عنوان الكتاب
|
الخلافات السِّياسيَّة بين الصَّحابة رضي الله عنهم
|
اسم المؤلف
|
محمد بن المختار الشنقيطي
|
الناشر
|
مركز الراية المعرفية - السعودية - جدة
|
الطبعة
|
الثانية
|
سنة الطبع
|
1427هـ - 2007م
|
عدد الصفحات
|
288
|
عرض ونقد
|
القِسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية
|
أولًا: عرض الكتاب:
كتاب هذا الشَّهر، هو واحد من تلك الكتُب التي لاقت رواجًا واسعًا في السَّاحة الفكريَّة، وتناولته دراسات ومباحثات، بل ومناظرات، وساعد على ذلك أمور، منها: طبيعة موضوع الكتاب، ومنها: طريقة عرْض المؤلِّف له وجُرأته في الطَّرح، ومنها: تقديم الشَّيخ راشد الغنوشي للكتاب بمقدِّمة أثنى فيها على الكتاب وأشاد به، وبما توصَّل إليه من نتائج!
ومؤلِّف هذا الكتاب هو باحث وشاعر، ومحلِّل سياسي، ومهتمٌّ بالفقه السِّياسي، والأدب الإسلامي، ويُقيم بالولايات المتحدَّة الأمريكيَّة.
والكتاب عليه مؤاخذات عِلميَّة ومنهجيَّة كثيرة، ينبغي التنبُّه إليها، والحذر من مِثل هذا المسلك الذي سلَكه المؤلِّف فيه، خصوصًا في مثل هذا الموضوع الشائك المتعلِّق بخير جيل عرفَتْه الدُّنيا بعد الأنبياء والمرسَلين، وهم صحابة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي عنهم أجمعين. ونحن في هذا العرض والنقد نُشير إلى أهمِّ تلك النِّقاط مع التعليق عليها باختصار.
وقد تألَّف الكتاب - بعد مقدِّمة الشَّيخ الغنوشي - من مدخل، واثنين وعشرين قاعدة، ممثِّلًا على صِحَّة تلك القواعد بذِكر بعض الأمثلة تحتها، وعقد المؤلِّف بعد ذكر القواعد فصلًا لملاحظاته على منهج ابن تيميَّة، وفصلًا آخر للحوارات مع مَن سمَّاهم: مدرسة (التشيُّع السُّني) ابن العربي وتلامذته من المعاصرين كمحبِّ الدِّين الخطيب ومن بعده - على حسب المؤلِّف - ثم الخاتمة:
تحدَّث في المدخل: عن بعض النِّقاط التي توضِّح منهجيَّة الدِّراسة، كالتأصيل الشَّرعي والوعي التاريخي، وجدليَّة المَثل والمِثال، وعِبرة من قَصص القرآن الذي يذكُر نقاط القوَّة والضَّعف حتى عند ذِكره للأنبياء المعصومين، وعن درس بليغ من الصحابي الجليل عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، كما ذَكر أسباب اختياره لابن تيميَّة خُصوصًا، وأهل الحديث عمومًا؛ ليكونوا عُمدتَه في دِراسته، كما تحدَّث عن منهج العلم والعدل، وعن بعض الأصول المنهجيَّة.
ثم دلَف إلى سرْد القواعد، وهي كالتالي:
القاعدة الأولى: التثبُّت في النَّقل والرِّواية.
القاعدة الثَّانية: استصحاب فضل الأصحاب.
القاعدة الثَّالثة: التَّمييز بين الذَّنب المغفور والسَّعي المشكور.
القاعدة الرَّابعة: التَّمييز بين المنهج التأصيليِّ والمنهج التاريخيِّ.
القاعدة الخامسة: الاعتراف بحدود الكمال البشريِّ.
القاعدة السَّادسة: الإقرار بثِقل الموروث الجاهليِّ.
القاعدة السَّابعة: اجتماع الأمانة والقوَّة في الناس قليل.
القاعدة الثَّامنة: الأخذ بالنِّسبية الزَّمانيَّة.
القاعدة التَّاسعة: عدم الخَلط بين المشاعر والوقائع.
القاعدة العاشرة: الابتعاد عن اللَّعن والسبِّ.
القاعدة الحادية عشرة: الابتعاد عن التَّكفير وعن الاتِّهام بالنِّفاق.
القاعدة الثَّانية عشرة: التحرُّر من الجدل وردود الأفعال.
القاعدة الثَّالثة عشرة: إدراك الطَّبيعة المركَّبة للفتن السِّياسيَّة.
القاعدة الرَّابعة عشرة: الترَّكيز على العوامل الداخليَّة.
القاعدة الخامسة عشرة: اجتناب الصِّياغة الاعتقاديَّة للخلافات الفرعيَّة.
القاعدة السَّادسة عشرة: الابتعاد عن منهج التَّهويل والتَّعميم.
القاعدة السَّابعة عشرة: التَّمييز بين السَّابقين وغير السَّابقين.
القاعدة الثَّامنة عشرة: اجتناب التكلُّف في التأوُّل والتأويل.
القاعدة التَّاسعة عشرة: التَّدقيق في المفاهيم والمصطلحات.
القاعدة العشرون: التَّمييز بين الخطأ والخَطيئة، بين القصور والتَّقصير.
القاعدة الواحدة والعشرون: التَّمييز بين الخِطاب الشَّرعي والخطاب القدَري.
القاعدة الثَّانية والعشرون: الحُكم بالظواهر والله يتولَّى السرائر.
ثم يأتي بعد تلك القواعد الحديثُ عن ملاحظات المؤلِّف على منهج ابن تيميَّة والذي يَسمِه المؤلِّف بالاضطراب، وإنْ كان أقلَّ من غيره بكثير.
ثمَّ بعد ذلك تأتي الحوارات مع مدرسة (التشيع السني)، فيذكر المؤلِّف في هذا الفصل مآخِذَ منهجيَّة على ابن العربيِّ وطبيعة شخصيَّته، ومآخِذ العلماء عليه، وملاحظات على كتاب (العواصم)، وقد تنوَّعت هذه الملاحظات؛ فمنها: ملاحظات على أحكام ابن العربيِّ على النُّصوص، ومنها: ملاحظات على أحكامه على الوقائع، ومنها: ملاحظات على أحكامه على الرِّجال، ثمَّ ختَم المؤلِّف هذا الفصل بالحديث عن ابن العربيِّ متكلِّمًا وقاضيًا، واصفًا إيَّاه بالانفعال والشدَّة وغير ذلك حينما يتحدَّث بنفَس المتكلِّم، أمَّا عندما يتحدَّث بنَفَس القاضي فيوصف بالدِّقَّة والتحرِّي.
ثمَّ تأتي الخاتمة: فيؤكِّد المؤلِّف فيها على أنَّ رؤيةَ التاريخ لها أثر كبير في تصوُّرنا للمبدأ والالتزام به، مُشِيدًا بمنهج ابن تيميَّة ومنهج المحدِّثين، ومفضِّلًا إيَّاه على منهج ابن العربي وتلامذته من المعاصرين.
ثانيًا: نقد الكتاب:
في هذا الكتاب جملةٌ حسنة من القواعد نتَّفق معها إجمالًا، كما أنَّ فيه محاولة جيِّدة من المؤلِّف حاول فيها أن يلتزم العدل والإنصاف والحياديَّة، وفيه محاولة للفَصل بين قداسة المبدأ ومكانة الأشخاص، ولكن لم يَسلَم للمؤلِّف ما أراده؛ فثمَّة مؤاخذات علميَّة، ومؤاخذات منهجيَّة على المؤلِّف، نُشير إلى أهمِّها بما يتناسب مع المقام:
من هذه المؤاخذات:
1- الولوج فيما نُهينا عن الحديث فيه، والتَّأصيل للجُرأة في الكلام على ذِكر أخطاء الصَّحابة الأكابر وإذاعتها على الملأ؛ بحُجَّة أنَّ هذا للتَّحليل والاعتبار، وأنَّ هذا نُصرة للمبادئ على الأشخاص، وأنَّه عامل مهمٌّ لكيفيَّة معالجة الواقِع، وعدم التناقُض في الإنكار على انحرافات الخلَف مع تبريرها للسَّلف:
يقول المؤلِّف - عن كتابه وهدف دراسته - (ص: 19): (هذه رسالة خفيفة الوزن، كثيفة المادَّة، تستهدف تجديد القول في دراسة الخلافات السِّياسيَّة بين الصَّحابة رضي الله عنهم، والخروج من دائرة الجدل والمناظرة في قضايا المفاضلة بين الصَّحابة، وشرعيَّة خلافة الخلفاء الراشدين - وهي قضايا نظريَّة استنزفت العقل المسلم في غير طائل - إلى دائرة التَّأصيل والتَّحليل والاعتبار).
ويقول (ص: 24): (فإنَّ الأولوية اليوم هي كشفُ فضائح المستبدِّين، وتجريدهم من أيِّ شرعيَّة أخلاقيَّة أو تاريخيَّة، إضافة إلى أنَّ البِدع السياسيَّة لا تقلُّ خطورةً عن بدع الاعتقاد، كما تشهد به عبرة أربعة عشر قرنًا من تاريخ الإسلام. لكن كشف فضائح المستبدِّين المعاصرين غير ممكن ما دام الحديث عن الانحرافات السياسيَّة التي بدأت في عصر الصَّحابة مطبوع بطابع التبرير والدِّفاع، لا بطابع الدِّراسة المجرَّدة الهادفة إلى الاعتبار، وما دام الحديث عن تلك الفتن والخلافات السياسيَّة يتحكَّم فيه فقهُ التحفُّظ، لا فقه التقويم؛ ذلك أنَّ من طبيعة المبدأ الأخلاقي العموم والاطِّراد، فليس من الممكن تحريم الظُّلم السِّياسيِّ على الخَلَف، وإباحته للسَّلف، دون وقوع في تناقُض فكري وأخلاقي).
التعقيب: موضوع الكتاب وعنوانه الذي اختاره المؤلِّف ليكون مادَّة لبحثه (الخلافات السِّياسيَّة بين الصَّحابة رضي الله عنهم)، هو موضوع شائك، وفِتنة قلَّ مَن يَسلَم عند الحديث عنها، وليس بخافٍ على المؤلِّف وأمثاله النُّصوصُ الواردة في فضل الصَّحابة والنَّهي عن الحديث في مِثل هذه الأمور، وإجماع أهل السُّنة على الكفِّ عن الحديث فيما شجر بين الصَّحابة الكرام، إلَّا للعالم المتحقِّق المتبصِّر، ويكون حديثه لغرض صحيح، كالدِّفاع عنهم، والردِّ على أهل البِدع والذامِّين للصَّحابة الكرام، وما شابه، وسننقل بعض نقول أئمَّة الحديث الذين تبنَّى منهجَهم المؤلِّفُ في كتابه ذلك؛ ليتبيَّن خطر المسلك الذي سلَكه، ومخالفتُه للعلماء الذين تبنَّى هو منهجهم:
قال الإمام أبو عثمان الصَّابوني في ((عقيدة السَّلف وأصحاب الحديث)) (ص: 129) عن السَّلف وأصحاب الحديث: (ويَرون الكفَّ عمَّا شجَر بين أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتطهير الألسنة عن ذِكر ما يتضمَّن عيبًا ونقصًا فيهم، ويرون الترحُّم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم).
وقال الإمام الذهبيُّ في ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 92): (...كما تقرَّر عن الكفِّ عن كثير ممَّا شجر بين الصَّحابة، وقتالهم - رضي الله عنهم أجمعين - وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدَّواوين، والكتُب، والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع، وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيُّه وإخفاؤه، بل إعدامُه؛ لتصفوَ القلوب، وتتوفرَّ على حبِّ الصَّحابة، والترضِّي عنهم، وكتمان ذلك متعيِّن عن العامَّة، وآحادِ العلماء، وقد يُرخَّص في مطالعة ذلك خلوةً للعالم المنصِف، العري من الهوى، بشَرْط أن يستغفر لهم، كما علَّمنا الله تعالى).
وقال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 34): (واتَّفق أهلُ السُّنة على وجوب منع الطَّعن على أحد من الصَّحابة بسببِ ما وقع لهم من ذلك، ولو عُرِف المحِقُّ منهم؛ لأنَّهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلَّا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطِئ في الاجتهاد، بل ثبَت أنَّه يُؤجر أجرًا واحدًا، وأنَّ المصيب يُؤجَر أجرينِ).
ونقَل في ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 387 - 388) عن ابن حمدان موافقةً لغيره من أهل السُّنة أنَّه قال: (يجب حبُّ كلِّ الصَّحابة، والكفُّ عمَّا جرى بينهم كتابةً، وقراءةً وإقراءً، وسماعًا وتسميعًا، ويجب ذِكر محاسنهم، والترضِّي عنهم، والمحبَّة لهم، وترك التحامُل عليهم، واعتقادُ العُذر لهم، وأنَّهم فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يُوجِب كفرًا ولا فِسقًا، بل ربَّما يُثابون عليه؛ لأنَّه اجتهاد سائغ، ثمَّ قال: وقيل: المصيب عليٌّ، ومَن قاتله فخطؤه معفوٌّ عنه...)، ثم قال: (وقال بعض المحقِّقين: البحث عن أحوال الصَّحابة - رضوان الله تعالى عنهم أجمعين - وعمَّا جرى بينهم من الموافقة والمخالفة، ليس من العقائد الدِّينيَّة، ولا من القواعد الكلاميَّة، وليس هو ممَّا يُنتفع به في الدِّين، بل ربَّما أضرَّ باليقين، وإنَّما ذكر العلماء نُتفًا في كتبهم؛ صونًا للقاصرين عن التأويل عن اعتقاد ظواهر حكايات الرَّافضة ورِواياتها؛ ليتجنبَ مَن لا يصل إلى حقيقة عِلمها، ولأنَّ الخوض في ذلك إنَّما يصلح للتَّعليم، وللردِّ على المتعصِّبين، أو لتدريس كتُب تشتمل على تلك الآثار، فيُؤوِّل ذلك، ويُبيِّنه للعوامِّ؛ لفرْط جهلهم بالتأويل)... وكلام أهل العلم في ذلك أكثر من أن يُحصى..
نقول: فهل بعد ذلك يجوز أن يجدَّد (القول في دراسة الخلافات السياسيَّة بين الصَّحابة رضي الله عنهم) ولو كان (تأصيلًا وتحليلًا واعتبارًا)؟!
حتَّى إنْ كان هذا جائزًا بشُروطه، من تحرِّي العدل والإنصاف، ولزوم التَّأويل الصَّحيح لأفعالهم الذين اجتهدوا فيها حتى وإنْ أخطؤوا؛ لئلَّا يقع شيء في القلب مِن هؤلاء الذين رضي الله عنهم ورضُوا عنه، أو يتأتَّى التنقُّص لهم، واتِّهامهم وغير ذلك، والمؤلِّف نفسه لم يتجاهل هذه النُّصوص أثناء حديثه ولا كان غافلًا عنها، بل حاول أن ينتقد هذا المنهج الذي سماه فقه التحفُّظ، وحاول أن يبتعدَ في حديثه عن التنقُّص لمقام الصَّحابة الكِرام، وعن الوقوع في السَّبِّ لهم، واتِّهامهم بما هم منه براء - نقول: إنْ جاز هذا بشُروطه، مع اجتناب المحاذير؛ فالسُّؤال: هل وُفِّق المؤلِّف في تحقيق هذه الشُّروط، واجتناب تلك المحاذير التي حذَّر منها العلماء السابقون واللاحقون أثناء الحديث عن الصَّحابة الكرام واختلافاتهم السِّياسيَّة - على حدِّ تعبيره؟
الجواب - بكلِّ أسف -: لا! وسنذكر من كلامه وتحليلاته واستدلالته ما يدلُّ على أنَّه وقع في التنقُّص من قدْر أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وطعَن في نيَّاتهم؛ فعلى حسب رأي المؤلِّف وتحليلاته: عثمان بن عفَّان رضي الله عنه تأوَّل في الأموال وآثر أقاربه بالولايات! وعليٌّ رضي الله عنه تخلَّف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنَّه كان يُريد الإمارة لنفْسه، وبعد ذلك تأوَّل في الدِّماء! وأمَّا معاوية فقد كان طامحًا للمُلك، وخالطتْه وعمرَو بنَ العاص شهوةُ المُلك وحبُّ الدُّنيا!
ثمَّ نقول: فماذا يا تُرى تؤدِّي إليه الدِّراسةُ المجرَّدة الهادفة إلى الاعتبار، والحديثُ الذي يتحكَّم فيه فقه التقويم لا فقه التحفُّظ؟ وما طبيعة هذه الانحرافات السِّياسيَّة التي بدأت في عصر الصَّحابة؟! وهل يجوز أن يُوصف عصر الصَّحابة بهذا أصلًا؟ وهل يقول المؤلِّف بأنَّ السَّلف (الصحابة الكرام) وقعوا في الظلم السِّياسي الذي يُنكره ويحرِّمه على الخلَف؛ لكي لا يكون متناقضًا؟! تساؤلات واستشكالات سيتضح الجواب عنها من كلام المؤلِّف وتحليلاته، مع التَّعقيب على بعضها باختصار شديد:
يقول المؤلِّف أيضًا (ص: 25): (ومهما يعترض معترض أو يجادل مجادل بأنَّ الكتابة في موضوع الخلافات السياسيَّة بين الصَّحابة نَكْءٌ لجراح الماضي السَّحيق، وجدل نظري في غير طائل، وفتح لباب التطاول على الأكابر... فإنَّ الأمَّة لن تخرج من أزمتها التاريخيَّة إلَّا إذا أدركت كيف دخلت إليها).
ويقول أيضًا (ص: 32): (ومهما يرهق الباحث نفسه في تأصيل العدل في الحُكم والقَسْم، فسيجد من المصابين بداء التَّجسيد من يحتجُّ عليه قولًا أو فعلًا بعمل بعض الأكابر الذين آثَروا أقاربَهم بالولايات والأموال [يقصد: عثمان رضي الله عنه]. ومهما يُرهق نفسه في الحديث عن حقِّ الأمَّة في اختيار قادتها، فسيجد مَن يُحاججه قولًا أو فعلًا بعمل بعض الأكابر الذين ورثَّوا أبناءهم السُّلطة [يقصد: معاوية رضي الله عنه]. وليس من حلٍّ لهذه الأزمة الفكريَّة والعمليَّة سوى التقيُّد بوصية النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي ذرٍّ رضي الله عنه بـ (قلِ الحقَّ وإن كان مرًّا)، وتسميةِ الأخطاء بأسمائها دون مواربة، وخصوصًا أخطاء الأكابر الذين هم محلُّ القُدوة والأُسوة من أجيال الأمَّة).
التعقيب: ما أعظمَ هذه الجُرأةَ على تبرير ذِكر أخطاء الأكابر وإذاعتها على الملأ! فضلًا عن كونها أخطاءً متصوَّرة في الذِّهن، وشُبُهًا متهافتة، تَهافَتُ كالزُّجاج يَخَالُها المرءُ لأوَّل وهلةٍ حَقًّا، وعند التأمُّل يتَّضح أنَّ كلَّها كاسرٌ مكسور. وفَهمُ الأمر على وجهه يُخرجها عن كونها أخطاء واتِّهامات إلى كونها تصرُّفات صحيحة صائبة، أو على الأقلِّ اجتهادات وللمُخطئ فيها أجر، وحتى ما صحَّ من أخطاء فالقوم فيه معذرون، وخَطؤهم مغفور؛ فهل يجوز بعد ذلك أن نذكُر انحرافاتِهم على أساس أنَّ هذا من قول الحقِّ، ومن العمل بوصية النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فأين قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((دَعُوا لي أصحابي)) رواه أحمد (13812)، وقوله: ((لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي)) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2540)؟! بل أين قول الله تعالى في وصفهم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29] وغير ذلك كثير؟!
ويقول المؤلِّف (ص: 167): (وفي دراسة الخلافات السياسيَّة بين الصَّحابة رضي الله عنهم حريٌّ بالباحثين أن يتذكَّروا أثر التكلُّف في التأويل والتأوُّل في طمس معالم المبادئ الإسلاميَّة، وتمييع المعايير الشرعيَّة، وهو أمر يقود إلى استسهال الناس الإتيانَ بكلِّ الموبقات السياسيَّة، من قتْل الأنفس المحرَّمة، والاستبداد بالأمر، والإيثار والاستئثار بالسُّلطة والثروة، والتساهُل مع الظُّلم والبغي، وتجاهل قِيم الشُّورى والعدل في القَسم والحُكم.. إلخ بسبب التَّبرير الذي يقوم به البعضُ لأعمال بعض الأكابر والأصحاب، ممَّن استزَّلهم الشَّيطان في بعض المواقع، فلم يلتزموا بتعاليم الإسلام في بعض المواقف السياسيَّة).
نقول: نحن مع المؤلِّف في إنكار التكلُّف في التأويل، ولكن أفعال الصَّحابة الذين رضي الله عنهم، وأثنى عليهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واتَّفقت الأمَّة وأجمعت على عدالتهم وفضلهم لا تحتاج إلى هذا التكلُّف في التأويل، فقط فَهْم الأمور على وجهها الصَّحيح، كما فعل عثمان رضي الله عنه حينما وضَّح عُذره للذين ينقمون عليه؛ فالأموال التي ادُّعي عليه أنه يؤثِر بها أقرباءَه هي أموالُه الخاصَّة، وليست أموال الدَّولة، ومَن حَكم في ماله فما ظلم! وغير ذلك... حتى وإن تحقَّقنا الخطأ فيكفينا أن نقول: ولقد عفا الله عنهم؛ لشرف الصُّحبة، ولأنَّ للقوم فضائلَ وأعمالًا ليستْ لغيرهم!
ويقول في (ص: 139 - 140): (لقد درَج العديد من الأقدمين والمعاصرين على تفسير الفتنة بالعوامل الخارجيَّة، أعني نظرية التآمُر،مغفِلين أهمَّ العوامل التي سبَّبت الفتنة، وهي العوامل النابعة من أحشاء المجتمع الإسلاميِّ الأوَّل، وقد وجد هؤلاء في شخصيَّة عبد الله بن سبأ أحسنَ تفسير لما جرى... وكيف لعاقل أن يُصدِّق أنَّ الصَّحابة الذين بنَوا دولة الإسلام، وهزَموا أقوى الجيوش في العالم، وهدُّوا عروش كسرى وقيصر، يستطيع غِرٌّ يهوديٌّ التلاعُب بعقولهم لهذه الدَّرجة؟! ومع ذلك يوجد من يتبنى هذا الطَّرح بحسن نيَّة؛ خوفًا من مواجهة الحقيقة المُرَّة. لكن نظرية المؤامرة لا تستقيم، وكثيرًا ما يضطرُّ أصحابها إلى إعمال الخيال والافتراض لسدِّ الثغرات فيها. فبدلًا من تفسير حرب صفِّين بأسبابها الحقيقيَّة، وهي مطامح الملك لدى معاوية وعمرو، وتجاوزهما حدودَ الشَّرع في الدِّماء والجنايات في الطَّريقة التي طالبَا بها الأخْذ بدم عثمان، ثمَّ رفْضهما ما ارتآه أبو موسى الأشعريُّ من الصُّلح وتأمير عبد الله بن عمر، وخلع كلٍّ من عليٍّ ومعاوية، يحاول الكثيرون إيجاد عناصر متآمرة داخل المعسكرين هي المسؤولة عن كلِّ شيء).
نقول:
أولًا: أمَّا ما استبعده من التفسير بالعوامل الخارجيَّة، وإنكار دور ابن سبأ في الفتنة، وزعمه بأنَّ أهمَّ أسباب الفتنة العوامل النابعة من أحشاء المجتمع الإسلامي الأوَّل، فهذا خللٌ عقديٌّ ومنهجيٌّ، وذلك من وجوه
أولها: أنَّ في هذا اتِّهامًا للمجتمع الإسلاميِّ الأوَّل بأنَّ الفتنة نبعت من أحشائه، وهو مخالفٌ لقاعدة (استصحاب فضل الأصحاب)!
ثانيها: أنَّ هذا مخالف لما ثبَت في كتُب المحدِّثين والعلماء الذين اعتمَد منهجَهم المؤلِّف مِن ذِكر ابن سبأ وإثبات دَوره الخطير هو وأتْباعه في إحداث الفتنة، ومن ذلك قولُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة في ((الفتاوى الكبرى)) (1/ 71): (وكذلك كان ابن سبأ يهوديًّا، ففسد ذلك، وسعى في الفِتنة؛ لقصد إفساد الملَّة، فلم يتمكَّن، لكن حصل بين المؤمنين تحريشٌ وفتنة قُتل فيها عثمان رضي الله عنه، وجرى ما جرى من الفِتنة...)، والعجيب أنَّ المؤلِّف يستدلُّ بكلام آخَر لابن تيميَّة في موطن آخَرَ له وجهُه في ذلك الموطن، ثمَّ يقول (ص: 140): (لقد رأينا منذ قليل كيف فسَّر ابن تيميَّة مقتل عثمان رضي الله عنه بأسباب داخليَّة، كلُّها ترجع إلى تسيير الدولة، وما طرأ على المجتمع من مسالك وتطورات، دون أن يُشير من قريب أو بعيد إلى ابن سبأ أو غيره من العناصر الخارجيَّة)؛ فها هو ابن تيميَّة يصرِّح ويجزم - لا يُشير فقط - بدور عبد الله بن سبأ؛ فما قول المؤلِّف بعد ذلك؟!
ويُنظر أيضًا على سبيل المثال لا الحصر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/ 263)، و((الإصابة في تمييز الصحابة)) لابن حجر (1/ 63).
وإنكار المؤلِّف لهذا الأمر فيه طعنٌ على أمانة هؤلاء العلماء الذين اعتمدَهم هو في كتابه!
ثالثها: أنَّ ابن سبأ لم يُغرِّر بالصحابة الكرام، ولم يتلاعَب بعقولهم، إنَّما غرَّر بالأغمار من أهل مصر وغيرها، يوضِّحه:
رابعها: أنَّ في كلام ابن حجر - الذي نقله واستشهد به المؤلِّف نفسُه على نفي العوامل الخارجيَّة في الفِتنة - ما يدلُّ على ذلك؛ فليتأمَّل قول ابن حجر: (... إلى أنْ رحل أهل مصر يَشكُون من ابن أبي سرح، فعزله، وكتب له كتابًا بتولية محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق، فرضُوا بذلك، فلمَّا كانوا في أثناء الطريق رأَوا راكبًا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنَّه من عند عثمان باستقرار ابن أبي سرح ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب ورجَعوا وواجهوه به، فحلف أنَّه ما كتب ولا أذِن، فقالوا: سلِّمنا كاتبَك، فخشي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مَرْوان بن الحَكَم، وهو ابن عمِّه، فغضِبوا وحصروه في داره...)؛ نقول: فمن هذا الراكب الذي ألَّب أهل مصر بعدما رضُوا، وغرَّر بهم، وتلاعَب بعقولهم، وأوقع الفِتنة؟! أهو نابع من أحشاء المجتمع الإسلاميِّ الأوَّل؟! أم هو عنصر خارجيٌّ متآمر غرَّر بأهل مصر الذين لم يتثبَّتوا وكان من أمرهم ما كان؟!
ثانيًا: تعقيبًا على قول المؤلِّف (خوفًا من مواجهة الحقيقة المُرَّة)، وزعمه أنَّ الأسباب الحقيقيَّة لحرب صفين (هي مطامح المُلك لدى معاوية وعمرو، وتجاوزهما حدود الشَّرع...).
نقول: ليست هناك بحمد الله تعالى في المجتمع الإسلاميِّ الأوَّل حقيقة مرَّة يُخشى من مواجهتها، ولكنَّها حقيقة ناصعة تشهد بفضلهم، وعلوِّ منزلتهم عند ربِّهم، ولكن لمن يفهم الأمور على وجهها الصَّحيح، وليستْ أسباب حرب صفِّين (هي مطامح الملك لدى معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما)، وهما لم (يتجاوزَا حدود الشرع في طريقة طلبهم بدم عثمان رضوان الله عليه)، بيان ذلك من كلام العلماء والمحدِّثين الذين تبنَّى المؤلِّف منهجهم وغفَل عنه ما يأتي:
قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (10/ 492): (... وطلب معاويةُ عمرَو بن العاص ورؤوس أهل الشَّام فاستشارهم، فأبوا أن يُبايعوا حتى يَقتُل [عليٌّ رضي الله عنه] قَتَلَةَ عثمان، أو أن يُسلم إليهم قَتلةَ عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلَهم عن آخرهم...).
وقال ابن حجر في فتح الباري (1/ 542): (فإن قيل: كان قتْلُه [عمار] بصفِّين وهو مع عليٍّ، والذين قتلوه مع معاويةَ، وكان معه جماعة من الصَّحابة؛ فكيف يجوز عليهم الدُّعاء إلى النار؟ فالجواب: أنَّهم كانوا ظانِّين أنَّهم يَدْعون إلى الجنَّة، وهم مجتهدون لا لومَ عليهم في اتِّباع ظنونهم، فالمراد بالدُّعاء إلى الجنة الدُّعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة عليٍّ، وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدْعون إلى خِلاف ذلك، لكنَّهم معذورون للتأويل الذي ظهَر).
وقال أيضًا (13/ 288): (حُجَّة عليٍّ ومن معه ما شُرِع لهم من قتال أهل البغي، حتى يرجعوا إلى الحقِّ، وحُجَّة معاوية ومن معه ما وقع من قتْل عثمان مظلومًا، ووجود قتلته بأعيانهم في العَسكر العراقيِّ، فعظمت الشُّبهة حتى اشتدَّ القتال وكثُر القتل في الجانبين إلى أن وقع التَّحكيم، فكان ما كان...).
وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 140): (جاء أبو مسلم الخولانيُّ وأناس إلى معاوية، وقالوا: أنت تُنازِع عليًّا، أم أنت مثلُه؟فقال: لا والله، إنِّي لأعلم أنَّه أفضلُ مني، وأحقُّ بالأمر منِّي، ولكن ألستُم تعلمون أنَّ عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمِّه، والطَّالب بدمه، فائتوه، فقولوا له، فليدفعْ إليَّ قتلة عثمان، وأسلِّم له. فأتوا عليًّا، فكلَّموه، فلم يَدفعْهم إليه) [قال المحقِّقون: رجاله ثقات].
ولم نذكرْ كلام شيخ الإسلام هنا - وهو كثيرٌ ومحكَم؛ لأنَّ المؤلِّف أنكر عليه حينما تأوَّل لمعاويةَ ومَن معه ووصفه بالاضطراب والتكلُّف في التأويل، بخلاف التأوُّل للسَّابقين في حرب الجمل الذي كان له مسوِّغاته، وسيأتي مزيد بيان لهذه النُّقطة فيما يلي..
وأمَّا ما زعمه المؤلِّف من كون الصحابة (معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما) الذين قاتلوا عليًّا رضي الله عنهم جميعًا (تجاوزا حدود الشَّرع في الدِّماء والجنايات في الطريقة التي طالبَا بها الأخذ بدم عثمان...)، وقد كرَّر ذلك أيضًا عن أهل الجمل قائلًا (ص: 191): (فخرج عليه أهلُ الجمل، وهم نفرٌ من الأكابر ساءَهم مقتل الخليفة الشهيد، واستعجلوا أمرَهم دون التزام ما يلزم من إجراءات جنائيَّة شرعيَّة تقتضي رفْع الدعوى من طرف أولياء القتيل، والتقاضي لدى السُّلطة الشرعيَّة، ثمَّ خرج على الخليفة الراشدأهلُ الشام، وهم قوم مزَجوا شُبهة مقتل الخليفة الشهيد بشهوةِ المُلك ومطامح الدُّنيا...).
فلسْنا في حاجة لإطالة الردِّ على هذا ونقلِ كلام أهل العلم في ذلك، ويكفي من ذلك أنَّ عليًّا رضي الله عنه لم ينكر عليهم تلك المطالبة، ولا قال لهم: أنتم لستم أولياء للمقتول، بل اعتذر عن ذلك بأنَّه لا يقدِر على ذلك الآن؛ لأنَّ وراءَهم مَن وراءهم، وكان ما كان من غير إرادتهم، كذلك قول ابن عبَّاس رضي الله عنهما - وكان مع عليٍّ رضي الله عنهم -: (لو لم يطلب الناسُ بدَم عثمان، لرُموا بالحجارة من السَّماء). قال ابن كثير: وقد رُوي من غير هذا الوجه عنه. ((البداية والنهاية)) (10/ 332).
والمؤلِّف هنا يُسوِّي بين أهل الجمل وأهل صفِّين في مخالفة حدود الشَّرع في تلك المطالبة،. ويُضيف اتِّهامًا خطيرًا، وانتقاصًا مكررًا لأهل الشَّام (معاوية وعمرو بن العاص ومن معهم)، ويطعن في نيَّتهم بأنَّهم (مزجوا شُبهة مقتل الخليفة الشَّهيد بشهوة الملك ومطامح الدُّنيا) وقد سبق الردُّ على هذا.
ومن المؤاخذات على المؤلِّف في هذه المسألة أيضًا قوله (ص: 206): (فإذا كان سعد [بن عُبادة] غيرَ منزَّه عن الهوى، وعليٌّ غير منزَّه عن التأوُّل في الدِّماء، وعثمان غير منزَّه عن التأوُّل في الأموال بحسب تحليل ابن تيميَّة.. فلماذا لا نعترف أنَّ معاويةَ وعَمرًا غير منزَّهين عن مطامح الملك، ولدينا من الدَّلائل على ذلك كثير؟!).
وهذه العبارة التي فيها انتقاصٌ للصَّحابة الكرام عقَّب بها المؤلِّف على نقْلٍ نقلَه لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، واستنتج منه ما وصل إليه، وألْقى باللَّائمة على ابن تيميَّة ووصَفه بأنَّه اضطرب إذ تأوَّل لفِعل معاويةَ ومَن معه، و(لم يتأوَّل للخليفتين الرَّاشدين عثمان وعليٍّ، وصرَّح بأنَّ كلًّا من عثمان وعليٍّ ترخَّص بعض الترخُّصات، وعمِل ما لا يُقتدى به فيه)، (وكان حريًّا بابن تيميَّة هنا أن يعترف - كما فعل دائمًا - بالطبيعة المركَّبة للفتنة، وباختلاط الشُّبهات والشَّهوات فيها، ويَقبل أنَّ دوافع معاوية وعمرو لم تكن مجرَّد شُبهة الاقتصاص للخليفة الشَّهيد، بل خالطتْها شهوةُ الملك وحبُّ الدُّنيا) - كما يقول المؤلِّف.
نقول: هذا الكلام، وهذا التَّحليل، وهذا الاتِّهام خطأ من وجوه:
أوَّلها: أنَّ هذا الكلام مخالفٌ أيضًا لقاعدة (استصحاب فضل الأصحاب)، مع أنَّه لا يقول بعصمة الصَّحابة أحدٌ من أهل السُّنة قاطبة، إلَّا أنَّ هذا الذي ذكر مخالفٌ لما عُرف من فضلهم وتحرِّيهم وخوفهم من الله عزَّ وجلَّ، فلو صحَّ أنَّ تحليل كلام المؤلِّف لكلام ابن تيميَّة على وجهه، لقلنا: لقد أخطأ ابن تيميَّة في هذا؛ فمقام الأصحاب أرفعُ من مقام مَن جاء بعدهم، خصوصًا الخلفاء الرَّاشدين!
ثانيها: أنَّ تأمُّل السِّياق الذي تكلَّم فيه شيخ الإسلام عن تأوُّل عثمان وعليٍّ لا يوهم انتقاصًا لهما، وذِكر نصِّه بسياقه ولحاقه، والتعقيب عليه يطول؛ فلينظر وليتأمَّل في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 23)، وفضلًا عن أنَّ هذا التأوُّل أصلًا ليس عيبًا يُنزَّه عنه الأصحاب، بل هو اجتهادٌ كما صرَّح بذلك شيخ الإسلام، وقد كان عليٌّ رضي الله عنه مُسدَّدًا موفَّقًا، وهو أَوْلى الطائفتين بالحقِّ، وهو مجتهد له أجران، وأمَّا تأوُّل عثمان رضي الله عنه في الأموال - إن صحَّ أنَّه تأوَّل أصلًا؛ لأنَّه ثبت أنَّه يُعطي أقرباءَه من ماله الخاص لا من مال المسلمين العامِّ كما مرَّ - فيقال فيه ما قيل في حقِّ تأوُّل عليٍّ رضي الله عنه. أمَّا الزعم بأنَّ (دوافع معاوية وعمرو لم تكن مجرَّد شبهة الاقتصاص للخليفة الشَّهيد، بل خالطتها شهوة الملك وحب الدنيا) فهذه منقصةٌ ظاهرةٌ واضحةٌ، نبرأ إلى الله عزَّ وجلَّ أن يتَّصف بها أحد من هؤلاء، وقد ذَكرنا من كلام المحدِّثين والعلماء ما يَنفي ذلك، ومن كلام معاويةَ نفسه بنقل الذَّهبي وابن كثير، فضلًا عمَّا ثبَت في حقِّ معاوية وعمرو بن العاص من فضل في الإسلام والجِهاد..
ومن المؤاخذات المنهجيَّة:
أنَّ المؤلِّف نصَّ على أنَّه اعتمد في منهجه في هذا الكتاب على تُراث شيخ الإسلام ابن تيميَّة وأقواله وتحليلاته في كتُبه عمومًا، وفي كتاب ((منهاج السُّنة النبويَّة)) خصوصًا، كما أنَّه اعتمد على منهج المحدِّثين، وخُصوصًا الذهبي وابن كثير وابن حجر، وذكر أسباب ذلك في مدخل الكتاب ومقدِّمته، ولن نناقشه في تلك الأسباب والدَّواعي.
وبالتأمُّل في الكتاب وآراء المؤلِّف نجد خَللًا واضحًا في المنهج الذي تعامل به المؤلِّف مع شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ فأحيانًا ينسُب إليه أمورًا لا تصحُّ نسبتُها إليه، وأحيانًا يَفهم من كلامه غيرَ مراده، وأحيانًا يُحلِّل كلامه بما يخالف كلامَ الشَّيخ وآراءه المشهورة عنه، كما أنَّه غفَل كثيرًا عن منهج المحدِّثين الذي اعتمد عليهم، بل أتى بما يُناقض آراءَهم صَراحةً، وقد مضى معنا أمثلةٌ لهذه الغفلة، وهذا الخَلل الواضح في الاستدلال، وسنذكر هنا أمثلةً أخرى مِن كلام المؤلِّف؛ ليتَّضح ذلك الخَللُ المنهجيُّ أكثرَ، ويتبيَّن وجه الحقِّ في المسائل التي عرَضها المؤلِّف على أنَّها آراء لابن تيميَّة:
المثال الأوَّل: قول المؤلِّف (ص: 46): (ولم يجعل ابن تيميَّة مسألة (الكف عمَّا شجر بين الصَّحابة) مسألة اعتقاديَّة - كما فعل بعض من لا يُميِّزون بين الوحي والتاريخ - وإنما بيَّن أن جماع الأمر كله هو العلم والعدل، فلا مانع عنده أن يخوض المسلم في ذلك (إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل، وإلَّا تكلَّم بما يعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعَا فيه أمره إلى الله).
الرد: نكتفي في الردِّ على هذا الزَّعم بنقل كلام شيخ الإسلام نفسه في العقيدة الواسطية التي هي زُبدة وخُلاصة لعقيدة أهل السُّنة والجماعة، وقد نصَّ فيها على أصولهم وطَريقتهم، ومنها قوله: (ويُمسكون عمَّا شجر بين الصَّحابة...)، وقوله في ((منهاج السُّنة النبوية)) (4/ 448): (ولهذا كان من مذاهب أهل السُّنة: الإمساك عمَّا شجر بين الصَّحابة)، وتفصيل هذه العبارة وشروط ذلك من كلام شيخ الإسلام يطول، فليراجع في مظانِّه.
المثال الثاني: قول المؤلِّف (ص: 73): (لقد بيَّن ابن تيميَّة جوانب الضَّعْف البشري هذه لدى العديد من الأكابر؛ فهو يُعلِّل امتناع عليِّ بن أبي طالب من بيعة الصِّدِّيق في الشُّهور الستَّة الأولى من خِلافته بأنَّ عليًّا (كان يريد الإمْرةَ لنفسه) [هامش: منهاج السنة 7/450]).
وقد كرَّر المؤلِّف هذا الزَّعم (أنَّ شيخ الإسلام يقول بأنَّ تأخُّر بيعة علي رضي الله عنه بسبب أنَّه كان يريد الإمْرة لنَفْسه) أكثرَ من مرَّة في كتابه، وبنَى عليه تحليلاتٍ كثيرة، كما في (ص: 81)، و(ص: 203).
الردُّ: وكلام المؤلِّف هذا خطأٌ من وجهين:
أوَّلهما: أنَّ ابن تيميَّة لم يقُلْ هذا أصلًا! وإنَّما ذكَر هذه الكلمة في سياق حديثه عن تخلُّف بيعة سعد بن عُبادة رضي الله عنه، وعنَى بمن يُريد الإمرة لنفسه سعدًا لا عليًّا رضي الله عنهما، وكلامه كاملًا كالتالي: (ولم يتخلَّف عن بيعته [يعني: الصِّدِّيق] إلَّا سعد بن عُبادة، وأمَّا عليٌّ وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس أنَّهم بايعوه، لكن تخلَّف؛ فإنَّه كان يُريد الإمرة لنفسه رضي الله عنهم أجمعين)، والضَّمير هنا عائد على سعد ابن عُبادة بلا ريب؛ فإنَّه الذي ذكر تخلُّفه، وهو يُعلِّل سبب تخلُّفه هذا. ويوضِّحه أكثر قول شيخ الإسلام في ((منهاج السنة)) أيضًا (1/ 536 - 537): (وأمَّا أبو بكر فتخلَّف عن بيعته سعد؛ لأنَّهم كانوا قد عيَّنوه للإمارة، فبقِي في نفسه ما يبقَى في نفوس البشر، ولكن هو مع هذا - رضي الله عنه - لم يعارضْ، ولم يدفع حقًّا ولا أعان على باطل.... ثم ذكَر حديث السَّقيفة، وفيه: أنَّ الصِّدِّيق قال: ولقد علمتَ يا سعدُ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال وأنت قاعد: ((قريشٌ ولاةُ هذا الأمر، فبَرُّ الناس تبَعٌ لبَرِّهم، وفاجرهم تبَعٌ لفاجرهم» قال: فقال له سعد: صدقتَ، نحن الوزراء، وأنتم الأمراء)) فهذا مرسل حسن، ولعلَّ حُميدًا أخذه عن بعض الصَّحابة الذين شهدوا ذلك، وفيه فائدةٌ جليلة جدًّا، وهي: أنَّ سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأوَّل في دعوى الإمارة، وأذعن للصِّدِّيق بالإمارة، فرضِي الله عنهم أجمعين)، ويُنظر كذلك (4/ 388)، و(8/ 330).
ثانيهما: أنَّ هذا الكلام إنْ صحَّ أنَّ شيخ الإسلام قاله - وحاشاه - فهو غير صحيح؛ إذ هو مخالفٌ لما عُرِف عن عليٍّ بن أبي طالب من فضل، وزهد وورع، يستحيل معه أن يطمع في الإمرة لنفْسه ويتخلَّف عن بيعة مَن اختاره المسلمون واعترف هو نفسه بفضله وأحقيَّته بالخلافة. وإنْ كان هذا يجوز أن يُقال عن سعد رضي الله عنه؛ لأنَّه عُيِّن للإمارة، ومع ذلك اعتذر عنه شيخ الإسلام ووضَّح أنَّه نزل عن مقامه الأوَّل في دعوى الإمارة، وأذعن للصِّدِّيق بالإمارة، وأمارات ذلك مذكورة في القصَّة - فلا يجوز أن يقال هذا بحال عن عليٍّ رضي الله عنه؛ لأنَّه دخول في النيَّات وحُكم على السَّرائر، وهو ما قعَّد المؤلِّف بالنهي عنه بقوله في القاعدة الأخيرة من كتابه (الحُكم بالظواهر والله يتولَّى السَّرائر)، وهو طعنٌ صريحٌ أيضًا مخالف لقاعدة (استصحاب فضل الأصحاب)!
المثال الثَّالث: قول المؤلِّف (ص: 195 - 196): (ومن مظاهر هذا الاضطراب والتكلُّف تَكرار ابن تيميَّة في (منهاج السنة) وغيره أنَّ معاوية لم يَسعَ إلى الخلافة في حياة عليٍّ، ولا نازع عليًّا الخلافة، وهو أحيانًا يُطلق، فيقول - مثلًا - متحدِّثًا عن عليٍّ: (.. ولا ادَّعى أحد قط في زمن خلافته أنَّه أحقُّ بالإمامة منه)، وأحيانًا يتحفَّظ بعض الشيء، فيصرِّح أنَّ منازعة معاوية لعليٍّ في الإمامة إنَّما حدثت بعد حُكم الحَكمين، فيقول: (... وكذلك معاوية لم يبايعْه أحد على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليًّا بايعه أحد على الإمامة، ولا تسمَّى بأمير المؤمنين، ولا سمَّاه أحد بذلك، ولا ادَّعى معاوية ولايةً قبل حُكم الحَكمين)، وكل هذا تكلُّف في التأوُّل، يناقض نصوصًا صحيحة صريحة).
ثم يقول المؤلِّف: (إنَّ الدلائل على مطامح الملك لدى معاوية أثناء الفتنة كثيرة وافرة، وهي كلُّها تدلُّ على أنَّ قصده من الخروج على الخليفة الرابع لم يكن مجرَّد الثأر للخليفة الثَّالث، بل كانت مطامح الملك حاضرةً في سعيه منذ أوَّل وهلة...)، ثم ذكر بعض النُّصوص التي يستدلُّ بها على ذلك الزَّعم الخاطئ، منها حديث البخاري في قصَّة التحكيم، ورسالة أبي موسى لمعاويةَ التي ذكرها الذَّهبي في ((السير)).
ثم قال في (ص: 203): (إنَّ كلَّ هذه النصوص تدلُّ على أنَّ معاوية سعى إلى الملك بالفعل وبالقول، وصرَّح بمطامحه في قيادة الأمَّة دون لبس. فالقول بعد ذلك: إنَّه لم يُنازِع عليًّا الخلافة ولا سعى إليها.. تكلُّف بارد، كان الأولى بشيخ الإسلام ابن تيميَّة أن يتنزَّه عنه).
الرد:
أولًا: أنَّ الذي ادَّعاه المؤلِّف على شيخ الإسلام من الاضطراب والتكلُّف غير مسلَّم له؛ فكلام شيخ الإسلام أصحُّ وأضبط، والنُّصوص التي استدلَّ بها المؤلِّف الشنقيطيُّ على طلب معاوية للخلافة كانت بالفِعل بعد حُكم الحَكمين، فما في البخاريِّ صريحٌ في أنَّه بعد حُكم الحَكمين، وكذلك صنيع الذَّهبي في ((السِّير))؛ إذ ذكر هذه الرِّسالة بعد ذِكر اختيار عليٍّ لأبي موسى في التَّحكيم، فصحَّ كلامُ شيخ الإسلام، وبطَل كلام المؤلِّف.
ويدلُّ على ذلك أيضًا قول ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (10/ 656): (وقد كانوا استفحل أمرُهم حين انصرف عليٌّ من صفِّين، وكان من أمر التحكيم ما كان، وحين نكَل أهلُ العراق عن قتال أهل الشَّام معه. وقد كان أهل الشام لما انقضت الحُكومة بدومة الجندل سلَّموا على معاوية بالخلافة، وقوِي أمرهم جدًّا).
وقول الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 140): (لمَّا بلغ معاوية هزيمة يوم الجمل، وظهور عليٍّ، دعا أهل الشام للقتال معه على الشُّورى، والطلب بدَم عثمان، فبايعوه على ذلك أميرًا غير خليفة).
ثانيًا: أنَّ اتِّهام المؤلِّف لمعاوية رضي الله عنه بأنَّ مطامح الملك حاضرة في سعيه منذ أوَّل وهلة، فيه وقوعٌ صريح فيما نهى العلماء عنه عند الحديث عمَّا شجر بين الصَّحابة، ومنهم ابن تيميَّة نفسُه، وهو التنقُّص من قدْر الأصحاب الكرام، وأنَّهم طلَّاب مُلك ودُنيا، وفيه مخالفة أيضًا لما قعَّده في المؤلِّف بقوله: (استصحاب فضل الأصحاب)؛ فأيُّ فضل يبقى، وأيُّ نقيصة أعظم من أن يُتَّهم الصحابيُّ الجليل بأنَّ دلائل مطامح الملك حاضرة لديه أثناء الفِتنة كانت كثيرة وافرة؛ فتُراق الدماء، ويُقتل أفاضل الأصحاب بسبب الملك؟! ولا أحسن من ردِّ شيخ الإسلام على المؤلِّف إذ يقول في ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 383): (ولم يكن معاويةُ قبل تحكيم الحَكمين يدَّعي الأمر لنفسه، ولا يتسمَّى بأمير المؤمنين، بل إنَّما ادَّعى ذلك بعد حُكم الحَكمين، وكان غيرُ واحد من عسكر معاوية يقول له: لماذا تقاتل عليًّا وليس لك سابقتُه ولا فضله، ولا صِهره، وهو أوْلى بالأمر منك؟ فيعترف لهم معاوية بذلك. لكن قاتلوا مع معاويةَ؛ لظنِّهم أنَّ عسكر عليٍّ فيه ظَلَمة يعتدون عليهم كما اعتدَوا على عثمان، وأنَّهم يقاتلونهم دفعًا لصِيالهم عليهم، وقتال الصَّائل جائز؛ ولهذا لم يبدؤوهم بالقتال حتى بدأهم أولئك...).
ومن المؤاخذات كذلك المفارقة بين القاعدة والأمثلة:
يخالف المؤلِّف القواعد التي قعَّدها هو في كتابه بذكر الأمثلة إما تحت القاعدة نفسها أو يخالف قاعدة عند الحديث عن قاعدة أخرى والتمثيل لها، كما رأينا ذلك في مخالفة المؤلِّف لقاعدة (استصحاب فضل الأصحاب) في كثير من المواطِن، وكمثال لمخالفة القواعد أيضًا: أنَّ المؤلف خالف قاعدته الأولى وهي (التثبت في النَّقل والرِّواية) فجاء في القاعدة السَّادسة (الإقرار بثِقل الموروث الجاهلي) (ص: 81) ليستدلَّ بأثر رواه عبد الرزَّاق، على أنَّ (معايير التنظيم الاجتماعي والسياسي ظلَّت مشوبةً عند كثيرين منهم [الأعراب] وعند بعض مسلمة الفتح - وحتى من السَّابقين أحيانًا - بشوائبِ الجاهليَّة، وكان ذلك سببًا من أسباب الفتن السياسيَّة والعسكريَّة التالية بين المسلمين)!
ونصَّ هذا الأثر مع تعقيب المؤلِّف عليه كالتالي: (ومن أمثلة ذلك ما رواه عبد الرزَّاق (لما بُويع لأبي بكر رضي الله عنه جاء أبو سفيان إلى عليٍّ، فقال: غلبكم على هذا الأمر أذلُّ أهل بيت في قريش، أمَا والله لأملأنَّها عليكم [كذا بزيادة عليكم، وليست كذلك فيما وقفنا عليه في نسخة ((مصنَّف عبد الرزاق))] خيلًا ورجالًا» قال: فقلت: ما زلتَ عدوًّا للإسلام وأهله فما ضرَّ ذلك الإسلام وأهله شيئًا؛ إنَّا رأينا أبا بكر لها أهلًا). والظاهر أنَّ هذه المحاورة بين علي وأبي سفيان - إن صحَّت - جاءت متأخِّرةً عن بيعة عليٍّ للصِّدِّيق بعد ستة أشهر من خلافته، وإلَّا فإنَّ عليًّا اعترض على بيعة الصِّدِّيق ابتداءً، وإن كان من منطلق مختلف عن منطلق أبي سفيان) اهـ كلام المؤلِّف.
التعقيب:
أولًا: كيف يستشهد المؤلِّف على قاعدة خطيرة بأثَر هو نفسُه يشكُّ في صحَّته، ويقول: (إن صحَّ)؟! والأثر إسنادُه ضعيف.
ثانيًا: ثمَّ إنَّ هذا الكلام أيضًا فيه مخالفة لقاعدة (استصحاب فضل الأصحاب)؛ إذ يُظهر أبا سفيان معاديًا للإسلام وأهله حتى بعد إسلامه! والثابت أنَّ أبا سفيان قد حسُن إسلامه، وقد خرج مع جيش المسلمين بإمرة أبي بكر مجاهدًا في سبيل الله تعالى.
ثالثًا: أنَّ قول المؤلِّف (وإلَّا فإن عليًّا اعترض على بيعة الصِّدِّيق ابتداءً) مخالفٌ لقاعدة (اجتناب التكلُّف في التأول والتأويل)؛ لأنَّه تأويل متكلِّف لتلك الحادثة على فرْض صحَّتها؛ إذ لا نعلم تاريخها، ولا دليلَ على زعم المؤلِّف أنَّ عليًّا اعترض على بيعة الصِّدِّيق ابتداءً، بل الدليلُ على خِلافه كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/ 495): (وقد تمسَّك الرافضة بتأخُّر عليٍّ عن بيعة أبي بكر إلى أن ماتت فاطمة، وهذيانهم في ذلك مشهور، وفي هذا الحديث ما يدفع في حُجَّتهم، وقد صحَّح ابنُ حبَّان وغيرُه من حديث أبي سعيد الخدريِّ وغيرِه: أنَّ عليًّا بايع أبا بكر في أوَّل الأمر، وأمَّا ما وقع في مسلم عن الزهريِّ: (أنَّ رجلًا قال له: لم يبايع عليٌّ أبا بكر حتى ماتتْ فاطمة؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم)، فقد ضعَّفه البيهقيُّ بأنَّ الزهريَّ لم يسنده، وأنَّ الرِّواية الموصولة عن أبي سعيد أصحُّ، وجمع غيره بأنَّه بايعه بيعةً ثانية مؤكِّدة للأولى؛ لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث - كما تقدَّم، وعلى هذا فيُحمل قول الزهري لم يبايعه عليٌّ في تلك الأيَّام على إرادة الملازمة له، والحضور عنده، وما أشبه ذلك؛ فإنَّ في انقطاع مثله عن مثله ما يُوهِم مَن لا يعرف باطنَ الأمر أنَّه بسبب عدم الرِّضا بخلافته، فأطلق مَن أطلق ذلك، وبسبب ذلك أظهر عليٌّ المبايعةَ التي بعد موت فاطمة عليها السلام لإزالة هذه الشُّبهة). ولا يُعكِّر عليه ما ذكَره المؤلِّف من تساهُل ابن حبَّان في التَّصحيح، فقد أقرَّه ابن حجر على صحَّة هذا التَّصحيح، ونسبه لغيره أيضًا، واحتجَّ له بتضعيف البيهقيِّ للرواية المعارضة له عن الزُّهري، بل ذكَر أنَّ غيره جمع بين الرِّوايتين.
رابعًا: أنَّ هناك أمرًا غريبًا كيف لم يتنبه له المؤلِّف؟! فقد ساق بعد هذا الأثر كمثال ثانٍ على قاعدة (الإقرار بثقل الموروث الجاهلي) (ص: 82) أثرًا آخَر، وفيه: أنَّ خالد بن سعيد حين ولَّاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اليمن، قدِم بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتربَّص ببيعته [أبي بكر] شهرين، يقول: قد أمَّرني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ لم يعزلْني حتَّى قبضه الله عزَّ وجلَّ، وقد لقي عليَّ بنَ أبي طالب وعثمانَ بن عبد مناف، فقال: يا بني عبد مناف، طِبتم نفسًا عن أمركم يليه غيرُكم...إلخ، وقال المؤلِّف في الهامش [رواه الحاكم في المستدرك (3/279) وقال: صحيح على شرْط مسلم، ولم يخرجاه].
وواضحٌ في هذا الأثَر أنَّه يثبت أنَّ عليًّا رضي الله عنه - كغيره من الصَّحابة - طابت نفسه لولاية أبي بكر، وهذه الحادثة بعد شهرين فقط وليس بعد ستَّة أشهر؛ فليتأمَّل كيف جمع المؤلِّف بين المتناقضات؟!
ومن المؤاخذات كذلك:
تهويل المؤلِّف من أخطاء ما سمَّاه (مدرسة التشيُّع السُّني)، ويعني به ابن العربي المالكي، وتلامذته المعاصرين على حدِّ تعبيره، كمحب الدين الخطيب وغيره، في الفصل الذي عقده للحوارات مع مدرسة التشيع السني في آخر كتابه، مع تناسي الدَّور الكبير الذي قاموا به في مواجهة انحراف الروافض، ومَن لفَّ لفَّهم، مع أنَّ الله تعالى يأمر بالعدل، وقد أثْنى المؤلِّف كثيرًا على ما يتَّصف به شيخُ الإسلام ابن تيميَّة من العدل والإنصاف؛ فهل من العدل أن تُذاع أخطاء هؤلاء الأعلام الذين اشتهروا في الأمَّة بالخير، ويُشنَّع عليهم، دون مراعاة لظروفهم وطبيعة عصرهم الذي تَسلَّط فيه أهلُ البدع من الروافض، ودون أدْنى إشارة إلى ما قاموا به في الردِّ على الكَذِب الصُّراح، والافتراءات الكاذبة على خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين، وهم صحابة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنهم أجمعين؟!
وختامًا: نقول للمؤلِّف ولمن دار في هذا الفلك، واقتنع بفِكرة نشْر ما جرى للصَّحابة رضي الله عنهم: ماذا جنَتِ الأمَّة من نشْر ما جرى من أخطاء مزعومة متوهَّمة لخير جيل عرفتْه البشريَّة، والذين شهِد لهم الله تعالى بأنَّهم خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، وشهِد لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّهم خير النَّاس؟! لا تجني إلَّا احتقار الأفاضل، وفُقدان الثِّقة في الأماثل، وانعدام القُدوة في الأماجِد!
ونقول له: ألَا يَسعُنا ويَسعُك ويَسع جميعَ الدارسين والمحلِّلين والمعتبرين قولُ عمر بن عبد العزيز، والإمامِ أحمد، وغيرِ غير واحد من السَّلف عمَّا جرى بين عليٍّ ومعاويةَ رضي الله عنهما: (تلك دماء طهَّر الله منها يدي، فلا أحبُّ أن أخضبَ بها لساني)، وأنَّ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، كما في ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 254) و((البداية والنهاية)) (11/ 427)؟!
وقولُ مَن اعتمدتَه منهجًا في دراستك وهو ابن تيميَّة عن أهل السُّنة قاطبةً: أنَّهم (يقولون: إنَّ هذه الآثار المرويَّة في مساويهم؛ منها ما هو كذب، ومنها ما قد زِيد فيه ونُقص، وغيِّر عن وجهه، والصَّحيح منه: هم فيه معذورون؛ إمَّا مجتهدون مصيبون، وإمَّا مجتهدون مخطِئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أنَّ كلَّ واحد من الصَّحابة معصومٌ عن كبائر الإثم وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذنوب في الجُملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرةَ ما يصدُر منهم - إنْ صدر - حتَّى إنَّه يغفر لهم من السِّيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأنَّ لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبَت بقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّهم: ((خير القرون))، وأنَّ ((المُدَّ مِن أحدهم إذا تصدَّق به كان أفضلَ من جبل أُحُد ذهبًا ممَّن بعدهم))، ثم إذا كان قد صدَر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، الذي هم أحقُّ النَّاس بشفاعته، أو ابتُلي ببلاء في الدُّنيا كُفِّر به عنه. فإذا كان هذا في الذنوب المحقَّقة؛ فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم؟! ثمَّ القدْر الذي يُنكر من فعل بعضهم قليلٌ نَزرٌ مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصَّالح) ((متن العقيدة الواسطيَّة)) (ص: 120 - 121)، وهو في ((مجموع الفتاوى)) (3/ 155).
والله الموفِّق وهو الهادي إلى سواء السَّبيل، ونسأله سبحانه أن يجعل لنا نصيبًا من قوله عزَّ مِن قائل: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق