دعوة رسمية للانتحار الجماعى
وائل قنديل
ويلفت النظر هنا استخدام وصف «الشرفاء الأمناء» لمن سوف يلبون دعوة الفريق للانتحار، ما يعنى أنه يعلن رسميا تقسيم المواطنين إلى نوعين، الأول شريف وأمين ومعيار الشرف والأمانة هنا يتحدد حسب المسافة من القائد العسكرى، فمن يمنحه التفويض لمواجهة المعارضين له هو الشريف الأمين، ومن لا يفعل فهو من النوع الثانى، غير الشريف وغير الأمين، عدو الوطن، المنبوذ.
لقد أعادت دعوة الفريق إلى الأذهان ذكريات مؤلمة شهدتها مصر خلال عام ٢٠١١، حين لجأ المجلس العسكرى الحاكم لأول مرة لاستخدام مصطلح «المواطنون الشرفاء» والذى جرى إشهاره فى وجه القوى الثورية فى مناسبات عديدة سالت فيها دماء وفقئت عيون وتعمقت جراح، بدءا من موقعة العباسية الأولى، مرورا بماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء واستاد بورسعيد.
ولعلك تذكر دعوة التلفزيون الرسمى المتعسكر فى أحداث ماسبيرو، المصريين الشرفاء للنزول لحماية جيشهم من المتظاهرين الأقباط الأوغاد، بالطريقة ذاتها التى حرض بها المشير طنطاوى الشعب على الشعب فى مجزرة بورسعيد، «حين قال هو الشعب ساكت عليهم ليه» لتكتشف أن أحدث دعوة ليست غريبة عن سياق عام يقوم على اختطاف قطاعات من الشعب بعبارات تدغدغ غرائز الخوف والجوع ثم اطلاقها على بقية الشعب، وصناعة حالة من العداء بينهما.
غير أن المفارقة المدهشة هنا أن من كانوا ضحايا لهجمات «المواطنين الشرفاء» مدعوون الآن لكى يلعبوا دور الشرفاء فى مواجهة من كانوا يحمون الميدان معهم فى منعطفات ثورية خطيرة، أهمها على الإطلاق موقعة الجمل، بل أن منهم من يتقمص شخصية «الشبيح الليبرالى» ويهتف «فوضناك» بالطريقة ذاتها التى قالوا بها للمخلوع «اخترناك».
إن مصر كلها تواجه اليوم أعنف اختبار للأخلاق والإنسانية والقيم الثورية التى تجلت فى يناير ٢٠١١ وما تلاه.
وفى ظروف كهذه ليس مطلوبا من كل مواطن مصرى سوى الاعتصام بضميره وفطرته الإنسانية السوية قبل أن يتخذ قرارا بشأن هذه الدعوة إلى الجحيم ويسأل نفسه: هل من الوطنية والإنسانية فى شىء أن تُساق إلى مقتلة خصمك فيها هو ابن عمك أو جارك أو زميل سابق فى الدراسة أو العمل؟
إننا أمام وضع شديد الوضوح ينطق بأن مصر بكل ما فيها، من رئيس معين ومجلس وزراء معين ونخبة وشارع، رهن الإرادة العسكرية، إذ لا معنى لما ورد فى الخطاب على هذا النحو إلا أنه صاحب السلطات وساحبها ومصدرها، وموزعها ومعطيها.
ولعل أبرز ما يكشف عنه هذا الاستدعاء أن مشهد الثلاثين من يونيو وما قبله وما بعده كان صناعة رسمية بامتياز، ويثبت بما لا يترك فرصة للشك أن «الشعب» وفقا لهذه العقلية هو «شعب ٣٠ يونيو» فقط، وما دون ذلك هم خارج حظيرة الوطنية والإنسانية.
غير أن السؤال الأهم هنا: هل هناك حقا رئيس جمهورية ورئيس وزراء فى مصر؟
بوضوح أكثر : مصر دولة أم معسكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق