خيارات شاحبة للمستقبل في مصر
أخشى ما أخشاه أن تشحب خيارات المستقبل في مصر بحيث تصبح مفتوحة على السيناريوهات الثلاثة في مصر: الجزائري والروماني والتركي.
حدث ذلك في ظل حكم الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي شهد انفراجا سياسيا نسبيا في أعقاب الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد في العام 1988. لكن ذلك الفوز صدم قادة العسكر والأمن القابضين على السلطة والقرار في البلد منذ الاستقلال في العام 1961.
ضغط العسكر على الرئيس بن جديد فاضطر إلى الاستقالة في 11 يناير/كانون الثاني 1992.
وفي اليوم نفسه تولى العسكر السلطة، التي باشرها المجلس الأعلى للدولة برئاسة وزير الدفاع اللواء خالد نزار، الذي أطلق الدبابات في شوارع العاصمة، وأصدر قرارا بإلغاء نتائج الانتخابات في اليوم التالي مباشرة (12 يناير). وفي ذات الوقت صدرت عدة قرارات أخرى بحل جبهة الإنقاذ واعتقال 20 ألفا من أعضائها، وإيداعهم السجون وما سمى بالمحتشدات المقامة في قلب الصحراء الموحشة وهى الإجراءات التي أطلقت شرارة العنف في البلاد، الأمر الذى انتهى بقتل نحو ربع مليون جزائري، ولا تزال بعض جراح تلك العشرية السوداء مفتوحة حتى الآن، ولم يقدر لها ان تندمل.
استبعدت السيناريو الجزائري حين سئلت في الموضوع، وعزوت ذلك إلى عوامل عدة، منها ما يتعلق بطبيعة النظام وطبيعة المجتمع وجغرافية البلد، وطبيعة الحركة الإسلامية هناك.
حيث لا وجه للمقارنة بين نظام ما بعد 25 يناير في مصر والهيمنة التقليدية للجيش والأمن على الدولة الجزائرية، ثم إن الشخصية الجزائرية الصحراوية تتسم بالحدة وسرعة الانفعال، على عكس الشخصية المصرية التي تشكلت على ضفاف النيل. كما أنه لا وجه للمقارنة بين جغرافية الجزائر بأحراشها وغاباتها التي تعد مسرحا مواتيا لإطالة حرب العصابات، وبين جغرافية الأرض المصرية المنبسطة التي لا توفر ملاذا للمقاتلين.
إضافة إلى هذا وذاك فإن المد الإسلامي الحديث في الجزائر رغم عمقه التاريخي لم يتوافر له إطار تنظيمي إلا في أواخر الثمانينيات التي تشكلت فيها رابطة الدعوة ومن عباءتها خرجت جبهة الإنقاذ.
أعني أن الحركة الإسلامية هناك لم يتوافر لها إطار مؤسسي ولا تراث فكري يعبر عنها، على العكس من الوضع القائم في مصر، حيث يتجاوز عمر حركة الإخوان مثلا أكثر من ثمانين عاما.
لهذه الأسباب فإنني استبعدت احتمال تكرار تجربة الاقتتال الشرس الذي شهدته الجزائر في مصر، ورغم أنني لا أستبعد أن يولد عنف السلطة عنفا آخر من بعض الشباب الذين يتعذر السيطرة على انفعالاتهم، إلا أنني أرجح ان يظل ذلك في إطار محدود، قد يتبدى في بعض الحوادث التي لا تشكل ظاهرة مجتمعية. أو هكذا أتمنى.
فالخلفية واحدة بين مصر ورومانيا، فقوة الأجهزة الأمنية واستشراؤها كانت واحدة في البلدين، ذلك أن "السيكيوريتات" هناك لم تختلف كثيرا عن جهاز أمن الدولة في مصر.
وقد قيل إن بين كل أربعة رومانيين زرع الأمن واحدا على الأقل بينهم، وليست لدينا أرقام مماثلة في مصر، إلا أننا نعلم أن أذرع الأمن وأصابعه ظلت منتشرة وموزعة على كل مفاصل الدولة المصرية.
كما حدث في تونس وفي سوريا حين انطلقت شرارة الثورة من سيدي بوزيد في الأولى ودرعا في الثانية، ثم تناثرت شرارتها في أنحاء البلاد مطلقة ثورة الغضب ضد النظامين، فذلك أيضا ما حدث في رومانيا حين تمردت مدينة تيميشوارا تضامنا مع كاهن معارض طلبت السلطة إبعاده وطلب من الجيش إطلاق النار على المتظاهرين، ولكنه انحاز إلى الشعب الذي هب ثائرا ومتحديا لنظام شاوشيسكو الأمر الذي انتهى بإسقاطه وإعدامه.
إلا أن الفوضى عمت بعد ذلك حين خرجت المظاهرات وفوجئت بنيران الطرف الثالث (الذي ظهر واختفى في مصر ولم يعثر له على أثر حتى الآن) وتبين لاحقا أن أمن النظام السابق وفلوله وراء تلك الاضطرابات.
وفي هذه الأجواء ظهرت في الأفق جبهة للإنقاذ الوطني (أيضا)، التي برزت فجأة وقامت بتشكيل حكومة جديدة لإعادة النظام والهدوء إلى البلد، ثم تبين بعد ذلك أن أركان الجبهة وعناصرها هم أنفسهم رجال النظام السابق الذين ظلوا يراقبون الموقف عن بعد وهم قابعون في الظل.
وبعد أن أسهموا في تأزيم البلد من خلال أصابعهم المنتشرة في مختلف مواقع السلطة قدموا أنفسهم منقذين، وكانت النتيجة أن رجال النظام القديم استعادوا مواقعهم مرة ثانية.
وجاؤوا هذه المرة بتأييد من أغلبية الشعب التي وعدت بالاستقرار وإنعاش الاقتصاد.
وحاز الزعماء الجدد/القدامى على أغلبية الأصوات في السنوات التالية، ولا يزال هؤلاء يمسكون بدفة الحكم حتى الآن، في حين ظلت رومانيا على حالها الذي لم يتغير بعد نحو ربع قرن من إسقاط نظام شاوشيسكو الذي تسلمه "فلوله" واحتفظوا بأجهزته الأمنية وبإبقاء البلد في مكانه باعتباره ثاني أفقر دولة في أوروبا.
للوهلة الأولى يبدو السيناريو الروماني مستبعدا بدوره في مصر رغم قوة الأجهزة الأمنية التي لا تزال تحتفظ بولائها للنظام القديم. ورغم الجسور التي مدتها بعض قوى المعارضة السياسية مع ذلك النظام، ورغم وضوح الدور الذي تقوم به الدولة العميقة سواء في إشاعة الفوضى في البلاد أو في إثارة الأزمات التي تعكر حياة الناس.
واستبعادي لذلك السيناريو قائم على الثقة في جموع الشباب والجماعة الوطنية المصرية التي لم تنزلق فيما تورطت فيه بعض الأحزاب، فضلا عن كتلة الجماعات الإسلامية التي لا تزال تتمتع بثقل يتعذر تجاهله، وهي التي عانت من القمع والقهر طوال عهد مبارك.
أنوه في البداية إلى أن الجيش في تركيا له مكانة شديدة الخصوصية، من حيث إنه من أنقذ البلد من الاحتلال والانهيار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم إنه هو من أقام الجمهورية وطوى صفحة الإمبراطورية العثمانية، الأمر الذي يعني أن له أفضاله على سلامة المجتمع يتعذر نكرانها.
هذه الخلفية وضعته في مكانة الحارس للنظام الجمهوري ومبادئ العلمانية التي قام عليها النظام، وليس فقط الحارس لحدود البلد وأمنه، وبسبب النص على حراسته للنظام الجمهوري فإنه اعتبر نفسه وصيا على الدولة، ومن هذا الباب أجرى أربعة انقلابات (في السنوات 1960 و1971 و1980 و1997)، والأخير اعتبر انقلابا أبيض ووصف بأنه انقلاب "بعد حداثي"، سنتحدث عنه بعد قليل.
طيلة الوقت كانت ذريعة كل انقلاب هي الدفاع عن مبادئ النظام الجمهوري وتجنيب البلاد آثار الصراعات والانقسامات بين القوى السياسية، وبالتالي الاحتجاج على عجز الأحزاب عن إدارة البلاد والحفاظ على السلم الأهلي، ومنذ إقامة النظام الجمهوري في العام 1923 رعى العسكر ثلاثة دساتير صدرت في الأعوام 1924 و1961 و1982.
ورغم أنها ظلت تعبر عن الوصاية التي مارسوها بحق المجتمع، كان أخطرها الدستور الأخير الذي قنن تمكين العسكر من مختلف أجهزة الدولة ومفاصلها. بحيث بسطوا هيمنتهم كاملة على مختلف الأنشطة السياسية والإعلامية والقضائية والثقافية. ومن المفارقات أن جامعة إسطنبول منحت قائد الانقلاب العسكري الجنرال كنعان إيفرين باسم كل الجامعات التركية درجة الدكتوراه في القانون وأستاذية فخرية تقديرا لدوره في إنجاز العملية الديمقراطية بالبلاد!
هذا الوضع لم يستمر طويلا، لأنه ما أن أقر الدستور في العام 1982 حتى جرت في ظله انتخابات برلمانية في العام التالي مباشرة، أسفرت عن تراجع حزب السلطة (الديمقراطي الاجتماعي) وفوز حزب آخر أكثر اعتدالا (الوطن الأم) بالمركز الأول، الأمر الذي أدى إلى اهتزاز دور العسكر، الذين تراجعت أسهمهم في ظل الإقبال الكبير من جانب الجماهير على التصويت الذي تمثل في مشاركة أكثر من 92٪ من الناخبين في العملية.
ظل رئيس الحكومة الجديد تورجوت أوزال يعمل في ظل وصاية العسكر دون أن يصطدم بهم حتى انتخب رئيسا للجمهورية في سنة 1989. وخلال تلك الفترة كان قد رفع الحظر عن الزعماء السياسيين، واستعاد الإسلام السياسي حضوره في الشارع التركي ففاز مرشحوه في الانتخابات البلدية عام 1994 ثم في الانتخابات البرلمانية عام 1995.
ولأن حزب الرفاه الإسلامي تحالف مع حزب الوطن الأم، فقد مكن ذلك رئيس حزب الرفاه نجم الدين أربكان من تولي رئاسة الحكومة في العام 1979، وهو ما عدته المؤسسة العسكرية خطا أحمر غير مسموح بتجاوزه. فاستنفرت كل إمكانياتها لحصاره وإجهاض تجربته والعمل على إقصائه بمنتهى القسوة والشدة.
وكتاب الدكتور طارق عبد الجليل عن العسكر والدستور في تركيا يسجل هذه التجربة بالتفصيل، ويروي قصة الإقصاء كاملة، التي نسجت خيوطها الأخيرة في اجتماع لمجلس الأمن الوطني استمر تسع ساعات وجه فيه إنذارا وطلبات للسيد أربكان انتهت باستقالته من منصبه والانقضاض على كل ما فعله، بما في ذلك تطهير الجيش من المتدينين الذي يوصف في خطاب زماننا بالأسلمة أو الأخونة في قول آخر.
من أهم ما فعلته حكومة حزب العدالة والتنمية أنها قامت أخيرا بتفكيك قبضة الجيش على السياسة حتى أخرجته بصورة تدريجية من ساحة الفعل والقرار. ولم تكتف بذلك وإنما قدمت أخيرا مشروع قانون إلى البرلمان يحصر دور الجيش في صد أي عدوان خارجي على تركيا. وهو ما يعد ضربة قاضية تنهي سبعة عقود من حمايته لجمهورية أتاتورك وتذرعه بمسؤوليته عن حراسة نظامها السياسي.
من المفارقات أن ذلك حدث في نفس الأسبوع الذي أعلنت فيه قيادة الجيش في مصر قرارها عزل الدكتور محمد مرسي، قياما منها بواجبها الوطني وحماية لمطالب الثورة. وحين وجدت أن عسكر تركيا يخرجون من السياسة، في حين أن عسكر مصر يدخلون إليها في ذات الوقت، خطر لي السؤال التالي: هل يرشح ذلك مصر لشغل المقعد الشاغر، وكم سنة نحتاجها لكي نفك ذلك النحس؟
(1)
يسمونها العشرية السوداء في الجزائر. ويقصدون بها فترة التسعينيات التي كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد فازت خلالها بأغلبية 82٪ من المقاعد في الانتخابات التشريعية التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 1991.حدث ذلك في ظل حكم الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي شهد انفراجا سياسيا نسبيا في أعقاب الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد في العام 1988. لكن ذلك الفوز صدم قادة العسكر والأمن القابضين على السلطة والقرار في البلد منذ الاستقلال في العام 1961.
استبعد احتمال تكرار تجربة الاقتتال الشرس الذي شهدته الجزائر في مصر، ورغم أنني لا أستبعد أن يولد عنف السلطة عنفا آخر من بعض الشباب الذين يتعذر السيطرة على انفعالاتهم، فإنني أرجح أن يظل ذلك في إطار محدود |
وفي اليوم نفسه تولى العسكر السلطة، التي باشرها المجلس الأعلى للدولة برئاسة وزير الدفاع اللواء خالد نزار، الذي أطلق الدبابات في شوارع العاصمة، وأصدر قرارا بإلغاء نتائج الانتخابات في اليوم التالي مباشرة (12 يناير). وفي ذات الوقت صدرت عدة قرارات أخرى بحل جبهة الإنقاذ واعتقال 20 ألفا من أعضائها، وإيداعهم السجون وما سمى بالمحتشدات المقامة في قلب الصحراء الموحشة وهى الإجراءات التي أطلقت شرارة العنف في البلاد، الأمر الذى انتهى بقتل نحو ربع مليون جزائري، ولا تزال بعض جراح تلك العشرية السوداء مفتوحة حتى الآن، ولم يقدر لها ان تندمل.
استبعدت السيناريو الجزائري حين سئلت في الموضوع، وعزوت ذلك إلى عوامل عدة، منها ما يتعلق بطبيعة النظام وطبيعة المجتمع وجغرافية البلد، وطبيعة الحركة الإسلامية هناك.
حيث لا وجه للمقارنة بين نظام ما بعد 25 يناير في مصر والهيمنة التقليدية للجيش والأمن على الدولة الجزائرية، ثم إن الشخصية الجزائرية الصحراوية تتسم بالحدة وسرعة الانفعال، على عكس الشخصية المصرية التي تشكلت على ضفاف النيل. كما أنه لا وجه للمقارنة بين جغرافية الجزائر بأحراشها وغاباتها التي تعد مسرحا مواتيا لإطالة حرب العصابات، وبين جغرافية الأرض المصرية المنبسطة التي لا توفر ملاذا للمقاتلين.
إضافة إلى هذا وذاك فإن المد الإسلامي الحديث في الجزائر رغم عمقه التاريخي لم يتوافر له إطار تنظيمي إلا في أواخر الثمانينيات التي تشكلت فيها رابطة الدعوة ومن عباءتها خرجت جبهة الإنقاذ.
أعني أن الحركة الإسلامية هناك لم يتوافر لها إطار مؤسسي ولا تراث فكري يعبر عنها، على العكس من الوضع القائم في مصر، حيث يتجاوز عمر حركة الإخوان مثلا أكثر من ثمانين عاما.
لهذه الأسباب فإنني استبعدت احتمال تكرار تجربة الاقتتال الشرس الذي شهدته الجزائر في مصر، ورغم أنني لا أستبعد أن يولد عنف السلطة عنفا آخر من بعض الشباب الذين يتعذر السيطرة على انفعالاتهم، إلا أنني أرجح ان يظل ذلك في إطار محدود، قد يتبدى في بعض الحوادث التي لا تشكل ظاهرة مجتمعية. أو هكذا أتمنى.
(2)
استبعدت أيضا النموذج الروماني، رغم القواسم المشتركة بين ما جرى في رومانيا بعد الثورة التي اندلعت في العام 1989 وأدت إلى الإطاحة بحكم الرئيس شاوشيسكو وإعدامه هو وزوجته، وما شهدته مصر من أحداث في أعقاب ثورة 25 يناير.فالخلفية واحدة بين مصر ورومانيا، فقوة الأجهزة الأمنية واستشراؤها كانت واحدة في البلدين، ذلك أن "السيكيوريتات" هناك لم تختلف كثيرا عن جهاز أمن الدولة في مصر.
وقد قيل إن بين كل أربعة رومانيين زرع الأمن واحدا على الأقل بينهم، وليست لدينا أرقام مماثلة في مصر، إلا أننا نعلم أن أذرع الأمن وأصابعه ظلت منتشرة وموزعة على كل مفاصل الدولة المصرية.
كما حدث في تونس وفي سوريا حين انطلقت شرارة الثورة من سيدي بوزيد في الأولى ودرعا في الثانية، ثم تناثرت شرارتها في أنحاء البلاد مطلقة ثورة الغضب ضد النظامين، فذلك أيضا ما حدث في رومانيا حين تمردت مدينة تيميشوارا تضامنا مع كاهن معارض طلبت السلطة إبعاده وطلب من الجيش إطلاق النار على المتظاهرين، ولكنه انحاز إلى الشعب الذي هب ثائرا ومتحديا لنظام شاوشيسكو الأمر الذي انتهى بإسقاطه وإعدامه.
إلا أن الفوضى عمت بعد ذلك حين خرجت المظاهرات وفوجئت بنيران الطرف الثالث (الذي ظهر واختفى في مصر ولم يعثر له على أثر حتى الآن) وتبين لاحقا أن أمن النظام السابق وفلوله وراء تلك الاضطرابات.
وفي هذه الأجواء ظهرت في الأفق جبهة للإنقاذ الوطني (أيضا)، التي برزت فجأة وقامت بتشكيل حكومة جديدة لإعادة النظام والهدوء إلى البلد، ثم تبين بعد ذلك أن أركان الجبهة وعناصرها هم أنفسهم رجال النظام السابق الذين ظلوا يراقبون الموقف عن بعد وهم قابعون في الظل.
استبعادي لتكرار السيناريو الروماني قائم على الثقة في جموع الشباب والجماعة الوطنية المصرية التي لم تنزلق فيما تورطت فيه بعض الأحزاب، فضلا عن كتلة الجماعات الإسلامية التي لا تزال تتمتع بثقل يتعذر تجاهله |
وجاؤوا هذه المرة بتأييد من أغلبية الشعب التي وعدت بالاستقرار وإنعاش الاقتصاد.
وحاز الزعماء الجدد/القدامى على أغلبية الأصوات في السنوات التالية، ولا يزال هؤلاء يمسكون بدفة الحكم حتى الآن، في حين ظلت رومانيا على حالها الذي لم يتغير بعد نحو ربع قرن من إسقاط نظام شاوشيسكو الذي تسلمه "فلوله" واحتفظوا بأجهزته الأمنية وبإبقاء البلد في مكانه باعتباره ثاني أفقر دولة في أوروبا.
للوهلة الأولى يبدو السيناريو الروماني مستبعدا بدوره في مصر رغم قوة الأجهزة الأمنية التي لا تزال تحتفظ بولائها للنظام القديم. ورغم الجسور التي مدتها بعض قوى المعارضة السياسية مع ذلك النظام، ورغم وضوح الدور الذي تقوم به الدولة العميقة سواء في إشاعة الفوضى في البلاد أو في إثارة الأزمات التي تعكر حياة الناس.
واستبعادي لذلك السيناريو قائم على الثقة في جموع الشباب والجماعة الوطنية المصرية التي لم تنزلق فيما تورطت فيه بعض الأحزاب، فضلا عن كتلة الجماعات الإسلامية التي لا تزال تتمتع بثقل يتعذر تجاهله، وهي التي عانت من القمع والقهر طوال عهد مبارك.
(3)
بقي أمامنا النموذج التركي الذي أخشى أن يكون مرشحا للتطبيق في مصر، وفي الأفق إشارات لا ينبغي الاستهانة بها توحي بذلك، ما أعنيه بالنموذج التركي تحديدا هو أن يصبح الجيش عنصر القوة في الساحة السياسية، بحيث يمارس دوره ليس فقط في حماية الوطن ولكن أيضا في مراقبة الوضع السياسي الداخلي ومباشرة نوع من المسؤولية إزاءه.أنوه في البداية إلى أن الجيش في تركيا له مكانة شديدة الخصوصية، من حيث إنه من أنقذ البلد من الاحتلال والانهيار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم إنه هو من أقام الجمهورية وطوى صفحة الإمبراطورية العثمانية، الأمر الذي يعني أن له أفضاله على سلامة المجتمع يتعذر نكرانها.
هذه الخلفية وضعته في مكانة الحارس للنظام الجمهوري ومبادئ العلمانية التي قام عليها النظام، وليس فقط الحارس لحدود البلد وأمنه، وبسبب النص على حراسته للنظام الجمهوري فإنه اعتبر نفسه وصيا على الدولة، ومن هذا الباب أجرى أربعة انقلابات (في السنوات 1960 و1971 و1980 و1997)، والأخير اعتبر انقلابا أبيض ووصف بأنه انقلاب "بعد حداثي"، سنتحدث عنه بعد قليل.
طيلة الوقت كانت ذريعة كل انقلاب هي الدفاع عن مبادئ النظام الجمهوري وتجنيب البلاد آثار الصراعات والانقسامات بين القوى السياسية، وبالتالي الاحتجاج على عجز الأحزاب عن إدارة البلاد والحفاظ على السلم الأهلي، ومنذ إقامة النظام الجمهوري في العام 1923 رعى العسكر ثلاثة دساتير صدرت في الأعوام 1924 و1961 و1982.
ورغم أنها ظلت تعبر عن الوصاية التي مارسوها بحق المجتمع، كان أخطرها الدستور الأخير الذي قنن تمكين العسكر من مختلف أجهزة الدولة ومفاصلها. بحيث بسطوا هيمنتهم كاملة على مختلف الأنشطة السياسية والإعلامية والقضائية والثقافية. ومن المفارقات أن جامعة إسطنبول منحت قائد الانقلاب العسكري الجنرال كنعان إيفرين باسم كل الجامعات التركية درجة الدكتوراه في القانون وأستاذية فخرية تقديرا لدوره في إنجاز العملية الديمقراطية بالبلاد!
مجلس الأمن الوطني التركي عقد اجتماعا استمر تسع ساعات وجه فيه إنذارا وطلبات للسيد أربكان انتهت باستقالته من منصبه والانقضاض على كل ما فعله، بما في ذلك تطهير الجيش من المتدينين الذي يوصف في خطاب زماننا بالأسلمة أو الأخونة |
ظل رئيس الحكومة الجديد تورجوت أوزال يعمل في ظل وصاية العسكر دون أن يصطدم بهم حتى انتخب رئيسا للجمهورية في سنة 1989. وخلال تلك الفترة كان قد رفع الحظر عن الزعماء السياسيين، واستعاد الإسلام السياسي حضوره في الشارع التركي ففاز مرشحوه في الانتخابات البلدية عام 1994 ثم في الانتخابات البرلمانية عام 1995.
ولأن حزب الرفاه الإسلامي تحالف مع حزب الوطن الأم، فقد مكن ذلك رئيس حزب الرفاه نجم الدين أربكان من تولي رئاسة الحكومة في العام 1979، وهو ما عدته المؤسسة العسكرية خطا أحمر غير مسموح بتجاوزه. فاستنفرت كل إمكانياتها لحصاره وإجهاض تجربته والعمل على إقصائه بمنتهى القسوة والشدة.
وكتاب الدكتور طارق عبد الجليل عن العسكر والدستور في تركيا يسجل هذه التجربة بالتفصيل، ويروي قصة الإقصاء كاملة، التي نسجت خيوطها الأخيرة في اجتماع لمجلس الأمن الوطني استمر تسع ساعات وجه فيه إنذارا وطلبات للسيد أربكان انتهت باستقالته من منصبه والانقضاض على كل ما فعله، بما في ذلك تطهير الجيش من المتدينين الذي يوصف في خطاب زماننا بالأسلمة أو الأخونة في قول آخر.
(4)
ما حدث بعد ذلك استعاده بعض من علقوا على الانقلاب الأخير الذي حدث في مصر، حين شبهوا ما جرى للدكتور مرسي وفريقه على يد القيادة العسكرية المصرية بموقف عسكر تركيا من أربكان، وقارنوا بين عزل الأول وإجبار الثاني على الاستقالة. إلا أن ما حدث بعد ذلك كان أكثر أهمية، لأنه بعد خروج أربكان من السلطة، استوعب الدرس بعض رفاقه، وفي المقدمة منهم عبد الله غل ورجب طيب أردوغان، ومن ثم شكلا حزبا جديدا باسم العدالة والتنمية طورا به أفكارهما ومشروعهما، وخاضا به انتخابات العام 2002 التي فازا فيها بأغلبية كبيرة أوصلتهما إلى السلطة فصار الأول رئيسا للجمهورية والثاني رئيسا للوزراء، ولا يزال الحزب متمتعا بشعبيته ومواصلا إنجازاته إلى الآن.من أهم ما فعلته حكومة حزب العدالة والتنمية أنها قامت أخيرا بتفكيك قبضة الجيش على السياسة حتى أخرجته بصورة تدريجية من ساحة الفعل والقرار. ولم تكتف بذلك وإنما قدمت أخيرا مشروع قانون إلى البرلمان يحصر دور الجيش في صد أي عدوان خارجي على تركيا. وهو ما يعد ضربة قاضية تنهي سبعة عقود من حمايته لجمهورية أتاتورك وتذرعه بمسؤوليته عن حراسة نظامها السياسي.
من المفارقات أن ذلك حدث في نفس الأسبوع الذي أعلنت فيه قيادة الجيش في مصر قرارها عزل الدكتور محمد مرسي، قياما منها بواجبها الوطني وحماية لمطالب الثورة. وحين وجدت أن عسكر تركيا يخرجون من السياسة، في حين أن عسكر مصر يدخلون إليها في ذات الوقت، خطر لي السؤال التالي: هل يرشح ذلك مصر لشغل المقعد الشاغر، وكم سنة نحتاجها لكي نفك ذلك النحس؟
المصدر:الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق