الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي ..
رؤية مستقبلية وتقييمية (1/2)
د. محمد الأحمري
* عند الاحتجاج يوجد الشعب:
الحقيقة السياسية الغائبة في مجتمعات الخضوع هي: أن وجود الشعب إنما يولد بميلاد الاحتجاج، ويوجد فعلا بعد أن يصبح مشاركا في نتائج عمل ما مستمر، وهو ــ غالبا ــ المجتمع الذي تصنعه الثورة بعد انتصارها.
أما ما قبل ذلك فهو كيان عظيم؛ عبارة عن جسم بلا عقل ولا وعي، جسم غامض، وعاجز، وسهل التوجيه وخطر، وغنيمة باردة عظيمة لمن يسوقه؛ فقبل أن تقول الشعوب: لا ونعم لأي شي، فلا قيمة لها، ولا قيمة لها يوم تساق بالخدعة والنفاق والتزلف والإرهاب، فهي غائبة في تلك الأحوال، وهي مجرد أعداد لا أهمية لها، فهي بلا حرية ولا مشاركة ولا مبادرة؛ فلا توقف ظالما ولا تنصر مظلوما ولا تكافئ مصلحا ولا تعاقب مفسدا، وهي سلبية بلا طموحات، ولا رغبات عليا، والخلاصة: إنها موجودة غائبة.
وكان الطغاة والمحتالون يعاملون هذه الشعوب بالخداع، ويستعملون الأذكياء لكتابة الوصفات التي تحافظ عليه بدنا بلا وعي تابعا مخلصا لحاكمه، فكتب الثقافة السلطانية العربية والإسلامية ثم الميكافيلية غنية بوصفات الإخضاع، وكانوا يرون من يقوم بإرشاد المستبدين لسياستها طبقة خاصة تسهم في السياسة بما يشبه الكهانة.
هذه الجماهير يوم تهب لتتحرر ولتشارك في صناعة حياتها، فإن قلة منها تغير وجه البشرية، كانوا قد قالوا: 99% صوتوا لمبارك ولكن أقل من 1% غيروا مصير 99%، لقد كان الرقم المعلن كاذبا، وهبْه كان صحيحا، وأن 99% صوتوا بنعم وكانوا خائفين؛ فهم أقرب للعدم منهم للوجود.
فالقيمة الصحيحة إنما تكون حيث الاختيار، في تركيا صوت 49% لحزب العدالة وكان يرى ذاك انتصارا عظيما أنه صوّت له أقل من نصف الشعب من الأحرار ذوي القرار، وإن كان أكثر من النصف لم يؤيدوه، ولكن الجميع يخرج واثقا محترما للحزب الفائز بأقل من النصف من الناخبين، والعالم يحترم هذه النتائج الاختيارية ويعظم دورها.
وقد تبين أن جميع الشعب إن قال مستبد إنه معه فقد يكون هذا أكبر دليل على كذب المؤشر، فإجماع المرتشين أو الخائفين من السجن أو السوط أو الموت لا قيمة له فإن تلك الجموع إنما ذهبت للترشيح أجسادا ميتة بلا قناعة، ولذا لا قيمة لأصواتها المقهورة.
* لماذا تحصل الاحتجاجات؟
أحد الكتب التي تتحدث عن قضية خروج الناس للاحتجاج على أنها أمر غير طبيعي وغير مفهوم؛ لأن المظالم قد توجد عنيفة جدا ومع ذلك لا يتحرك هذا الإنسان، وقد تتضح الأسباب وتحصل الظروف ومع ذلك لا يحصل احتجاج، وقد تحدث أسباب بسيطة جدا وتنتج حركات كبيرة بناء على هذه المقدمات اليسيرة.
جاء في مقدمة الكتاب: "لزمن طويل ساور علماء الاحتجاجات الشكوك حول مدى استيعاب عقول الناس للأفكار الجادة، ونظرا لأن المظالم كانت دائما حاضرة لم يستطع العلماء تفسير تصاعد أو تراجع الحركات الاجتماعية"2.
الاحتجاج الشعبي يركب من كلمتين: احتجاج وشعبي، فأما الاحتجاج الفردي هو بضاعة الإنسان المضطهد اليومية، ممن لا يجدون وسيلة لتحقيق ضروراتهم، أو حاجاتهم، أو حتى كماليات حياتهم، وهو تعبير عن حاجة أو سخط أو طلب أو شهوة خاصة، وقد تنتج تحقيق طلب تغيير فردي، وقد ينفع فرديا أحيانا، يصبح ديدنا ولا يتوسع وبهذا يسيء للفرد، ويركز في المجتمع ثقافة البؤس ومزاج الحزن والاشتكاء والتلاوم الدائم، ولكنه محدود ونتائجه أنانية، وهو صغر في النفس والمجتمع، ويحرص المستبدون على جعل المطالب العامة خاصة وصغيرة ويحرمون الاحتجاج العام دائما؛ لأنه قد ينتج التغيير المطلوب.
لذا، فإن التغيير للأفضل لا يتم إلا في عمل مجتمعي، أي شريحة من المجتمع تنفر للإنقاذ، والاحتجاج الجزئي لأي قضية خاصة مستمر، ولكن الشعبي عندما يكون أمرا جامعا لقطاع واسع مؤثر يبلغ مداه عندما يغير السلطة والثقافة ويعيد ترتيب الاقتصاد وعلاقات المجتمع من داخله وخارجه.
وقد تكون الاحتجاجات مُعْدِيَة ويُستغرَب أحيانا قوة هذا المزاج الاحتجاجي العام المعدي بين الأمم؛ فهو ــ قديمًا ــ كان يؤثر بكثرة على المناطق المجاورة لمنطقة الاحتجاج بسبب طبيعة الأخبار والتواصل فيما مضى.
أما اليوم فكل العالم متقارب، من أمثلة العدوى الاحتجاجية قديما الثورة الفرنسية؛ فقد أثرت في مناطق كثيرة بأوروبا على الرغم من أن بعضها كان يتمتع بالكثير من الحريات مثل سويسرا، وكانوا يستغربون تأثرها بالثورة الفرنسية برغم توافر الاستقرار والحريات فيها، قد تنتقل هذه العدوى وهذا المزاج إلى مناطق أخرى.
وقد يكون السبب أو التأثير هو وجود المزاج العام والمؤثر الذي بدايته حقيقية في بلاد معينة، ثم يؤثر باتساع في مناطق أخرى لا تتوافر فيها الظروف نفسها التي سمحت أن يحدث في المناطق المجاورة، فقد وصل مزاج الثورة الفرنسية لمناطق عديدة تختلف ظروفها عن ظروف فرنسا مثل هولندا وغيرها.
وهذا يعيدنا إلى قضية الإنسان والحكم عليه نفسه؛ لأن الذين حاولوا على مدار التاريخ أن يوجدوا قوانين المجتمعات البشرية وحركات المجتمعات الإنسانية لثوراتها وخمودها لم يصلوا إلى قوانين نستطيع الوثوق بها والقياس عليها؛ فكثير من أحكامنا فيها مليئة بالحدس والقياس الذي قد لا يتحقق ولا ينطبق على أحوال أخرى، إلى جانب ذلك تلك الحقائق الاجتماعية المتفاوتة التي نزعم اتفاقها عندما تتطابق الأحداث مع التوقعات، أو نعيد التماس الفروق حين تختلف النتائج.
من سابق العصور وإلى العصر الحاضر، كان أكثر الأزمنة التي حاول الإنسان فيها أن يوجد قوانين علمية للحركة البشرية هو القرن التاسع عشر؛ لأن النهضة العلمية ساعدت الإنسان على المخترعات العلمية الطبيعية وقوانينها فأغرته أن بالإمكان أن يصل لقوانين تتحكم في الطبيعة البشرية وتنجح فيها، وتتحقق السيطرة على الإنسان.
ولكن كان الفشل ذريعا، والقسوة والضرر الكبير الذي وقع على الإنسان جاء من ثقته الكبيرة أن بإمكانه أن يصنع قوانين نهائية لحياته، وبالتالي فشلت القوانين العلمية في المجتمعات فشلا ذريعا حتى في قضايا الإدارة، ومن هنا جاءت النظريات التي تعيد الإنسان إلى إنسانيته، وتسهم في التخفيف من بؤس النظريات العلمية المسلطة عليه.
واستقرت بعد هذا الكثير من النظريات الإنسانية التي تقدر هذا الإنسان وتتعامل معه، وتعلم أنه هو في نفسه دائما يحتاج لمراجعة القوانين التي ينتجها، فما سماه “مسلمات” تحتاج دائما إلى مراجعة، فكما أن النظريات العلمية تحتاج إعادة زيارة من وقت لآخر، وتحقق وتدقيق وتخلص من قيودها أحيانا فمن باب أولى الجوانب البشرية.
ومنذ زمن قصير (بداية شهر 10/ 2011م) كانت حقيقة علمية أخرى تتعرض للنقد؛ ليست نظرية نيوتن ولا النظرية النسبية وحصارها بالنظرية الكمية، إنهم هذه الأيام يقولون: لم تعد سرعة الضوء كما كنا نظن ولا الضوء هو الأسرع، و اكتشفنا من المادة ما هو أسرع منه.
وكانت العلوم النظرية والتطبيقية تستفيد مرة وتتضرر أخرى من النظريات ففي أواسط القرن العشرين تخلصت بعض علوم الإدارة من هجمة “الإدارة العلمية” لتنتصر”الإدارة الإنسانية”، وكذا تراجعت النظرية القطعية التي سموها علمية في الاقتصاد والتاريخ والأعراق أمام نظريات أخرى -بعضها قديمة وبعضها ظهرت في منتصف القرن- وكان لها سمات إنسانية أو بقايا من نوازع دينية مثل نظريات “بوبر” و”توينبي”.
وقد كانت شهية المؤرخين –هم بالدرجة الأولى بسبب أقدمية هذا الفن أو العلم على غيره، ثم من بعدهم كثير من علماء في حقول عديدة- كبيرة أن يصنعوا قوانين، وكان كل منهم مولعا بنقض نظرية صاحبه، فكان جدلا ممتعا على مدار القرون الأخيرة، ثم جاءت الثورات كفرع من الموجات التاريخية لتطرب عشاق النظرية مرة أخرى لمزيد من النقاش عن شروط الثورات ومتى تحدث الثورات، ولماذا، وما هي ملامح أشخاصها، وما هي أفكارهم، بل وحتى الحديث عن أبدانهم وأقاليمهم والثقافات التي تهيجهم والبيئات التي تصنعهم.
فإذن هناك ظواهر تفصيلية لا تستطيع أن تلزم بها سلوك الإنسان، وهذا الأمر ينطبق على الثورات وعلى تحولات المجتمعات، إنه يمكن ملاحظة ظواهر ووضع مؤشرات، ولكن رحمة بعقلك وبتاريخ البشرية وإصرارك وحاجتك لا تضع قوانين صارمة تقيد أفق الفهم عندك، فقد تجد غير بعيد ما يكسر هذه القوانين التي بنيت عليها مسلماتك.
فمثلا عانى العراقي تحت حكم “صدام حسين” من مظالم كثيرة وهائلة، أو المجتمع السوري تحت حكم “حافظ الأسد”، ومع ذلك قد تنجح هذه المحاولات التحريرية وأحيانا لا تنجح، ولعل من الطريف أن متحدثا يقدم لحديثه بمقدمات تهدم ما سيتلوها، لا أريد هدم فكرتي في السياق القادم، ولكني أقدم أهمية كبرى لهذا الإنسان ووعيه أو غفلته تجاه دوره في حياته وما يحيط به، فحقيقة مسلمة جاهزة ومفيدة جدا، وشرط متوافر لا يعني الانتقال لما بعده، لأن ما وفر الشرط الأول قد لا يكون هو ما يحقق التالي.
* أسباب الاحتجاج:
1. المظالم الحاضرة في الوعي:
فالمظالم دائما موجودة في المجتمع البشري، ولكن القضية نسبية بين مظالم جائرة جدا تخرج الإنسان عن طور الكرامة الإنسانية إلى أن تنهي وجوده وكرامته، وبين جور يحتمله الإنسان على صعوبات متفاوتة، كما أن هذه المظالم ترتبط بمسألة وعيها وبثقافة المجتمع تجاهها، فقد ترتكب أفظع المظالم ولا يضعها مثقفو المجتمع في سياق المظالم، والوعي بالمظالم هو الذي يساعد في تحويل الأفكار والتوجهات إلى حركة في الشارع.
ففي حال وجود مظالم لم يوجد توعية بها وطرح مخارج منها فإنها قد تكون موجودة ولكن معمّى عليها، إلى أن يقدح الوعي بهذه المظالم ومعرفتها، ما لم يكن هذا؛ فإن المظالم التي لا يستشعرها المجتمع ولا يناقشها لا تحركه، ألا ترى أحيانا نفس المَظْلمة تحدث للشخص نفسه فيستنكرها في حال وعْيه بها، وكان سبق أن سكت عنها من قبل؟ وربما كانت الأولى أفظع، ولكن وعيه كان أقل أو العكس، انتكست حقوقه في زمن لم يك فيه ذا وعي فأصبح يقبل بالمظلمة، فحضور المظالم في الوعي أنها مظالم شرط في إمكان الاحتجاج.
2. تجريم السلطة للشكوى:
وهو أن تمنع السلطة المجتمع من أن يشتكي ومن أن يتحدث عن مشكلاته، فالشكوى تنفيس، وبعض الأنظمة تسمح بشيء من الشكوى ومن النقد لامتصاص المظالم، ولكن من أغلق الطريق وزاد الكبْت فجّره التيار ولو بالعنف، ووجود الوعي القادح مع المظالم المحرم نقاشها تجعل المجتمع على فوْهة بركان الانفجار، ولهذا كان أذكياء المستبدين يعرفون كيف يفتحون للمجتمع المقهور منافذ يصرف فيها شيئا من غضبه حتى لا يصل لحالة احتقان.
3. تجريم المعارضة:
يصر المستبد على أن يجعل المعارضة جريمة من جرائم المجتمع المقهور به، وبدلا من أن يكون للمعارضة الحق في الكلام فإن السلطة الفاسدة تجرّمها، أو تطاردها، أو تتهمها بما ليس فيها، ولأن السلطة تجمع عنصري الفساد (المال والقرار) فإن المعارضة الذكية تصبر، وتجمع رصيد السخط (الفساد المالي وأخطاء القرار) وتوعّي بهما، ثم تأتي اللحظة التي ينصبّ فيها السخط على المستبد، ويصبح الجرم كاملا منه، ويتجه التجريم والتهم كلها إلى السلطة، وتصبح هي وجه الجريمة الحقيقي، ويصبح الشعب المسلوب من المال والقرار كله يهتف باتهام المجرم الوحيد.
4. غياب الاحترام:
المال والسلطة تزرع في من يملكهما مرضا نفسيا وخلقيا قل من يتنبه إليه ممن غرق فيه، فيتوهم الكمال وربما ادعاه في كل شيء، حتى في بنيته الجسمية مقارنة بغيره –كان “ستالين” يلبس حذاء عاليا ويمنع أن يرافقه من هو أطول منه 3، وهذا الترفع والتسلط يتسرّب إلى جنود المستبد وموظفيه.
فيتوهّم أحدهم أنه فوق أن يُردَّ له قولٌ ولو أهان غيره بلا حق؛ مثل ما حدث مع “البوعزيزي” في تونس، فليس كل الناس يثورون بسبب الظلم ولا الفقر، ولكن لقوم منهم كرامة، وعزّة نفس يصعب قهرها، وإن تعرّضت يومًا للقهر صدعت برأيها، وعبّرت وهذا في ما يخص الفرد.
5. القهر العام:
حاجة المجتمع إلى الاحترام أساسية جدا، وبالتالي شعور المجتمعات المقهورة بحالة الاحتلال والاستعمار جزء أساسي منها قضية الشعور بالنقص والمهانة، والمجتمع الذي تستطيع الأيديولوجيا التعبير عن قهره بثقافة مضادة عامة ينتقم جماعيا من قاهريه أيا كانوا.
وأوضح مثال على ذلك الثورة الإيرانية، فقد رسخ المثقفون -من المتدينين واليساريين والمستقلين- في قلوب الشعب ضرورة الانتقام من الذين أهانوا الشعب وأنهوا الحكومة الديمقراطية، وأعادوا “الشاه”، واغتصبوا حقوق الناس في اختيار حاكمهم، وشوهوا سمعتهم، وسجنوا زعيمهم مصدق، وأهانوه لأنه نادى بضرورة الحرية وأن النفط للإيرانيين، فأُعيد استعبادهم بواسطة “الشاة” وأعيد سلب النفط منهم.
فكان الشعور بمرارة المهانة والتوعية الشديدة بها إلى حد التشبع يفتح بابا لثقافة العزة مهموسا بها في البداية، ثم تتعالى الأصوات بها، وتتنظم الأحزاب من أجلها، ثم تسير نحو تنفيذها.
6. الاغتراب السياسي:
بمعنى أن يصبح المجتمع لا مشاركة له في السياسة، وأن يصبح غريبا في بلده، ورأيه غريبا في كل شيء، ومثال اغتراب الشعب عن سياسة بلده شعور الشعب المصري أيام أحداث حرب غزة (2008-2009م) بأنه قد بلغت إهانته قدرا لا يطاق؛ لأن عددا كبيرا يقتل بجواره هم إخوانه حوصروا في سجن، ثم يقتلون بطريقة عدوانية لا يقبلها الإنسان للحيوان..
فكيف وهم يرون الإرهاب الصهيوني على إخوانهم المظلومين المحاصرين الأبرياء معزولين يقتلون بكل برود؟! وحكومتهم في مصر تقف مع المجرم ضد الضحية، وهم 80 مليون لا يشاركون في الدفاع عنهم، ثم استمرار الإصرار على عزل المجتمع عن السياسة حتى لا يشارك في مصيره ولا في تدبير حياته السياسية، وهو يرى فشل السياسي أمام عينيه يؤذيه في كل قضية، ويراكم بجانب سوء السياسة فظاعة الخلل الاقتصادي.
7. الحرمان المادي:
يقابل الحرمان المادي رؤية السرقة؛ أن تجد هذا الجوع والفقر المنتشر، ومع ذلك تجد الذي يمتص هذا المجتمع حيا متنفذا يمارس القهر وهكذا يشعر المجتمع بالغبن:
واحتمال الأذى ورؤية جانيه غذاء تَضْوَى به الأجسامُ
كان يصعب أن تتصور أن شخصا في مصر أو شخصين يستطيعون سرقة 70 مليار دولار، كان يصعب تخيل هذه الثروة المنهوبة في بلد يعاني الأزمات الاقتصادية، ولا يحتمل أن يسرق شخص هذا المبلغ، لكن تبين بعدها من هذه الأرقام أن البلد به خير لكنه منهوب، وكذا بالمثل تونس التي ليست غنية ولكن تبين سبب الفقر بها.
8. الثقافية المثالية:
الثقافية المثالية في المجتمع يساعد وجودها على تصاعد الاحتجاج في المجتمع، تلك الثقافة المثالية المشحونة بالقيم العالية وبالتطلع إليها، من خلال نماذج مخلصة ونزيهة في الذهن أو الواقع.
حين يوجد في ثقافة الناس وحديثهم تناقل وسماع لقصص عن نماذج مثالية من العدالة والديمقراطية، تجعل الشعوب المقهورة تلاحظ وتنظر في مكان آخر: لماذا لا نحظى بشيء من الكرامة والعدل والحريات كالشعب الفلاني أو الأمة الفلانية؟ عن أمم حية تعيش في عالمهم، أو تحيا ذكراها في خاطرهم.
فقد كان من نماذج الوعي بخطورة النموذج والمثال القديم الحاضر في الذاكرة ما قاله الخليفة “عبد الملك بن مروان” الذي كان يستبدّ بالسلطة والمال، وكان يؤذيه ويرهبه ذكر أمير المؤمنين “عمر بن الخطاب” -رضي الله عنه-، فقال كلمته المشهورة: “قللوا من ذكره، فإنه حسرة على الأمة طعن على الأئمة”..
هذا أنموذج قديم ولكنه خطر على استبداده، ولذا حاول منع التغطية الإعلامية ــ ولو في المجالس ــ بالحديث عنه، وليس المقصود حسرة على الأمة بمقدار ما يريده هو من منع الطعن على الأئمة الذين لا يرتقون له.
فمجرد النموذج التاريخي وإحياء ذكراه خطر على المستبد، ولذلك من المهم دائما لصناعة الاحتجاج في كل المجتمعات والثقافات استحضار النماذج المثالية، إن لم يكن جميعها فعلى الأقل المطلوب تحقيقها، وهى أساسا لُبّ الموعظة ولب الدروس؛ لذا فإن نجاحات الحضارة والديمقراطيات المعاصرة من أقوى ما يملك المُحتَج، تلك النماذج يجب استحضارها وذكرها في النفوس ومقارنتها.
وهي ميسورة ومنتشرة في العالم؛ فمثلا حدث في الولايات المتحدة الأمريكية أن دبّ خلاف على هدية أهديت لـ“هيلاري” زوجة الرئيس الأسبق “بيل كلينتون” عند خروجها مع زوجها من البيت الأبيض حول أحقيتها في أخذ طقم صحون أو ما أشبه أُهدي إليها في وقت وجودها، وهل لها الحق في امتلاكها أم هي ملك للشعب؟ وكان هناك قانون يقول بعدم أحقية أخذ هدية إذا تجاوزت قيمتها سبعمائة دولار؛ إذ تعتبر من ممتلكات الشعب.
في ذلك الوقت كان أحد أعضاء عائلة خليجية لا يرى أي خطأ إن استولى أقاربه على ثُمن دخل البلاد، وضرب مثلا لو استحوذ أقاربه على خمسين مليار دولار من الخزينة -ما يمثل ثُمن دخل البلاد المفترض في النقاش-فما الخلل في ذلك؟!؛ لأن الفساد دائما موجود بحسب رأيه!
ولهذا فإن النماذج من العدل والنزاهة مطلب عالمي مهم استحضاره ومقارنته بقطع النظر من أي مكان جاء المثال، ففي القرآن كانت الأمثلة تأتي من الطير ومن الحشرات أحيانا، فكيف بنماذج ناجحة عانت حتى تخلصت من ضعفها وعيوبها وشرورها، فالنماذج تبني الأمم؛ لأن هذا الإنسان يستجيب للنموذج المعيش في حياة الناس أكثر مما يستجيب لأي حق أو خير مكتوب في دينه أو تاريخه أو قانونه أو تراث الآخرين، فإمكان تحقيق نماذج ديمقراطية عادلة اليوم أكثر عملية وتحقيقا من استذكار تاريخ مهما يكن ولو كانت فكرة الخلافة، بقطع النظر عن الاختلاف في تصورها.
فالتقليد للمفيد والمقارنة مع الأمم الأخرى ومنجزاتها ضروري لرفع الذات، وللاحتجاج على مظاهر الهامشية والضعف الاجتماعي والسياسي.
وأمثلة الاستفادة الإدارية والعملية والحربية كثيرة في عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعندما أخبروه أن الحكام كانوا يستخدمون أختاما في الرسائل استخدم خاتمه، وعندما قالوا له إن الحكام يلبسون لباسا خاصا لاستقبال الوفود اتخذ لباسا خاصا لاستقبالهم.
وفي عهد “عمر” تطور الأمر بكثير، وهكذا خرج عندنا البريد والدواوين، وكثير من النظم كثير منها تقليد لأمم أخرى، فالحضارة في النهاية هي منتج بشري ساهم فيه العالم كله بقطع ونماذج صغيرة تستجمع كل حضارة منها ما استطاعت.
9. القيادة الصامدة للمحتجين التي تقول: “لا” لكل تراجع عن هدفها:
وهذه نظريا وجدت ودرست في العصر الحاضر في أنموذج “الخميني” الذي اشتهر بصلابة خاف منها أقرب الناس إليه، وكذا “الغنوشي” و”منصف المرزوقي” في تونس، حتى ملّ من صرامتهم واستمرارهم كثير من زملائهم وتلاميذهم وتركوهم في المهاجر ورجعوا وحاولوا شيئا من المصالحة، والمعايشة للنظام البائس.
وكان النموذج الأعظم وهو التحول في قيادة الثورات العربية تلك الآلاف أو الملايين الصامدة، فحتى لما ذهبت بعض المعارضة لتستجيب لعروض “مبارك” و”عمر سليمان” كان قوم “لا” أعلى فعلا وصوتا من كل من لان وضعف أو فرح بتحول بسيط في المستبد.
وهذه الفقرة وإن كان بعضها يدخل في موضوع سياق وإنجاز الثورة، ولكن هناك جانب سابق لها هو وضوح “لا للتنازلات الشكلية” القليلة في أذهان المحتجين، والصبر على البلاء والتنظير له، ووجود شخصيات تقول وتتحمل بنفسها الغربة والتهجير والفقر والتهم والبؤس والمطاردة.
10. وضوح نماذج الانحراف واشتهار الفساد:
فالملاحظ في أسباب نجاح الثورتين المصرية والتونسية شهرة الطبقة الفاسدة المقربة من الحكم والمستبدة بالمال والقرار، وحضور هذه الأسماء والنماذج لدى الجميع، وربط فحش غنى هؤلاء وما يستنزفونه من الثروة والتأثير في مسيرة الشعب بما يجري للطبقات الفقيرة ومشاهد مآسيها المتكررة.
وقد سبقت احتجاجات العمال المصريين في أماكن عدة، وقصص فاضحة عن سرقة الحديد والأراضي، والاستهانة بالحياة كما في قصة العبارة وتبرئة المذنبين لأنهم من المقربين، أو القادرين على دفع الرشاوى. وهذا ينتج موقفا من الحسرة على النفس والناس، والآلام العامة من قصص البؤس التي يمكن أن تكون مثبطة أو سلبية، ولكن يمكنها أن تخرج الناس إلى الاحتجاج.
11. البلاغة في الاحتجاج:
فوجود الثقافة الواسعة لمبررات الاحتجاج مهمة، وكذا تنوعها ــ شعرا ونثرا ونصوصا ــ مؤسسة على ثقافة المجتمع ودينه وتراثه وشخصياته وتجاربه؛ يُعَدُّ مادة أساسية للاحتجاج ونجاحه، وكذا الأهازيج، وأصوات المحتجين ودعاؤهم المنظم، وحركاتهم المبدعة، وأصوات منشديهم ومغنيهم وخطبائهم وأئمتهم زاد للاحتجاج..
وكذا السخرية المرّة بالمستبد، فهذه السخرية مثلا ليست قاصرة على مجتمع دون آخر، فهي وسيلة للتعبير الصريح، أو الجارح، أو المهذب، وهي وسيلة للتخفيف وتحويل ما يحدث إلى حالة محايدة أو هكذا تبدو، ولكنها مع الزمن تصبح من طرائق القمع الشعبي غير المنظم للمستبدين والفاسدين، وهي تنتج وعيا حزينا بما يحدث، فهي لحظة ضحك، ولكنها تنقل الضاحك في لحظة ما إلى مستنكر لما يحدث، (عند "جين شارب" بعض هذه النماذج في كتابه).
ويجب الانتباه ألا تصرف بلاغة الاحتجاج إلى قضية أخرى في هذا السياق، وهي “المجموعات المدرسية” أو ما يسمونها “المجموعات العقائدية” التي تأتي إلى الماضي أو الحاضر فتعيد تفسيره لك بتفسير يناسبها، وتدمج اللحظة الحاضرة في أنموذج ماض، مثال ذلك: المجموعات المتدينة التي ترى الدين أساسا في ثورات الشعوب، فتقول: “إن الثورة المصرية ما انتصرت إلا بالدين”، ومجموعات أخرى ملحدة لا ترى أهمية للدين فتأتي إلى حدث معين، وتقول: “بل الإلحاد هو الوحيد الذي يمكن أن يطور المجتمعات البشرية”، ومجموعات ترى قضية العمال الذين أعادوا ثورة البؤساء “الثورة الفرنسية”.
ظهور هذه المجموعات في زمن الاحتجاج يعجل بالتفتت والطعن في سلوك وأفكار وأعمال المحتجين وتمزيقهم، ويقضي على الهدف العام للاحتجاج، بل يجب إبعاد هذه الأصوات في زمن الاحتجاج.
فالثورة يشارك فيها كمٌّ من الثقافات والأطياف، ويجب على المحتج أن يستوعبهم ويقبلهم، وأن يضعف الميل نحو التفصيلات في مراحل الاحتجاج إلا تحقيق الهدف الأعلى؛ يجب أن يكون واضحا جدا.
12. التركيز على الطبقة المتوسطة في المجتمعات لتنفيذ الاحتجاجات:
بمعنى أن هذه المجموعة من الناس التي ليست فقيرة جدا وليست مشغولة بضرورات الطعام والسكن فلا تبحث ليل نهار عن لقمة العيش، وليست من تلك المجموعة المترفة؛ لأن الفقر الشديد والترف يصنعان طبقتين خارج التاريخ وبعيدتين عن الحياة المجتمعية الفاعلة.
ولكن المجموعات الوسط هي التي تعي وتحتج؛ لأن ضرورياتها مصونة، وهي خفيفة الالتزامات، وتحب تحسين حياتها المعنوية والسياسية والاقتصادية، ولها طموحها في تطوير الحياة، وهذا أمر ظاهر في نموذج الثورتين المصرية والتونسية، فإنه وإن كان للمعدمين دور أكبر في تونس وللمناطق الداخلية المهملة، لكن انتقال الاحتجاج للطبقة الوسطى حسم الأمر، وهي نفسها التي نفذت في مصر بعد احتجاجات عمال وغيرهم سابقة لم تنتج.
فالمجموعات التي تقيم الثورات هي مجموعات واعية ومؤثرة وقادرة وليست هي المترفة المشغولة بترفها، ولا المجموعات التي تصل إلى درجة الاكتفاء الذاتي.
13. دخول الحكومة المستبدة في العنف في مواجهة المحتجين السلميين:
وهذا يسوقها إلى أن تستكمل وسائلها في ممارسة عنفها، وهذه المرحلة تزيد المحتجين قناعة بضرورة استمرارهم، وتغلق الطريق والرؤية الحكومية لدى المستبد نحو المواجهة فالمستبد بمجرد ما يصعد القتل ويبالغ فإنه يقلل من وسائله للمواجهة، ويضعف نفسه، ويقوي المحتجين، لأن الخوف من الحكومة يغيب بمقدار ما يستمر الناس في رفضهم لها، وتقل حيل الحاكم في مواجهتهم وهم يشعرون بنشوة الشعور بالنجاحات المستمرة فتتزايد إبداعاتهم في أساليب الاحتجاج وتتناقص إمكاناتها (4).
14. أيضا من المهم في قضية الاحتجاجات أن تُرسم طرق للوصول إلى الهدف:
فما لم يوضع للناس ولم يُقَل: “إن هذا هو الطريق” فإنهم لا يستطيعون أن يؤثروا، ومثال ذلك احتجاجات مصر، سبقت بكثير تونس وغيرها، لكن إسقاط “بن علي” جعل قضية إسقاط النظام في مصر مسلمة لا نقاش فيها، قبل ذلك كان هناك احتجاج، ولكن في لحظة إسقاط “بن علي” كان النموذج مهما جدا.
15. مؤسسات ومجتمعات الاحتجاج:
لا يليق التهوين من المؤسسات والأحزاب التي ساندت وحمت الاحتجاج، مثل حركة النهضة التونسية والحركات الديمقراطية وجماعات اليسار والقوميين في تونس، وفي مصر مثل كفاية والإخوان المسلمون وحزب الوفد، فجميع الأحزاب والمؤسسات والنقابات في المصانع التي بدأت الاحتجاج قبل الثورة صنعت الكثير من الاعتراض ومن مهاد ثقافة الاعتراض؛ مثال ذلك إضراب 27 ألفا من عمال المحلّة الذين كانوا يعملون في النسيج.
و”في استطلاعات قياس الرأي في العالم العربي أظهرت أن 39% من الكويتيين، و30% من الجزائريين، و29% من الفلسطينيين و22% من المغاربة شاركوا في اجتماع أو لقاء أو توقيع على عريضة احتجاج خلال الثلاث سنوات: 2003-2006” (5).
والمجتمعات العربية جميعها تقريبا شهدت احتجاجات مختلفة، وكانت مخيفة للسلطة وللمجتمع كلّما كان المجتمع مغلقا، ذلك لأنها قد تتحول إلى عنف منها، أو من السلطة، وكلما كان مفتوحا فإن الاحتجاجات تفيد المجتمع وتعرف بالحق والباطل والتحيزات، وتخفف الاحتقانات، وقد تتحول الاحتجاجات إلى تصويب المواقف، وتعديل سلوك الحكومة، والاحتجاجات ترفع من وعي المجتمع ومن نسبة مشاركته في تحقيق الحياة التي ينشدها.
أما في مجتمع مغلق يحرّم الاحتجاج فإن الحكومة تقدم نفسها وقراراتها بأنها الصواب المحض، والمحتج يقدمها على أنها الخطأ المحض، ويسود التكبر والانغلاق بين الطرفين، ويحرم المجتمع من النمو ما لم تكسر حواجز الغرور والتجريم المتبادل؛ لأن قمع الاحتجاج وصفة تفتح الطريق للعنف وتضعف المشروعية أو تلغي ما بقي منها.
لذلك، فإن من المهم وجود تجمّعات تعترض في المجتمع الإنساني، مثل مختلف المجموعات المهنية والعلماء وأساتذة الجامعات والمحامون والأطباء والمدرسون والمتصوفة، حيث لا يليق أن يختزل الإنسان في قضية واحدة، أو جانب من ولائه أو شخصيته، أو مهنته؛ فهذا ظلم كبير له، بل تسخر كل إمكاناته لتحقيق المراد العام للجماعة المحتجة، وكذا يجب الخلاص من النظريات والمسبقات المعطلة، مثال ذلك قولهم بأن الإنسان لا يثور إلا من أجل الطعام، وهذا ليس صحيحا أبدا، فهو يثور للكرامة والعرض والاختلاف العقائدي والعرقي والجغرافي ومن أجل الخيانة ولأشياء كثيرة يمكن أن تثير هذا الإنسان.
“الشعوب لا توجد قبل لحظات الاحتجاج” أو لا تجد نفسها قبل لحظة الاحتجاج، ويستغرب البعض ويتساءل: كيف؟ عندما لا يكون مشاركا في الاحتجاج ولا في العمل ولا في المساهمة فهو غير موجود، قبل الثورة في مصر كنت أقول للناس: للأسف تجد في غزة عددا صغيرا من البشر ــ ثلاثة آلاف من المقاومة ــ جعل الشعب يتمتع بالحرية، وهم أكثر فاعلية من 80 مليون مصري مقهورين، وفي لبنان الوضع نفسه؛ مجموعة قليلة تواجه إسرائيل ولا وجود لبقية الناس.
يقول أستاذ جامعي في رمضان (1432هـ-2011م): “كان رمضان يمر بنا فلا نهتم إلا بالطعام، وماذا أكلنا وماذا سنأكل، ولكن الاحتجاجات جعلتنا نشعر أن لنا كرامة وقيمة وقضية تستحق أن تعاش وأنعشتنا من موتنا الطويل”.
الاحتجاجات تفجر حيلة العمل والمواجهة والمطالبة، ونقاشات ما قبل وما بعد الاحتجاج، وتزرع الحمية وأخلاق الجهاد السلمي والتكافل ضد جبهة الاستبداد، إنها تخرج الإنسان من حالة (اللاقيمة) وتزرع الأهمية والدور والأثر، إنها حقيقة تبعث الموتى.
وكان “جمال الدين الأفغاني” يقول كلاما موجعا موجها حديثه لأربعمائة مليون هندي: “لو بصقتم على بريطانيا لأغرقتموها.. بمجرد بصق تَغرقُ بريطانيا لكنها تحتلكم”.
ولكن الملايين والمليارات من الناس الفاقدين للحرية وللفاعلية غالبا لا قيمة لهم في مسار حياتهم أنفسهم فضلا عن بقية العالم.
في نموذج الاحتجاج هناك مجتمعان:
أحدهما ديمقراطي، والآخر مستعبد وحكومة مستبدة، عندما تحتج ضد ديكتاتور غالبا ما ينكر وجودك، فالمحتجون مجرد جرذان!
ينظر إليهم على أنهم ليسوا بشرا، “القذافي” تلفظ بها، ولكن من لم يقولوا هم يمتلكون القناعة والثقافة التي تُكِن ذلك من خلال تصرفاتهم، الفارق بين بعضهم وبين “القذافي” أن فجاجته تسمح له بقول ما يعتقد، ثم إذا تصاعد الناس وبدؤوا في الظهور يبدأ بالتفاوض أو القتل، ولكن في الغالب النظام العنيد لا يستجيب إلا بالعنف، وعليه؛ يحتاجون إلى القوة والكثرة.
16. الحماية الإعلامية (6):
كانت وسائل الاحتجاج قديما مقصورة على الوسائل البسيطة؛ الحناجر والأقدام، ثم تطورت إلى الكتابة ولكن وسائل الاحتجاج تتقدم بطريقة رائعة في هذه العصور، وتعطي للفرد وسائل للتغير وقوة ما كان يملكها. نعم قد استُخدم الإعلام في التخدير والتنفير وأحيانا للإرهاب، ولكنه في الثورات العربية كان وسيلة عظيمة للتغيير.
فعندما كان التلفزيون الحكومي المصري يتحدث عن انتخابات حرة وديمقراطية فيما كانت القنوات تنقل أخبار تزوير الانتخابات عام 2005، مع مشاهد لناخبين وقد خضبت الدماء وجوههم، وأحاطت بهم عصابات البلطجية يلوّحون بمناجل وعصي، ووقفت عناصر الشرطة لا يحركون ساكنا ويتفرجون على المشهد، والشرطي كان من قبل يؤكد: “اللي ما بيبوسش الجزمة مالوش لازمة” (7).
ولكن التاريخ تحرك لصالح الإعلام ولصالح الناس كما وصف الصحفي المنافح: سلامة أحمد سلامة التأثير الإعلامي بقوله: “لقد دشنت الجزيرة حركة تغيير داخل المجتمع المصري، ولم يكن ليتسنى لنا معرفة هذه الانتهاكات لو لم تكن الجزيرة حاضرة". (8).
وكانت أسرع شهادة نالتها الجزيرة ذلك التعقيب السريع الذي قالته نوراة نجم إثر إعلان عمر سليمان عن تنحي مبارك: “شكرًا تونس، شكرا الجزيرة، ما فيش خوف تاني”
وهناك اعتراف كبير بالتأثير، وربما بالغ الناس في أملهم منها كما أشار مارك لنش: “ما دعاه أحد المتحمسين بجمهورية الجزيرة الديمقراطية في الواقع لا وجود له، فالجزيرة لا يمكنها خلق الديمقراطية بمفردها، وليس بمقدورها إرغام القادة العرب على تغيير أساليبهم ولا يمكن للبرامج الحوارية التلفزيونية أن تعوض العمل الشاق في سبيل التنظيم السياسي وبناء المؤسسات” (9).
ويمكن أن يكون الإعلام وسيلة لما هو أكثر من الاحتجاج والتوعية، أي إلى الضغط على حكومات لتغير مواقفها المتصلبة؛ فقد نشرت (ويكيليكس) بعض الأخبار المتعلقة بهذا، ومنها: أنه في حرب غزة فاوضت حكومة قطر حكومة مبارك على فتح معبر رفح مقابل تخفيف حدة انتقاد مبارك ونظامه على شاشة الجزيرة الفضائية، وبهذا يتضح مدى إمكانية أن تكون وسيلة الإعلام وسيلة للتحرير والإنقاذ، مثال ذلك أيضا الهواتف الجوالة والإنترنت في سورية حاليا، فدورها مهم جدا في نشر ما يحدث، ولولا هذا لكانت مذابح كمذابح حماة والعالم ساكت لا يرى ولا يسمع.
وهناك كلمة مشهورة لـ “شمعون بيريز” رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، توضح مدى خطورة الإعلام، حينما نبه إلى أنه لو وجد هذا الإعلام الحالي في عام 1947 لما أمكن قيام دولة إسرائيل؛ والسبب: أنها قامت على القتل والإبادة وتهجير الناس من بيوتهم.
الاحتجاجات تطورت مع وسائل الإعلام بشكل كبير، وأعطت قوة كبيرة لأناس هامشيين، خاصة الإعلام الجديد؛ مثل الجوال وأجهزة الوسائط وما فيها من سهولة رفع الصور للمشاهدين من أجهزة فردية وصغيرة، وكذا مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، مثال ذلك: ما فعلته المرأة الكويتية حتى انتزعت حقها في التصويت بواسطة حملات إعلامية ورسائل هاتفية، واجتهدت لتشارك بنات المدارس في هذه الحملة.
وكذا أيضا عند إخراج القوات السورية من لبنان، وفي الانتخابات الأمريكية عام 2008م، التي كلفت 740 مليون دولار، كان منها 500 مليون دولار جمعت عن طريق الإنترنت من 6.5 مليون شخص، ومعدل التبرع كان 80 دولارا، فقد ساهم أوسع قطاع من الناس، كل بمبلغ قليل ولكنه واسع، وبلغت تبرعات الإنترنت ثلثي ما جمع للحملة الانتخابية، وكان الإنفاق في الماضي من كبار المتبرعين والتجار والشركات، أما في تلك الحملة فقد شارك من يملك دولارات قليلة في صناعة التغيير.
وفي السعودية عام 2011 استخدم تويتر للمطالبة بحق قيادة المرأة للسيارة يوم 17 يونيو، وكان ذلك اليوم هو ذكرى اليوم الذي خرجت فيه روزا باركس ضد العنصريين السود في حركة الحقوق المدنية، وجلست في مقعد الحافلة الذي كان محرما على السود ومخصصا لبيض.
ومن أهم مميزات الإعلام الجديد أنه قليل التكلفة مقارنة بما يكلفه الإعلام الآخر، وديمقراطي، واسع الجمهور، وغير طبقي، يخترق المناطق والحدود والطبقات، يتجاوز اهتمامات أي شخص ويدخله في الهم العام، وهذا جانب بالغ الأهمية، إذ كان الإعلام والمجلات والتلفاز والمسرح والإذاعة كثيرا ما تحاصر المستهلك بتخصص محدد أو اتجاه وسياسة محددة، ولكن هذا الإعلام يجعلك تهتم بما لم تكن تفكر فيه ولا تهتم به، فقط تتابع خبرا أو فكرة لأنها مقبولة للنقاش أو غير مقبولة، كما أنها لا تحتاج إلى معلومات كثيرة بل معرفة بسيطة بكيفية الاستخدام.
من هاتفك الجوال تعالج ما تشاء من أنباء وقضايا وصور وتعليقات. وهو لا يلزمك بزمن محدد تكون ملتزما بمتابعته، بل يأتيك وفق وقتك السانح، وأنت من يحدد الوقت، كذلك المكان، فلم يعد ملزما أن تكون أمام التلفاز في وقت محدد.
وأصبحت ساحات الحوار الجديدة أبلغ أثرا وإيصالا للمواقف والأفكار والأخبار من أي وسائل سابقة، بل أصبح لكل فرد هوية محددة في شبكات عامة، وكأنها تعوضه عن العزلة المدنية التي أحاطت به مع تطور التقنية، فأصبحت تخرجه إنسانا اجتماعيا سويا مرة أخرى.
فأقام مؤسسات بديلة عن المؤسسات التي دمرها المستبدون وقضوا عليها، فوجد الناس في هذه المؤسسات الجديدة عالما من المتعة والنقاش والنقد والإصلاح والتواصل والتأثير غير مسبوق.
ومع ذلك، فقد أبقى على جوانب التأثير الأخرى –وإن كان بشكل أقل حدة من سابقه- مثل المشاهير وولع الناس بمتابعتهم، وهذا من جانب المتعة والفن والفكر والانتماء التي يحملها الإنسان معه، غير أنه في زماننا أصبح أكثر تحررا من سابقه، وهو يستطيع تجنيد هذا البحر الهائج من الوسائل والمضامين ليحتج بها حين يحتاج، وقد أثبت ذلك بجدارة رغم كونه جديدا في عالمنا.
ونعلم أن الترابط بين الدول العربية في اللغة والمظالم والمشاعر يجعل حالة الاحتجاج قابلة للاستمرار والتأييد المشترك والتناصر لتحقيق الأهداف؛ (مثلا جمعة “شامنا ويمننا)...
(يتبع)
[1] أصل هذه الورقة قدم في مؤتمر “الثورات العربية” الذي عقد في القاهرة، ونشرت ضمن كتاب أعمال المؤتمر الذي طبع تحت عنوان “الثورات العربية”، من تحرير مصطفى الحباب، دار الإنتشار العربي، بيروت، 2012.
[2] جيمز م. يسبر، فن الاحتجاج الأخلاقي، The Art of Moral Protest, P. XXI.
[3] الغريب أني وجدت في كلام “علي عزت بيجوفتش” شيئا من بقايا الشعور الذي ينفثه المستبد في نفوس الجمهور، فكان “علي عزت” يصف “تيتو” -ديكتاتور صربيا الشهير- ثم يقول: “كنت قريبا منه وهو واقف ولم يكن كما كنت أظن طويلا!” استغربت هذا عند “علي” الذي كان يرى أن “تيتو” بجبروته لا بد أن يكمل ويكون جبارا بدنيا في نفوس ضحاياه.
[4] جين شارب، من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، ترجمة خالد دار عمر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 1430-2009 حيث ناقش المؤلف موضوع الاحتجاجات السلمية وطبيعتها وأشكالها.
[5] فارس بريزات، ثقافة الاحتجاج الشعبي، قوة تعبيرية ذات تأثير خارج القنوات الرسمية، 18\10\2007.
[6] أصبح الإعلام يمثل حماية للمحتجين وللمؤسسات والمنظمات، فما كان عندك من موقف أو خبر فإن الواجب سرعة إعلانه حتى يكون النشر حاميا من اغتيال السلطة لك في الظلام، وقد شرح الشيخ راشد الغنوشي أنموذجا لهذا لما بصرت السلطة أيام بورقيبة حاكم تونس بتأسيسهم لجمعيتهم (أصبحت فيما بعد النهضة) فسارعوا بالإعلان عنها قبل أن تتمكن الحكومة من اتخاذ إجراءات ظالمة ضدهم، فالإعلان كان حماية لهم بعكس غيرهم الذين تلكأوا في الإعلان فاستطاعت حكومتهم ربط مشروعهم بالإرهاب شعبيا وعالميا مع يقين الجميع بأنه مجرد حيلة ضد حركة إصلاحية.
[7] أحد قادة وزارة الداخلية المصرية يخطب في رجال الشرطة خلال الثورة المصرية.
[8] فيليب سيب، تأثير الجزيرة، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2001، ص 171
[9] فيليب سيب، السابق، ص 173
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق