث المباشر على وسائل التّواصل الاجتماعيّ وشتم الشّيخ الفلاني أو إثارة المسألة الجدليّة الفلانيّة، أو غير ذلك مما يهيج المتلقي ويثير انتباهه وغضبه.

افتعال وإثارة المعارك الهامشيّة والجانبيّة هدفُه بالدّرجة الأولى ليس القضايا المُثارة أصلا، بل هدفه افتعالُ قضيّة جانبيّة يتلهّى بها النّاس عن الكوارث الحقيقيّة التي يعاينونها ويعانونَها، وينشغل بها العبادُ عن الجراح الحقيقيّة التي تثغب دما وقهرا ووجعا من كلّ أنحاء جسدهم المُنهك

يُستَفَزّ الجمهور الغاضب الذي لا يتعامل معه أبناء الغرف المغلقة إلّا بوصفه ثورا غاضبا هائجا يجب إلهاؤه بالقضايا الجانبيّة والتافهة وتشتيتُ انتباهه وإضعاف تركيزه، وحرف أنظاره عن المُصارع الحقيقيّ وما يفعله من كوارث بالمناديل الحمراء.

ينشغلُ النّاس بالمعارك الجانبيّة المثارة فتتوالى السّيوف التي يغرسها المصارع في ظهره؛ سيف تهاوي العملة، وسيف غلاء المعيشة، وسيف رداءة البنية التّحتية، وسيف الحريّات الغائبة، وسيف جنون الأسعار، وسيف التضخم الاقتصادي، وسيف الخضوع للعدوّ الأجنبيّ، وسيف خذلان الأخ القريب الذي يقتل على الشاشات.

إنّها عمليّة "الإدارة بالأزمة" من خلال افتعال الأزمات الوهميّة والجانبيّة والهامشيّة، لينشغل النّاس بها عن أزماتهم الحقيقيّة التي لا تفتأ تفتك بهم صباح مساء.

إنّ افتعال وإثارة المعارك الهامشيّة والجانبيّة هدفُه بالدّرجة الأولى ليس القضايا المُثارة أصلا، بل هدفه افتعالُ قضيّة جانبيّة يتلهّى بها النّاس عن الكوارث الحقيقيّة التي يعاينونها ويعانونَها، وينشغل بها العبادُ عن الجراح الحقيقيّة التي تثغب دما وقهرا ووجعا من كلّ أنحاء جسدهم المُنهك.

وهذا هو ما ذكره المفكّر الأمريكي نعوم تُشومِسكِي في دراسته "استراتيجيّات التحكّم في البشر والسّيطرة على الجمهور"، ونسَبَه إلى الوثيقة المسمّاة "الأسلحة الصّامتة للحروب الهادئة" إذ يقول:

"حافظوا على تحويل انتباه الرّأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعيّة الحقيقيّة وألهُوهُ بمسائل تافهة لا أهميّة لها. أبقُوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا دون أن يكون لديه أيّ وقتٍ للتّفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى".

لقد ساق نعوم تشومسكي عشر استراتيجيّات لإلهاء الشّعوب في دراسته "استراتيجيّات التحكّم في البشر والسّيطرة على الجمهور"، وجاءت الاستراتيجية الخامسة منها تحت عنوان "خاطِب العامّة كأنّهم أطفال".

استراتيجية التشتيت والإلهاء والإشغال التي تمارسها الأنظمة المستبدّة وأذرعها بحق الشعوب المنهكة تعتمد بشكل رئيس على إقصاء الحسّ النّقدي، وتغييب القدرة الجماهيريّة على التّعامل مع هذه المعارك الجانبيّة بمنطق نقد أسبابها وأهدافها والمُراد منها ومآلاتِها، وذلك من خلال استفزاز عاطفتها الدّينيّة الصّادقة

جاء فيها: "إذا تمَّ التوجّه إلى شخصٍ مّا، كما لو أنّه لم يتجاوز بعد الثّانيةَ عشرة من عمره؛ فإنّه يتمّ الإيحاء له بأنه فعلا كذلك؛ وبسبب قابليّته للّتأثر من المحتمل إذن أن تكونَ إجابته التّلقائية أو ردّة فعله مفرغة من أيِّ حس نقدي، كما لو أنّه صادرٌ فعلا عن طفلٍ ذي اثنتي عشرة سنة".

إنّ استراتيجية التشتيت والإلهاء والإشغال التي تمارسها الأنظمة المستبدّة وأذرعها بحق الشعوب المنهكة تعتمد بشكل رئيس على إقصاء الحسّ النّقدي، وتغييب القدرة الجماهيريّة على التّعامل مع هذه المعارك الجانبيّة بمنطق نقد أسبابها وأهدافها والمُراد منها ومآلاتِها، وذلك من خلال استفزاز عاطفتها الدّينيّة الصّادقة عن طريق مهاجمة أحد أهمّ أعلام الدّعوة على سبيل المثال أو إثارة قضايا تستفز في الناس صدق العاطفة الدينيّة، وسرعان ما يدخلُ الجمهور الغاضب في الاشتباك لأنّه مُستَفز أصلا ومتوثّبٌ للمعركة ومتحفّزُ لها، ولكن تفريغ غضبه يتمّ بطريقةٍ كما لو أنّه تفريغ غضب طفلٍ مندفع يتمّ إقناعه باشتباكٍ آمن لتفريغ طاقته الانفعاليّة وفرط حركته وغضبه المتصاعد.

ما تزال هذه الاستراتيجيّة تنجح في أحيان عديدة وأزمنة مديدة غير أنّ حركة التّاريخ وقوانينه المطّردة ما تزال تثبت أيضا أنّ نجاح هذه الاستراتيجيات ليست قدر الشعوب الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل، فقد ينقلب السحر على السّاحر في ساعة غفلة من الطغاة عن سنن الزمان المتبدّل، ولله درّ أبي البقاء الرندي الذي يقول:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

دارَ الزَمانُ عَلى دارا وَقاتِلِهِ
وَأَمَّ كِسرى فَما آواهُ إِيوانُ


x.com/muhammadkhm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق