فهمي هويدي
فوجئ صديقي الأستاذ الجامعي المخضرم بأن السفير السابق الذي يلتقيه كل صباح في النادي الرياضي ويتجاذب معه أطراف الحديث أثناء المشي، أشاح بوجهه عنه وتجاهله. وفهم أن تلك الخصومة من آثار حوار جرى بينهما في اليوم السابق. انتهى باختلافهما حول الدكتور محمد مرسي وما جرى معه وله.
لم أفاجأ، لأننى صرت أسمع كل يوم عجبا في هذا الموضوع. الشاب الذي فسخ خطوبته لذات السبب، والرجل الذي طلق زوجته، والشقيق الذي قاطع شقيقه.
وطبيب القلب الشهير الذي سمع جلبة وصياحا في عيادته، وحين خرج ليستطلع الأمر اكتشف أن الجالسين اشتبكوا فيما بينهم لأن بعضهم ناصر الدكتور مرسي والبعض الآخر عارضه.
وكان أغرب ما سمعت ان مهندسا من عائلتي كانت له حقوق مالية لدى أحد عملائه، ولكن الرجل امتنع عن أدائه حقه. متعللا بعدم رضائه عما اكتبه عن موقف قيادة الجيش إزاء الدكتور مرسي!
القصص التي من ذلك القبيل كثيرة، لدرجة انني ما أصبحت التقى أحدا إلا وروى لى بعضا منها، حتى أزعم أننا بصدد ظاهرة عامة تعيشها مصر بعد الثورة، تعمق فيها الاستقطاب والخلاف السياسي، مما خلف حالة من المرارة والكراهية لدى المعسكرين المتنازعين، حتى أصبح كل طرف مشغولا بإقصاء الطرف الآخر وإلغائه من الحياة السياسية، على نحو يذكرنا بأجواء ثلاثينيات القرن الماضي حين انقسمت مصر في موضوع مفاوضات الجلاء بين سعد زغلول وعدلي يكن (كل منهما «باشا») ــ حتى انتشرت حينذاك مقولة إن الاحتلال على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلي،ليست المشكلة في الاختلاف أو حتى الانقسام، فذلك مما تشهده وتحتمله الممارسات الديمقراطية في أي مكان في العالم. ولكن المشكلة تكمن في تحول الخلاف إلى شقاق وكراهية تؤدي إلى تمزيق الأواصر وتشويه العلاقات الإنسانية بما يجعل الناس أكثر قسوة وأقل إنسانية وأبعد ما يكونون عن المودة والتراحم.
أزعم أن ذلك أمر طارئ وعابر في مصر، وأتصور أن ثمة فريقا ثالثا بين الفريقين المتصارعين، لا هو متحمس للدكتور مرسي ولا هو مؤيد للانقلاب أو لقيادة الجيش، وإنما هو يضم ملايين من الذين يريدون أن يعيشوا بعيدا عن السياسة في سلام وأمان، وهم مشغولون بلقمة العيش ومواجهة أعباء الحياة وليسوا معنيين كثيرا بصراعات أهل السياسة في القاهرة.
مع ذلك فلا يستطيع أن ينكر أحد أن قطاعات أخرى واسعة من المصريين أصبحت منخرطة في السياسة بصورة أو أخرى. وهؤلاء صوتهم عال وجرأتهم لا سقف لها. وهم الذين يهيمنون على الفضاء المصري الآن، وحشودهم تتوزع على الجانبين المتعاركين. وهؤلاء ضحايا رياح الكراهية المسمومة التي هبت على مصر وفعلت ما فعلته في تمزيق أواصر الناس وتراجع منسوب الإنسانية في معاملاتهم.
السؤال الذي تستدعيه هذه الخلفية هو: ما الذي جرى للمصريين حتى تم تشويههم إلى ذلك الحد؟
ناقشت الدكتور علي ليلة أستاذ علم الاجتماع المسألة. ومما قاله ان الجماهير المصرية كانت لها طموحات كثيرة بعد الثورة، ولكن الأداء السيئ للرئاسة والحكومة أصابها بإحباط شديد أثار غضبها ونقمتها.
أضاف أن الإخوان بدورهم لم يطوروا أفكارهم ولم ينجحوا في التواصل مع المجتمع الغاضب مما أسهم في تراكم الاحتقان. ساعد على ذلك ان المجتمع المدني المصري لم يكن مهيأ للتفاعل مع النخب الجديدة التي ظهرت في وجود الإخوان بالسلطة (السلفيون مثلا). فانضاف الخوف إلى الاحتقان. وهى المشاعر السلبية التي غذتها التعبئة الإعلامية التي لم تكفّ عن التشويه والتحريض طول الوقت، ووافقني على أن جموع المصريين الذين دخلوا إلى السياسة أفواجا بعد الثورة، بعدما اعتزلوها لأكثر من ثلاثة عقود هم أبرز ضحايا ذلك التسميم الإعلامي. إضافة إلى ان الجميع لم تكن لديهم خبرة بقيم ثقافة الاختلاف. وذلك يسري على النخب السياسية التي لم يتح لها ان تتحصل على تلك الخبرة بسبب الأجواء غير المديقراطية التي تشكلوا في ظلها.
لست أشك في ان المناقشة الأوسع للظاهرة بين أهل الاختصاص يمكن ان تضيف إجابات أخرى في تحليل تلك الظاهرة الشاذة والمحزنة. بما قد يساعدنا على ان نختلف دون أن يكره بعضنا البعض ونتقاتل، كي يصبح الاختلاف تعبيرا عن الحيوية والثراء، ولا يغدو نقمة أو لعنة تحل بالمجتمع فتنهكه وتبدد طاقاته وتورده موارد التهلكة. ذلك اننا نرجو للديمقراطية الوليدة ان تكون خطوة إلى الأمام وليس ردة إلى الوراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق