الاثنين، 2 سبتمبر 2013

رسالة من الإخوان المسلمين إلى الفريق السيسي!!!


رسالة من الإخوان المسلمين إلى الفريق السيسي!!!
د محمد عباس

أهدي هذه الرسالة إليك..

وأهديها أيضا إلى ذلك الرجل الورع الذي استضافني في خيمته في رابعة لدقائق..رحب بي.. أتذكر أنه قبل كتفي ورأسي.. و روى عطشي.. وحاورني في أدب جم.. أخبروني أنه على علاقة قرابة حميمة بك.. استوثقت منه فأومأ بالإيجاب.. وزاد بيان الصلة.. .. سألته عنك فأكد لي تدينك.. كنت مذهولا.. قلت له: ومذبحة الساجدين؟.. ولم أكن أدرى أن مذبحة الساجدين سوف تصبح هفوة إزاء ما فعلته بعد ذلك.. وأجابني الرجل الذي لا أعرف إن كان بعد فضك الاعتصام من الشهداء أم من الأحياء.. ولا إن كان ممن سلمت أجداثهم أم من المحروقين أم الذين فرمت كراكاتك أجسادهم وجرفت جرافاتك أشلاءهم لتلقي بها في المجاري أو القمامة.. قال لي أنه هاتفك صارخا صبيحتها.. فأجبته أن الأمر خرج من يد ضباطك عندما اندس ضابط من حماس وسط المصلين وأطلق الرصاص على الحرس.. فلم يتمالكوا أنفسهم من الرد..

ولم أشأ إحراج الرجل بسؤاله إن كان قد صدقك..

كان بقاؤه في رابعة إجابة..


...

كنت أسأل نفسي: إذن ما غرك بربك الكريم..

كان أمامك الطيب فاخترت الخبيث (حديث المعراج)..

لماذا..

لماذا غيرت رأيك فجأة من خطورة تدخل الجيش إلى البطش غير المسبوق بالأمة..

هل تغيرت أم غُيّرت أم هُدّدت أم ابتُززت..

وما دور برهامي في ذلك..

لا أشعر بأي إشفاق أو تعاطف أو دهشة مع البلاوي أو حكومته..

لكن..

معك أنت أيها المتدين..

كيف فعلت ذلك..

وماذا فعلت في حياتك السابقة كي يجعلك الله عرضة لدعاء المسلمين عليك إلى يوم القيامة..

بل لعناتهم إلى يوم القيامة..

كيف هانت عليك أمتك..

كيف هان عليك دينك كيف هان عليك وطنك كيف هانت عليك أمتك كيف هانت عليك آخرتك؟ بدنياك بعتها أم بدنيا غيرك خسرتها؟.. يا متدين.. أكنت قاب قوسين أو أدنى من الجنة.. إلى آخر الحديث..

يقولون ليس بعد الكفر ذنب.. وأتحفظ على هذا القول.. فشر من الكافر الــــزند يق.. وشر منهما المنافق..وأشر منهم الممثل العاطفي الذي يغش أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويكمن عمره في مكمن كي يلدغها لدغة الموت وهي تحسب أنها منه في مأمن..

ليس الوقت وقت مجاملة ولا نفاق..

ويعلم الله أنني كنت أحسب أنني أبغض مبارك بغضا لا مزيد عليه فإذا بي أبغضك أكثر..

لا أخشاك.. فما بين قتلك لي وموقفنا أمام الله لمح البصر..

لا أخشاك.. أخشى على أمتك منك.. وعلى الدين منك.. واثقا أنه منصور بك بالرغم منك.. لقد وحدت المسلمين كما لم يوحدهم عدو ولا صديق.. ..

لا أخشاك..

ووالله ما أكتب لك كي أنبئك بكراهيتي لك.. وإنما توجد ثمالة أمل في أن تتوب- رغم أنني أحيانا بل غالبا أدعو أن يحول الله بينك وبين التوبة-

وأبواب التوبة فسيحة إلا إذا سددتها واسعة إلا إذا ضيقتها..

إياك وأن تلقي المسئولية على سواك..

أنت السبب المباشر في كل ما حدث..

وسواء كنت فاعلا أم مفعولا فالوزر كله وزرك لا تنقصه أوزار من كانوا معك..

فكل ماحدث كان مخططا..

لم تكن الأمة منقسمة منذ البداية.. كان 80% في جانب و20% في جانب.. ونصف العشرين في المائة لم يكونوا يرفضون الإسلام.. طلبت منكم أمريكا تقوية جانبهم وإضعاف جانبنا.. قالها المجلس العسكري صراحة.. سلطتم كلابكم لشيطنة الإسلاميين والتنكيل بالمسلمين وامتهان المساجد..

شققتم الأمة.. لا بتعريفها وتفهيمها وتعليمها بل بغسيل مخها..

الفرقة مصنوعة والانشقاق مصنوع..

وعلى الرغم من ذلك فليس لكم من شرفاء إلا البلطجية.. البلطجية بكل أنواعهم.. وأشرهم الذين يطلون علينا من شاشات الفضائيات وصفحات الصحف.. هم أقذر وأوسخ من بلطجية السنجة والمولوتوف..هم سندكم ودرعكم وأهلكم والمنافحون عنكم..

فهل كنت منذ البداية تعرف..

أم أنك وجدت الطوفان قادم فآويت إلى جبل يعصمك من الماء..

فغرقت في الدماء..

غرقت في الدماء..

غرقت في الدماء..

يا إلهي..

لم أهنت نفسك كل هذه المهانة..

لماذا جعلت نفسك في الأخرة عرضة للحساب على كل شئ.. وكل قطرة دم.. وكل سجدة منعتها وركعة قطعتها مع عنق راكعها..

كيف..

كيف..


كيف..


ولكن.. أن قريبك قال لي أنك متدين وسواء كنت خادعا أو مخدوعا فإنني أهدي إليك هذه الرسالة من الإخوان المسلمين..

مقتطفات من تفسير سورة يونس .. للشهيد-أحسبه ولا أزكيه على الله- سيد قطب..


أتمنى أن تقرأها..


أتمنى أن تتأمل سيرة فرعون..


أتمنى أن تتدبر:



(ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به , وأسروا الندامة لما رأوا العذاب , وقضي بينهم بالقسط , وهم لا يظلمون). 




في ظلال القرآن

سورة يونس



الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

التعريف بالسورة

نعود مرة أخرى إلى الحياة مع القرآن المكي , بجوه الخاص , وظلاله وإيقاعاته وإيحاءاته . بعدما عشنا فترة في هذه الظلال مع سورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني .

والقرآن المكي , ولو أنه قرآن من القرآن , يشترك مع سائره في خصائصه القرآنية العامة ; وفي تفرده من كل قول آخر لا يحمل الطابع الرباني الفريد العجيب , في الموضوع وفي الأداء سواء . . إلا أن له مع ذلك جوه الخاص , ومذاقه المعين , الذي يعينه موضوعه الأساسي [ وهو في اختصار:حقيقة الألوهية , وحقيقة العبودية , وحقيقة العلاقات بينهما ; وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه , ويتبعوا أمره وشرعه ; وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء ; ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته ] . . كما يعينه أسلوب العرض لهذا الموضوع . وهو أسلوب موح , عميق الإيقاع , بالغ التأثير ; حيث تشترك في أداء هذا الغرض كل خصائص التعبير , من البناء اللفظي , إلى المؤثرات الموضوعية على النحو الذي فصلناه من قبل , في سورة الأنعام , والذي سنلم به هنا إن شاء الله .

ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الظلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا . . والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وتلكما في الموضوع , وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك ! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها , وتواجه الجاهلية بها , وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا , وعبادة وعملا . بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ . وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود . . في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا . . إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس , بارتفاع وضخامة في الإيقاع ,وسرعة وقوة في النبض , ولألاء شديد في التصوير والحركة . . بينما تمضي سورة يونس , في إيقاع رخي , ونبض هادئ , وسلاسة وديعة ! . . فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا . . ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة , وملامحها المميزة , بعد كل هذا التشابه والاختلاف !

والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة . . والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة , التي تحدد شخصيتها وملامحها . . ونحن لا نملك - في هذا التقديم - إلا تلخيص هذه المحتويات واحداً واحداً في إجمال , حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية:

إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول اللّه - [ ص ] - ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية ; فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه , وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله:(الر تلك آيات الكتاب الحكيم . أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس , وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم , قال الكافرون إن هذا لساحر مبين). .(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات , قال الذين لا يرجون لقاءنا:ائت بقرآن غير هذا أو بدله . قل:ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي , إن أتبع إلا ما يوحى إلي , إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل:لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به , فقد لبثت فيكم عمرا من قبله , أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون). .(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله , ولكن تصديق الذي بين يديه , وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه ? قل:فأتوا بسورة مثله , وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). .

وتواجه طلبهم خارقة مادية - غير القرآن - واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه . فتقرر لهم أن آية هذا الدين هي هذا القرآن ; وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به . وأن الآيات في يد الله ومشيئته ; وأن موعدهم بالجزاء يتعلق بأجل يقدره اللّه , والنبي لا يملك شيئا فهو عبد من عباد الله . - وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحق وحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية -:
(ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات , وما كانوا ليؤمنوا , كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم , لننظر كيف تعملون). .(ولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون:متى هذا الوعد , إن كنتم صادقين ? قل:لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله , لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل:أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ? ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ?!). .(ويقولون:لولا أنزل عليه آية من ربه ! فقل:إنما الغيب لله , فانتظروا إني معكم من المنتظرين).

وتواجه اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - الأمر الذي يحدثهم رسول الله [ ص ] فيه , فيكذبون بالوحي أو يتشككون فيه ; ويطلبون قرآناً غيره , أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته - بينما هم سادرون في عبادة مالا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء , على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند الله ; كما يزعمون لله الولد سبحانه بلا علم ولا بينة . . فتقرر لهم صفات الإله الحق وآثار قدرته في الوجود من حولهم , وفي وجودهم هم أنفسهم , وفيما يتقلب بهم من ظواهر الكون , وما يتقلب بهم هم من أحوالوهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحق عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا الله . . وهذه هي القضية الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة ; والتي تتفرع عنها سائر محتوياتها الأخرى: (إن ربكم اللّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام , ثم استوى على العرش يدبر الأمر , ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه , أفلا تذكرون ? إليه مرجعكم جميعاً , وعد اللّه حقاً , إنه يبدأ الخلق ثم يعيده , ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط , والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً , وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب , ما خلق الله ذلك إلا بالحق , يفصل الآيات لقوم يعلمون ).

(إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون). . (ويعبدون من دون اللّه مالا يضرهم ولا ينفعهم , ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه . قل:أتنبؤن اللّه بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون). .(هو الذي يسيركم في البر والبحر , حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف , وجاءهم الموج من كل مكان , وظنوا أنهم أحيط بهم , دعوا الله مخلصين له الدين:لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق , يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا , ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). .(قل:من يرزقكم من السماء والأرض ? أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون:اللّه . فقل:أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق , فماذا بعد الحق إلا الضلال ! فأنى تصرفون ?). . (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? قل:الله يبدأ الخلق ثم يعيده , فأنى تؤفكون ? قل:هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ? قل:الله يهدي للحق . أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي ? فما لكم كيف تحكمون ? وما يتبع أكثرهم إلا ظنا , إن الظن لا يغني من الحق شيئاً , إن اللّه عليم بما يفعلون). .(ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض , وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء , إن يتبعون إلا الظن , وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً , إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون). .(قالوا:اتخذ الله ولداً - سبحانه - هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض , إن عندكم من سلطان بهذا ? أتقولون على الله ما لا تعلمون ? قل:إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم , ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). .(ألا إن لله ما في السماوات والأرض . ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون . هو يحيي ويميت وإليه ترجعون).

وتصور لهم حضور الله - سبحانه - وشهوده لكل ما يهم به البشر , وكل ما يزاولون من نية وعمل ; مما يملأ الحس البشري بالرهبة والروعة , كما يملؤه بالحذر واليقظة . . وذلك في مثل قوله تعالى في هذه السورة:

(وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن . ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه . وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر , إلا في كتاب مبين) .

كذلك تملأ نفوسهم بالتوجس والتوقع لبأس الله في كل لحظة , ليخرجوا من الغفلة التي ينشئها الرخاء والنعمة ; ولا ينخدعوا بازدهار الحياة حولهم فيأمنوا بأس الله الذي يأتي بغتة: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض , مما يأكل الناس والأنعام . حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت , وظن أهلها أنهم قادرون عليها , أتاها أمرنا ليلا أو نهارا , فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس .كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون). .(قل:أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ! ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? !).

وتواجه اطمئنانهم للحياة الدنيا ورضاهم بها عن الآخرة , وتكذيبهم بلقاء الله , بتحذيرهم من هذه الطمأنينة الخادعة , ومن الخسارة في الصفقة الدون التي يرضونها , وتعريفهم بأن هذه الحياة الدينا إنما هي للابتلاء , وفي الآخرة الجزاء . . ثم تواجههم بعرض مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ; وخاصة ما يتصل منها بتخلي الشركاء عن عبادهم , وتبرئهم منهم إلى اللّه , وتعذر الفداء من العذاب مهما كبر الفداء:(إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها , والذين هم عن آياتنا غافلون . أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم , تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم . دعواهم فيها:سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). .(ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا , وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا , كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون). . (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . للذين أحسنوا الحسنى وزيادة , ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة , أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها , وترهقهم ذلة , مالهم من الله من عاصم , كأنما أغشيت وجوههم قطعا . من الليل مظلما , أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). . (ويوم نحشرهم جميعا , ثم نقول للذين أشركوا:مكانكم أنتم وشركاؤكم ! فزيلنا بينهم , وقال شركاؤهم:ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم , إن كنا عن عبادتكم لغافلين . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت , وردوا إلى الله مولاهم الحق , وضل عنهم ما كانوا يفترون). .(ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم . قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين). .(ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به , وأسروا الندامة لما رأوا العذاب , وقضي بينهم بالقسط , وهم لا يظلمون). .

ثم تواجه ما يترتب على اضطراب تصورهم للألوهية ; وما يترتب على تكذيبهم بالبعث والآخرة , وما يترتب على تكذيبهم بالوحي والنذارة , من انطلاقهم في واقع الحياة العملية يزاولون خصائص الربوبية في التشريع لحياتهم , والتحليل والتحريم في أرزاقهم ومعاملاتهم وفق ما تصوره لهم وثنيتهم واعتقادهم بالشركاء الذين يجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله يأخذه السدنة والكهنة ليحلوا لهم ما يشاءون ويحرموا عليهم ما يشاءون . . وهي القضية الكبرى التي تلي قضية الاعتقاد وتنبثق منها:(قل:أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ? قل:آلله أذن لكم ? أم على الله تفترون ? وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ? إن الله لذو فضل على الناس , ولكن أكثرهم لا يشكرون).

والسورة تحتشد - في إبلاغ تلك الحقائق التي تحتويها وتثبيتها وتعميقها واستجاشة القلوب والعقول لها - بشتى المؤثرات الموحية , التي يحفل بها الأداء القرآني الفريد في الموضوع وفي التعبير عنه سواء . وهي مؤثرات - على عمقها وحيويتها وحركتها - تناسب شخصية السورة وطبيعتها التي تحدثنا في الفقرة الأولى عنها . . وهذه نماذج منها , نلم بها هنا إجمالا , حتى نستعرضها في السياق تفصيلا:

تحتشد السورة بمشاهد هذا الكون وظواهره , الموحية للفطرة البشرية بحقيقة الألوهية , الدالة على التدبير الحكيم , والقصد المرسوم في بناء هذا الكون وتصريفه , وفي الموافقات المبثوثة فيه لنشأة الحياةوالأحياء , ولحياة الكائن الإنساني وتلبية حاجاته في حياته . . وقضية الألوهية يعرضها القرآن في هذه الصورة الحية الواقعية الموحية ; ولا يعرضها في أسلوب الجدل الفلسفي والمنطق الذهني , والله خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم - سبحانه - أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة ! وتجاوباً أعمق من منطق الذهن البارد الجاف ; وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره ; وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي ; وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب . . ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية - في القرآن - بهذه اللغة المفهومة . . وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي:

(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام , ثم استوى على العرش , يدبر الأمر , ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه . أفلا تذكرون ? ). .

(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً , وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق , يفصل الآيات لقوم يعلمون . إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون). .

(قل:من يرزقكم من السماء والأرض ; أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون الله , فقل:أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق , فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون ?).

(هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا , إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون). .

(قل:انظروا ماذا في السماوات والأرض , وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون). .

وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم ; ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير , والتصريف والتسيير . . ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب ; كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته ! وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد:

(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما . فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ! كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون !). .

(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا ! قل:الله أسرع مكرا , إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر , حتى إذا كنتم في الفلك , وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف , وجاءهم الموج من كل مكان , وظنوا أنهم أحيط بهم , دعوا الله مخلصين له الدين:لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا , ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). .

وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين . آناً في صورة الخبر , وآنا في صورة قصص بعض الرسل .

وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين ; وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم . فلا تغرنهم الحياة الدنيا , فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء . أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس , ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم !

(ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا . كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون). .

(واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه:يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت , فأجمعوا أمركم وشركاءكم , ثم لا يكن أمركم عليكم غمة , ثم اقضوا إلي ولا تنظرون . فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله , وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا . فانظر كيف كان عاقبة المنذرين). .

(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا:إن هذا لسحر مبين . قال موسى:أتقولون للحق لما جاءكم . أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون). . إلى قوله تعالى في نهاية القصة: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا - حتى إذا أدركه الغرق قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين . آلآن ? وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية , وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) . .

(فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ? قل:فانتظروا إني معكم من المنتظرين . ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا , كذلك حقا علينا ننج المؤمنين). .

وتحتشد بمشاهد القيامة , تعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين , عرضا حيا متحركا مؤثرا عميق الإيقاع في القلوب . فتعرض مع مشاهد المصارع في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين , صفحتي الحياة في الدارين , وبدء المطاف ونهايته حيث لا مهرب ولا فوت:

(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة , ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة , أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها , وترهقهم ذلة , ما لهم من الله من عاصم , كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما , أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .

(ويوم نحشرهم جميعا , ثم نقول للذين أشركوا:مكانكم أنتم وشركاؤكم ! فزيلنا بينهم , وقال شركاؤكم:ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت , وردوا إلى الله مولاهم الحق , وضل عنهم ما كانوا يفترون . .

(ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ! وأسروا الندامة لما رأوا العذاب , وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون). .

ومن المؤثرات التي تحتشد بها السورة تحدي المشركين المكذبين بالوحي , أن يأتوا بآية من مثل هذا القرآن . . ثم توجيه الرسول [ ص ] بعد دعوتهم وتحديهم , إلى تركهم ومصيرهم - وهو مصير المكذبين الظالمين من قبلهم - والمضي في طريقه المستقيم لا يحفلهم ولا يأبه لشأنهم . . والتحدي ثم المفاصلة والاستعلاء على هذا النحو مما يوقع في قلوبهم أن هذا النبي واثق من الحق الذي معه , واثق من ربه الذي يتولاه . وهذا بدوره يهز القلوب ويزلزل العناد:

(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ; ولكن تصديق الذي بين يديه , وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه ? قل:فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله . كذلك كذب الذين من قبلهم . فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). .

(قل:يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله . ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم , وأمرت أن أكون من المؤمنين . وأن أقم وجهك للدين حنيفا , ولا تكونن من المشركين . ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو , وإن يردك بخير فلا راد لفضله , يصيب به من يشاء من عباده , وهو الغفور الرحيم . . قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم . فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها , وما أنا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله , وهو خير الحاكمين ). .

وبهذه المفاصلة تختم السورة ويختم هذا الحشد من المؤثرات التي سقنا نماذج منها لا تستقصي ما في السورة من هذا المنهج القرآني الفريد في مخاطبة القلوب والعقول .

هذه السورة نزلت بعد سورة الإسراء . وقد حمي الجدل من المشركين حول صدق الوحي , وحول هذا القرآن , وما يواجههم به من تسفيه لعقائدهم , ومن تنديد بجاهليتهم , ومن كشف لما في كيانها من تناقض واضح . تناقض بين ما يعتقدونه من أن الله - سبحانه - هو الخالق الرازق , المحيي المميت , المدبر المتصرف في كل شيء , القادر على كل شيء - وهي الجذور الباقية من حنيفية إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وبين ما يدعونه لله سبحانه من الولد , حيث كانوا يدعون أن الملائكة بنات الله , ويتخذونهم شفعاء عند الله , ويعبدون تماثيلهم من الأصنام على هذا الاعتبار ! ثم ما ينشأ عن هذا الاضطراب العقيدي من آثار في حياتهم ; وفي أوله ما كان يزاوله الكهان والرؤساء فيهم من تحريم وتحليل في الثمار والأنعام ; وجعل نصيب منها لله ونصيب لآلهتهم المدعاة !

وعندئذ كانوا يواجهون حملة القرآن على عقائدهم المهلهلة وجاهليتهم المتناقضة بأن يكذبوا رسول الله [ ص ] في نبوته والوحي إليه من ربه ; ويزعمون أنه ساحر ! وأن يطلبوا منه أن يأتيهم بخارقة تدل على أن الله أوحى إليه ; ويفتتنون في طلب هذه الخوارق على ما ورد من ذلك في سورة الإسراء مما حكاه القرآن الكريم عنهم . في مثل قوله تعالى: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل , فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا:لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا , أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا , أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا , أو تأتي بالله والملائكة قبيلا , أو يكون لك بيت من زخرف , أو ترقى في السماء , ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ! قل:سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا:أبعث الله بشرا رسولا ? . . وكما قال تعالى في هذه السورة:(ويقولون:لولا أنزل عليه آية من ربه !! فقل:إنما الغيب لله , فانتظروا إني معكم من المنتظرين). .

كذلك كانوا يطلبون من رسول الله [ ص ] أن يأتيهم بقرآن غير هذا , لا يتعرض لآلهتهم وعقائدهم وجاهليتهم ; كي يستجيبوا له ويؤمنوا به ! كما قال الله عنهم في هذه السورة: (وإذا تتلى عليهمآياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا:ائت بقرآن غير هذا أو بدله). . وكان الرد على مثل هذا التعسف الساذج: (قل:ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي , إن أتبع إلا ما يوحى إلي , إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل:لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به , فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون).

نزلت السورة في هذا الجو . وظاهر من سياقها أنها لحمة واحدة , تواجه واقعا متصلا ; حتى ليصعب تقسيمها إلى قطاعات متميزة . وهذا ما ينفي الرواية التي أخذ بها المشرفون على المصحف الأميري من كون الآيات 40 , 94 , 95 , 96 مدنية . . فهذه الآيات متشابكة مع السياق , وبعضها لا يتسق السياق بدونه أصلا !

والترابط في سياق السورة يوحد بين مطلعها وختامها . فيجيء في المطلع قوله تعالى:(الر تلك آيات الكتاب الحكيم . أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس , وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق , عند ربهم قال الكافرون ! إن هذا لساحر مبين). . ويجيء في الختام:(واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين). . فالحديث عن قضية الوحي هو المطلع وهو الختام . كما أنه هو الموضوع المتصل الملتحم بين المطلع والختام .

كذلك يبدو الترابط بين المؤثرات المختلفة في السورة . نذكر مثالا لذلك الرد على استعجالهم بالوعيد , وتهديدهم بأنه يقع بغتة , حيث لا ينفعهم وقتها إيمان ولا توبة . . ثم يجيء القصص بعد ذلك في السورة , مصورا ذلك المشهد بعينه في مصارع الغابرين .

في الرد عليهم يقول: (ويقولون:متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل:لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا , إلا ما شاء الله , لكل أمة أجل , إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل:أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا , ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ?! ثم قيل للذين ظلموا:ذوقوا عذاب الخلد , هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ). .

وفي نهاية قصة موسى في السورة يجيء هذا المشهد , وكأنه الصورة الواقعية لذلك الوعيد: ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا , حتى إذا أدركه الغرق قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل , وأنا من المسلمين . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية , وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ). .

ثم تتساوق في ثنايا السورة بين ذلك الرد وهذه القصة مشاهد المباغتة بأخذ الله للمكذبين ; من حيث لا يتوقعون ولا يدرون ; فترسم جوا واحدا متناسقا يبدو فيه الترابط بين المشاهد والموضوعات والأداء سواء .

كذلك يجيء في حكاية قول المشركين عن رسول الله [ ص ] في أول السورة: (قال الكافرون إن هذا لساحر مبين). . ثم يجيء في حكاية فرعون وملئه عن موسى - عليه السلام -:(فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا:إن هذا لسحر مبين). .

وقد سميت السورة سورة يونس . بينما قصة يونس فيها لا تتجاوز إشارة سريعة على هذا النحو:(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ! إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ومتعناهم إلى حين). . ولكن قصة يونس - مع هذا - هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم ; فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة ; وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب , فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم , كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين .

وهكذا نجد الترابط بكل ألوانه في سياق السورة من مطلعها إلى ختامها , مما يجعلها وحدة متكاملة متشابكة كما أسلفنا .

وواضح من المقتطفات التي سبقت من نصوص السورة - في هذا التقديم - أن القضية الأساسية التي يتكئ عليها السياق كله هي قضية الألوهية والعبودية , وتجلية حقيقتهما , وبيان مقتضيات هذه الحقيقة في حياة الناس . أما سائر القضايا الأخرى التي تعرضت لها السورة كقضية الوحي , وقضية الآخرة , وقضية الرسالات السابقة . . فقد جاءت في صدد إيضاح تلك الحقيقة الكبرى وتعميقها وتوسيع مدلولها ; وبيان مقتضياتها في حياة البشر واعتقادهم وعبادتهم وعملهم .

والواقع أن تلك القضية الكبرى هي قضية القرآن كله , وقضية القرآن المكي بصفة خاصة . فتعريف الألوهية الحقة ; وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية ; وتعريف العبودية وحدودها التي لا تتعداها ; والوصول من هذا كله إلى تعبيد الناس لإلههم الحق ; واعترافهم بالربوبية والقوامة والحاكمية له وحده . . هذا هو الموضوع الرئيسي للقرآن كله . . وما وراءه إن هو إلا بيان لمقتضيات هذه الحقيقة الكبيرة في حياة البشر بكل جوانبها .

وهذه الحقيقة الكبيرة تستحق - عند التأمل العميق - كل هذا البيان الذي هو موضوع هذا القرآن . . تستحق أن يرسل الله من أجلها رسله جميعا , وأن ينزل بها كتبه جميعا:(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). .

إن حياة البشر في الأرض لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وتصورهم , واستقامت كذلك في حياتهم وواقعهم .

لا تستقيم أولاً إزاء هذا الكون الذي يعيشون فيه , ويتعاملون مع أشيائه وأحيائه . . وهم حين يضطرب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية يروحون يؤلهون الأشياء والأحياء - بل يؤلهون الأشباح والأوهام ! - ويُعبدون أنفسهم لها في صور مضحكة , ولكنها بائسة ! , ويقدمون لها - بوحي من الكهان والمنتفعين بأوهام العوام في كل زمان وفي كل مكان - خلاصة كدهم من الرزق الذي أعطاهم اللّه . بل إنهم ليقدمون لها فلذات أكبادهم كما يقدمون لها أرواحهم في بعض الأحيان . . وهي أشياء وأحياء لا حول لها ولا قوة , ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً . . وتضطرب حياتهم كلها , وهم يعيشون بين الهلع والجزع من هذه الأشياء والأحياء ; وبين التقرب والزلفى لمخلوقات مثلهم , عبوديتها للّه كعبوديتهم . . وذلك كما قال الله تعالي :136-5 (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا:هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا ! فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله , وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ! ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم - ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون - وقالوا:هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها , وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ! - سيجزيهم بما كانوا يفترون - وقالوا:ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا , وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ! سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم - قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم , وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله , قد ضلوا وما كانوا مهتدين) .

فهذه نماذج من تكاليف العبودية لغير الله في الأموال والأولاد ; التي تقدم لمخلوقات من خلق الله . أشياء أو أحياء ما أنزل الله بها من سلطان !

كذلك لا تستقيم حياة البشر إزاء بعضهم البعض بدون استقامة حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية في اعتقادهم وتصورهم , وفي حياتهم وواقعهم . . إن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته الحقيقية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في ظل اعتقاد أو نظام لا يفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والحاكمية ; ولا يجعل له وحده حق الهيمنة على حياة الناس في الدنيا والآخرة , في السر والعلانية ; ولا يعترف له وحده بحق التشريع والأمر والحاكمية في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية . .

والواقع البشري على مدار التاريخ يثبت هذه الحقيقة ويصدقها . فما من مرة انحرف الناس عن الدينونة لله وحده - اعتقاداً ونظاماً - ودانوا لغير الله من العباد - سواء كانت هذه الدينونة , بالاعتقاد والشعائر أم كانت باتباع الأحكام والشرائع - إلا كانت العاقبة هي فقدانهم لإنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم !

والتفسير الإسلامي للتاريخ ; يرد ذل المحكومين للطواغيت , وسيطرة الطواغيت عليهم , إلى عامل أساسي هو فسوق المحكومين عن دين اللّه , الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية , ومن ثم يفرده بالربوبية والسلطان والقوامة والحاكمية . فيقول الله سبحانه عن فرعون وقومه:(ونادى فرعون في قومه قال:يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ? فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب , أو جاء معه الملائكة مقترنين ! فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين). . فيرد استخفاف فرعون لهم إلى أنهم فاسقون . فما يستخف الحاكم الطاغي قومه وهم مؤمنون بالله موحدون ; لا يدينون لسواه بربوبية تزاول القوامة والحاكمية !

ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده , فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته , قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره . العبودية , التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم , مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم ; والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة !

لقد هربت أوربا من الله - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف ! - وثارت على الله - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة ! ثم ظن الناس هناك أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية [ الديمقراطية ] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية , والأوضاع النيابية البرلمانية , والحريات الصحفية , والضمانات القضائية والتشريعية , وحكم الأغلبية المنتخبة . . إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة . .
ثم ماذا كانت العاقبة ؟
 كانت العاقبة هي طغيان "الرأسمالية " ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات وكل تلك التشكيلات , إلى مجرد لافتات , أو إلى مجرد خيالات !
 ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال , فتملك معه الأغلبية البرلمانية ! والدساتير الوضعية ! والحريات الصحفية ! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم , في معزل عن الله سبحانه !!!

ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها "رأس المال" و "الطبقة ! " إلى الأنظمةالجماعية !
فماذا فعلوا ؟
 لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة "الرأسماليين" الدينونة لطبقة "الصعاليك" ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان ! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين !

وفي كل حالة وفي كل وضع وفي كل نظام دان البشر فيه للبشر , دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة . دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حالة !

إنه لا بد من عبودية ! فإن لا تكن لله وحده , تكن لغير الله . . والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء . . والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم . . ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية !

من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله - سبحانه - وفي كتبه . . وهذه السورة نموذج من تلك العناية . . فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة . ولكنها تتعلق بالإنسان كله في كل زمان وفي كل مكان ; وتتعلق بالجاهليات كلها . . جاهليات ما قبل التاريخ . وجاهليات التاريخ . وجاهلية القرن العشرين . وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد !

ومن أجل ذلك كان جوهر الرسالات والكتب هو تقرير ألوهية الله - سبحانه - وربوبيته وحده للعباد:(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).

وكان ختام هذه السورة التي نواجهها:

(قل:يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ; ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم , وأمرت أن أكون من المؤمنين . وأن أقم وجهك للدين حنيفا , ولا تكونن من المشركين . ولا تدع من دون الله , ما لا ينفعك ولا يضرك , فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو , وإن يردك بخير فلا راد لفضله , يصيب به من يشاء من عباده , وهو الغفور الرحيم . قل:يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم , فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها . وما أنا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحى إليك , واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ). .

وحسبنا هذا في التعريف بالسورة ; لنأخذ في استعراض نصوصها بالتفصيل:

الوحدة الأولى:1 - 25 الموضوع:آيات دالة على الوحدانية وتقرير حقائق إيمانية


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الوحدة

السورة كلها - كما أسلفنا في تقديمها - لحمة واحدة , يصعب تقسيمها إلى مقاطع:شأنها في هذه الخاصية شأن سورة الأنعام التي سبق الحديث عنها في الجزء السابع - مع تميز كل سورة بشخصيتها وطابعها الخاص - فهي تتدفق في هيئة موجات متوالية ; تنصب بمؤثراتها الموحية على القلب البشري , وتخاطبه بإيقاعات منوعة . . من التعجيب من أمر المشركين في استقبالهم للوحي والقرآن . إلى عرض المشاهد الكونية التي تتجلي فيها ألوهية الله سبحانه . . إلى عرض مشاهد القيامة . إلى عرض أحوال البشر في مواجهة الأحداث التي تمر بهم . إلى عرض مصارع الغابرين . . إلى آخر ما سبقت الإشارة إليه من الموضوعات والمؤثرات التي تحتويها السورة .

وإذا جاز تقسيم السورة إلى مقاطع مميزة . فإن أكثر من نصفها الأول يعد مقطعا واحدا يتدفق بهذه الموجات المتتابعة . ثم تجيء قصة نوح - ومن بعده في اختصار - وقصة موسى والإشارة إلى قصة يونس ; فتؤلف مقطعا آخر . ثم تجيء الإيقاعات الأخيرة في السورة فتؤلف المقطع الأخير .

ونظرا لطبيعة السورة هذه فسنحاول عرضها موجة موجة - أو مجموعة من الموجات المتناسقة - كما هي طبيعتها المتميزة . .

أما هذا الدرس الأول منها فيبدأ بحروف ثلاثة . (ألف . لام . را)كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف بحروف ذكرنا الرأي الذي اخترناه في تفسيرها هناك . يبدأ بهذه الأحرف مبتدأ خبره: (تلك آيات الكتاب الحكيم). .

ثم يأخذ السياق في عرض عدة أمور تبدو فيها الحكمة التي أشير إليها في وصف الكتاب . من الوحي إلى الرسول [ ص ] لينذر الناس ويبشر المؤمنين , والرد على المعترضين أن يوحي الله إلى بشر . . إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما . . إلى جعل الشمس ضياء والقمر نورا , وتقدير منازل القمر ليعلموا عدد السنين والحساب . . إلى اختلاف الليل والنهار وما فيه من حكمة وتدبير . .

ويتطرق من عرض هذه الآيات الكونية إلى الغافلين عنها , الذين لا يرتقبون لقاء الله مدبر كل شيء , وما ينتظر هؤلاء الغافلين من سوء المصير ; وما ينتظر المؤمنين في الجانب الآخر من نعيم مقيم . ويسجل حكمة تأجيل المصير إلى يومه الموعود , وعدم تعجيل الشر للناس كما يستعجلون هم الخير في هذه الدنيا ولو عجل لهم بالشر كما يستعجلون بالخير لانتهى الأجل وأخذوا بذنوبهم دون إمهال .

ومن ثم وصف لطبيعة البشر في تلقيهم للشر والخير . وضراعتهم إلى الله عند مس الأذى , ونسيانهم له عند كشف الضر . ولجاجهم فيما كانوا من قبل فيه , دون اعتبار بالقرون الخالية التي سارت في الطريق ذاته , ولقيت مصارعها في ذلك الطريق !

ومع أن مصارع الغابرين كانت واضحة للعرب الذين يدعوهم الرسول [ ص ] فإن المكذبين كانوا يطلبون إلى الرسول أن يأتي لهم بقرآن غير هذا القرآن أو يبدل بعضه . غير متدبرين ولا مدركين أن القرآن من عند الله , وأن له حكمة ثابتة فهو لا يقبل التبديل . وهم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم دون استناد إلى شيء , ويتركون عبادة الله وحده وهي تستند إلى وحي من الله . ثم يطلبون خارقة من الخوارق غير ناظرين إلى آية الله الواضحة في القرآن , غافلين عن آياته المعجزة في تضاعيف الكون .

ثم عودة إلى طبيعة البشر في تلقي الرحمة والضر . وعرض نموذج حي من هذه الطبيعة , في مشهد من المشاهدالنابضة المتحركة المؤثرة . في ركوب البحر عندما تسير الفلك في أول الأمر رخاء , ثم تعصف بها الريح ويأتيها الموج من كل مكان .

ومشهد آخر يمثل غرور هذه الحياة الدنيا , وبريقها ولألاءها الذي ينطفئ في لحظة , وأهلها مأخوذون بزخرفها غافلون عن المصير الخاطف المرهوب . . ذلك والله يدعو إلى دار السلام . دار الأمن والاطمئنان . الدار التي لا خوف من أخذها على حين غرة . . (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون). . ويدركون حكمة الله في الخلق والتدبير .

الدرس الأول:1 - 2 حقيقة الوحي ورد استنكار المشركين له

ألر تلك آيات الكتاب الحكيم . .

من هذه الحروف وأمثالها , تتألف آيات الكتاب الحكيم , الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به إلى الرسول . وهذه الحروف في متناول أيديهم , ثم لا يبلغون أن يؤلفوا منها آية واحدة من مثل آيات الكتاب - كما يتحداهم في هذه السورة - ولا يقودهم هذا إلى التدبر , وإدراك أن الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول , وأنه لولا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزا عن تأليف آية واحدة , من هذه الحروف المبذولة للجميع .

(تلك آيات الكتاب الحكيم). .

الحكيم الذي يخاطب البشر بما يناسب طبائع البشر , ويعرض في هذه السورة جوانب منها صادقة باقية , نجد مصداقها في كل جيل .

والحكيم الذي ينبه الغافلين إلى تدبر آيات الله في صفحة الكون وتضاعيفه . في السماء والأرض . وفي الشمس والقمر . وفي الليل والنهار . . وفي مصارع القرون الأولى . وفي قصص الرسل فيهم . . وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود . .

(أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس , وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ? قال الكافرون . إن هذا لساحر مبين):

سؤال استنكاري . يستنكر هذا العجب الذي تلقى به الناس حقيقة الوحي منذ كانت الرسل .

لقد كان السؤال الدائم الذي قوبل به كل رسول:أبعث الله بشرا رسولا ؟ ومبعث هذا السؤال هو عدم إدراك قيمة "الإنسان" . عدم إدراك الناس أنفسهم لقيمة "الإنسان" الذي يتمثل فيهم . فهم يستكثرون على بشر أن يكون رسول الله , وأن يتصل الله به - عن طريق الوحي - فيكلفه هداية الناس .
 إنهم ينتظرون أن يرسل الله ملكا أو خلقا آخر أعلى رتبة من الإنسان عند الله . غير ناظرين إلى تكريم الله لهذا المخلوق ; ومن تكريمه أن يكون أهلا لحمل رسالته ; وأن يختار من بين أفراده من يتصل بالله هذا الاتصال الخاص . هذه كانت شبهة الكفار المكذبين على عهد الرسول [ ص ] وشبهة أمثالهم في القرون الأولى . فأما في هذا العصر الحديث فيقيم بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم شبهة أخرى لا تقل تهافتا عن تلك !

إنهم يسألون:كيف يتم الاتصال بين بشر ذي طبيعة مادية وبين الله المخالف لطبيعة كل شيء مما خلق . والذي ليس كمثله شيء ؟


أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2)

وهو سؤال لا يحق لأحد أن يسأله إلا أن يكون قد أحاط علما بحقيقة الله سبحانه وطبيعة ذاته الإلهية , كما أحاط علما بكل خصائص الإنسان التي أودعها الله إياه . وهو ما لا يدعيه أحد يحترم عقله , ويعرف حدود هذا العقل . بل يعرف أن خصائص الإنسان القابلة للكشف ما يزال يكشف منها جديد بعد جديد , ولم يقف العلم بعد حتى يقال:إنه أدرك كل الخصائص الإنسانية القابلة للإدراك . فضلا على أنه ستبقى وراء إدراك العلم والعقل دائما آفاق من المجهول بعد آفاق !

ففي الإنسان اذن طاقات مجهولة لا يعلمها إلا الله . والله أعلم حيث يجعل رسالته في الإنسان ذي الطاقة التي تحمل هذه الرسالة . وقد تكون هذه الطاقة مجهولة للناس , ومجهولة لصاحبها نفسه قبل الرسالة . ولكن الله الذي نفخ في هذا الإنسان من روحه عليم بما تنطوي عليه كل خلية , وكل بنية , وكل مخلوق ; وقادر على أن يطوع الإنسان هذا الاتصال الخاص بكيفية لا يدركها إلا من ذاقها وأوتيها .

ولقد جهد ناس من المفسرين المحدثين في إثبات الوحي عن طريق العلم للتقريب . ونحن لا نقر هذا المنهج من أساسه . فللعلم ميدان . هو الميدان الذي يملك أدواته . وللعلم آفاق هي الآفاق التي يملك أدوات كشفها ومراقبتها . والعلم لم يدع أنه يعرف شيئا حقيقا عن الروح . فهي ليست داخلة في نطاق عمله لأنها ليست شيئا قابلا للاختبار المادي الذي يملك العلم وسائله . لذلك تجنب العلم الملتزم للأصول العلمية أن يدخل في ميدان الروح . أما ما يسمى "بالعلوم الروحانية " فهي محاولات وراءها الريب والشكوك في حقيقتها وفي أهدافها كذلك ! ولا سبيل إلى معرفة شيء يقيني في هذا الميدان إلا ما جاءنا من مصدر يقيني كالقرآن والحديث وفي الحدود التي جاء فيها بلا زيادة ولا تصرف ولا قياس . إذ أن الزيادة والتصرف والقياس عمليات عقلية .

والعقل هنا في غير ميدانه , وليس معه أدواته . لأنه لم يزود بأدوات العمل في هذا الميدان .

(أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ?).

فهذه خلاصة الوحي:إنذار الناس بعاقبة المخالفة , وتبشير المؤمنين بعقبى الطاعة . وهذا يتضمن بيان التكاليف الواجبة الاتباع وبيان النواهي الواجبة الاجتناب . فهذا هو الإنذار والتبشير ومقتضياتهما على وجه الإجمال .

والإنذار للناس جميعا . فكل الناس في حاجة إلى التبليغ والبيان والتحذير:والبشرى للذين آمنوا وحدهم . وهو يبشرهم هنا بالطمأنينة والثبات والاستقرار . . تلك المعاني التي توحي بها كلمة [ صدق ] مضافة إلى القدم . في جو الإنذار والتخويف . . "قدم صدق" . . قدم ثابتة راسخة موقنة لا تتزعزع ولا تضطرب ولا تتزلزل ولا تتردد , في جو الإنذار وفي ظلال الخوف , وفي ساعات الحرج . . (قدم صدق عند ربهم). . في الحضرة التي تطمئن فيها النفوس المؤمنة . حينما تتزلزل القلوب والأقدام .

وحكمة الله واضحة في الإيحاء إلى رجل منهم . رجل يعرفهم ويعرفونه , يطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه , بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج . أما حكمته في إرسال الرسل فهي أوضح , والإنسان مهيأ بطبعه للخير والشر , وعقله هو أداته للتمييز . ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما غم عليه الأمر , وأحاطت به الشبهات , وجذبته التيارات والشهوات , وأثرت فيه المؤثرات العارضة التي تصيب البدن والأعصاب والمزاج , فتتغير وتتبدل تقديرات العقل أحيانا من النقيض إلى النقيض . هو في حاجةإلى ميزان مضبوط لا يتأثر بهذه المؤثرات ليعود إليه , وينزل على إرشاده , ويرجع إلى الصواب على هداه .

وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعة الله .

وهذا يقتضي أن تكون لدين الله حقيقة ثابتة يرجع إليها العقل البشري بمفهوماته كلها ; فيعرضها على هذا الميزان الثابت , وهناك يعرف صحيحها من خاطئها . . والقول بأن دين الله هو دائما "مفهوم البشر لدين الله" وأنه من ثم "متطور في أصوله" يعرض هذه القاعدة الأساسية في دين الله - وهي ثبات حقيقته وميزانه - لخطر التميع والتأرجح والدوران المستمر مع المفهومات البشرية . بحيث لا يبقي هنالك ميزان ثابت تعرض عليه المفهومات البشرية . .

والمسافة قصيرة بين هذا القول , والقول بأن الدين من صنع البشر . . فالنتيجة النهائية واحدة , والمزلق خطر وخطير للغاية , والمنهج بجملته يستوجب الحذر الشديد . . منه ومن نتائجه القريبة والبعيدة . .

ومع وضوح قضية الوحي على هذا النحو , فإن الكافرين يستقبلونها كما لو كانت أمرا عجيبا:

(قال الكافرون:إن هذا لساحر مبين). .

ساحر لأن ما ينطق به معجز . وأولى لهم - لو كانوا يتدبرون - أن يقولوا:نبي يوحى إليه لأن ما ينطق به معجز . فالسحر لا يتضمن من الحقائق الكونية الكبرى ومن منهج الحياة والحركة , ومن التوجيه والتشريع ما يقوم به مجتمع راق , وما يرتكز عليه نظام متفرد . .

ولقد كان يختلط عندهم الوحي بالسحر , لاختلاط الدين بالسحر في الوثنيات كلها ; ولم يكن قد وضح لهم ما يتضح للمسلم حين يدرك حقيقة دين الله ; فينجو من هذه الوثنيات وأوهامها وأساطيرها .

الدرس الثاني:3 - 6 بعض الآيات من فعل الله دالة على وحدانيته

(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام , ثم استوى على العرش , يدبر الأمر , ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ؟ إليه مرجعكم جميعا , وعد الله حقا , إنه يبدأ الخلق ثم يعيده , ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط , والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق الله ذلك إلا بالحق , يفصل الآيات لقوم يعلمون , إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ).

وهذه هي القضية الأساسية الكبرى في العقيدة . قضية الربوبية . . فقضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين . فهم كانوا يعتقدون بوجود الله - لأن الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الاعتقاد بوجود إله لهذا الكون إلا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف - ولكنهم كانوا يشركون مع الله أربابا يتوجهون إليهم بالعبادة .

إما ليقربوهم إلى الله زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله .

والقرآن الكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية - كالذي جد فيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية - إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر:

(إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن . وجعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل . وقدر اختلاف الليل والنهار ). . 
هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس , وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرهاتدبر الواعي المدرك . . إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئاً من خلقه . . أليست قضية منطقية حية واقعية , لا تحتاج إلى كد ذهن , ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة , ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان ?!

إن هذا الكون الهائل . سماواته وأرضه . شمسه وقمره . ليله ونهاره . وما في السماوات والأرض من خلق , ومن أمم ومن سنن , ومن نبات ومن طير ومن حيوان , كلها تجري على تلك السنن . .

إن هذا الليل الطامي السادل الشامل , الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح .
 وهذا الفجر المتفتح في سدف الليل كابتسامة الوليد الراضي . وهذه الحركة يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء . وهذه الظلال الساربة يحسبها الرائى ساكنة وهي تدب في لطف . وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال . وهذا النبت النامي المتطلع أبدا إلى النمو والحياة . وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق . وهذه الأرحام التي تدفع والقبور التي تبلغ , والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله . .

إن هذا الحشد من الصور والظلال , والأنماط والأشكال , والحركات والأحوال , والرواح والذهاب , والبلى والتجدد , والذبول والنماء , والميلاد والممات , والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار . .

إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتأثر , حين يستيقظ القلب , ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه . . والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب والعقل لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات .

(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام). .

إن ربكم الذي يستحق الربوبية والعبادة هو هذا الخالق , الذي خلق السماوات والأرض . خلقها في تقدير وحكمه وتدبير:

(في ستة أيام).

حسب ما اقتضت حكمته أن يتم تركيبها وتنسيقها وتهيئتها لما أراده الله .

ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة , فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها . إنما ذكرت لبيان حكمة التقدير والتدبير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق , وتهيئته لبلوغ هذه الغاية . .

وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله , الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر . فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه . والمقصود بذكرها هو الإشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام , الذي يسير به الكون من بدئه إلى منتهاه .

(ثم استوى على العرش). .

والاستواء على العرش . كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة , باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني , على طريقة القرآن في التصوير [ كما فصلنا هذا في فصل التخييل الحسي والتجسيم من كتاب التصوير الفني في القرآن ] .

و(ثم)هنا ليست للتراخي الزماني , إنما هي للبعد المعنوي . فالزمان في هذا المقام لا ظل له . وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله - سبحانه - ثم كانت . فهو - سبحانه - منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمانوالمكان . لذلك نجزم بأن(ثم)هنا للبعد المعنوي , ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم . لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات , وعن مقتضيات الزمان والمكان .

(يدبر الأمر). .

ويقدر أوائله وأواخره , وينسق أحواله ومقتضياته , ويرتب مقدماته ونتائجه , ويختار الناموس الذي يحكم خطواته وأطواره ومصائره .

(ما من شفيع إلا من بعد إذنه). .

فالأمر كله له , والحكم كله إليه . وما من شفعاء يقربون إلى اللّه زلفى . وما من شفيع من خلقه إلا حيث يأذن له بالشفاعة , وفقاً لتدبيره وتقديره , واستحقاق الشفاعة بالإيمان والعمل الصالح , لا بمجرد التوسل بالشفعاء . . وهذا يواجه ما كانوا يعتقدونه من أن للملائكة التي يعبدون تماثيلها شفاعة لا ترد عند الله !

ذلكم اللّه الخالق المدبر الحاكم الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه . . (ذلكم الله ربكم). . الخليق بالربوبية(فاعبدوه)فهو الذي يستحق الدينونة له دون سواه . . (أفلا تذكرون)? . .
 فالأمر من الثبوت والوضوح بحيث لا يحتاج إلا لمجرد التذكر لهذه الحقيقة المعروفة . .

ونقف لحظة أمام قوله تعالى بعد عرض دلائل الألوهية في السماوات والأرض:

(ذلكم الله ربكم فاعبدوه). .

وقد قلنا:إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين , فقد كانوا يعترفون بأن الله - سبحانه - هو الخالق الرازق المحي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء . . ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته . فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم . . والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده ; فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له ; ولا يحكمون في أمرهم كله غيره . . وهذا معنى قوله تعالى:

(ذلكم الله ربكم فاعبدوه). .

فالعبادة هي العبودية , وهي الدينونة , وهي الاتباع والطاعة , مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها , لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية .

وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية . ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان ; وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية ; دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية . . أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره , وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه . .

كذلك ينحسر معنى "العبادة " في الجاهلية , حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر . ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده , فقد عبدوا الله وحده . . بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد . و "عبد" تفيد ابتداء "دان وخضع" . وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها .

والجاهلية ليست فترة من الزمان , ولا مرحلة من المراحل . إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو , ومعنى العبادة . هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله ! كما هو الحال



(إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4)..)

اليوم في كل بلاد الأرض , بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين , ويؤدون الشعائر للّه , بينما أربابهم غير اللّه , لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته , وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه , ويتبعون ما يشرعه لهم , وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله [ ص ] " . . . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " .
 [ في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي ] .

ولتوكيد معنى العبادة المقصود جاء في السورة ذاتها قوله تعالى:(قل:أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا . قل:آلله أذن لكم أم على الله تفترون ?). .

وما نحن فيه اليوم لا يفترق في شيء عما كان عليه أهل الجاهلية هؤلاء الذين يناديهم الله بقوله:

(ذلكم الله ربكم فاعبدوه . أفلا تذكرون !). .

اعبدوه ولا تشركوا به شيئا . فإن مرجعكم إليه , وحسابكم عنده , وهو يجزي المؤمنين والكافرين:

(إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا). .

إليه وحده لا للشركاء والشفعاء .

وقد وعد فلا خلف ولا تخلف , فالبعث هو تتمة الخلق:

(إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط , والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون). .

فالعدل في الجزاء غاية من غايات الخلق والإعادة:

(ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط . . .).

والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة . إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية . والبشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر , والتي لا تخلو فيها لذة من غصة , أو من عقابيل تعقبها - إلا لذائذ الروح الخالصة وهذه قلما تخلص لبشر - ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصا منها وحائلا دون كمالها .
 فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها , وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما , والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء . . وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل . فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية , الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم , إلى أعلى مراتب البشرية .

فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس , فلم يسيروا في طريق الكمال البشري , بل جانبوه . وهذا يقتضي - حسب السنة التي لا تتخلف - ألا يصلوا إلى مرتبة الكمال , لأنهم جانبوا قانون الكمال ; وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية . هذا يلقاه مرضا وضعفا , وأولئك يلقونه ترديا وانتكاسا , وغصصا بلا لذائذ - في مقابل اللذائذ بلا غصص .

(والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون). .

وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده , الذي إليه المرجع وعنده


هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

الجزاء . . يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض:

(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً , وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق الله ذلك إلا بالحق . يفصل الآيات لقوم يعلمون). .

فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون , ننساهما لطول الألفة , ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار .

وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب , وأول مطلع قمر وأول مغيب ?

هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما , ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة , وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي , والتأمل الذي لم يبلده التكرار , والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم:

(هو الذي جعل الشمس ضياء). .

فيها اشتعال .

(والقمر نوراً). .

فيه إنارة .

(وقدره منازل). .

ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة , كما هو مشهود في القمر , بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون .

(لتعلموا عدد السنين والحساب). .

وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس 

هل هذا كله عبث ؟ هل هذا كله باطل ؟ هل هذا كله مصادفة ؟

كلا ما يكون كل هذا النظام , وكل هذا التناسق , وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة . ما يكون هذا كله عبثا ولا باطلا ولا مصادفة عابرة:

(ما خلق الله ذلك إلا بالحق). .

الحق قوامه . والحق أداته . والحق غايته . والحق ثابت راجح راسخ . وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة:

(يفصل الآيات لقوم يعلمون). .

فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر .

ومن خلق السماوات والأرض , ومن جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار , وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب:

(إن في اختلاف الليل والنهار , وما خلق الله في السماوات والأرض . . لآيات لقوم يتقون). .

واختلاف الليل والنهار تعاقبهما . ويشمل كذلك اختلافهما طولا وقصرا . وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس . إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس , وينتفض فيها الوجدان



إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

للمطالع والمغارب , فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون , يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب . وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية , وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الاستقبال والاستجابة . .

(وما خلق الله في السماوات والأرض). .

ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب (ما خلق الله في السماوات والأرض)ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس , والهيئات والأحوال , والأوضاع والأشكال . لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها , ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش . . ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب , فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة , ثم يتركه ليتملاه . . إن في ذلك كله:

(لآيات لقوم يتقون). .

تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص . وجدان التقوى . الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة , سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع .

هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية , المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون ; والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة , وإيحاءات مسموعة !

ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة ; لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة ; ولا تؤدي إلى بناء حياة ; وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء !

ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني - بأسلوبه هذا - هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعا - وهذه ميزتها - فإن وجود هذا الكون ذاته أولا . ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة ; وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر - حتى قبل أن يعرفها البشر - ثانيا . . إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة . .

والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلا معقولا . ولا يزيدون على أن يقولوا:إن الكون وجد هكذا بقوانينه ; وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل ; ووجوده يتضمن قوانينه ! فإن كان هذا كلاما مفهوما - أو معقولا - فذاك !

ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا ; لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله ! ثم أصبح يقال هنا وهناك , لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله . ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله . ثم يماري في ربوبيته , على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة . فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته .
ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم ; فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع . . فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء !


إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)

ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى "إسلامية " يروج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم "العلم" و "العلمية " ! فيقال:إن "الغيبية " لا مكان لها في الأنظمة "العلمية " . . ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية . . ! ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب . لا يخشون الله إنما يخشون الناس , فيحتالون عليهم هذا الاحتيال !

وما تزال دلالة وجود الكون ذاته , ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة . تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك . والفطرة البشرية بجملتها - قلبا وعقلا وحسا ووجدانا - تواجه هذه الدلالة , وتستجيب لها . وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها . يخاطبها من أقصر طريق , ومن أوسع طريق وأعمق طريق !!!

الدرس الثالث:7 - 10 بين المؤمنين بالآخرة والمنكرين بها

والذين يرون كل هذا , ثم لا يتوقعون لقاء الله ; ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة , وأن الدنيا ليست النهاية , لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود ; والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين , لا تحرك فيهم قلبا يتدبر , ولا عقلا يتفكر . . هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري , ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون . إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات , حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم:

(إن الذين لا يرجون لقاءنا , ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها , والذين هم عن آياتنا غافلون , أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ; تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم . دعواهم فيها سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). .

إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقا مدبرا , لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام , يتم فيها تحقيق القسط والعدل ; كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا . ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله , ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا , بما فيها من نقص وهبوط , ويرضونها ويستغرقون فيها , فلا ينكرون فيها نقصا , ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر ; وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر , ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم . والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط , لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة , ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق . إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائما إلى هذه الأرض وما عليها ! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب , وترفع الحس , وتحفز إلى التطلع والكمال . .

(أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون). .

وبئس المأوى وبئس المصير !

وفي الضفة الأخرى الذين آمنوا وعملوا الصالحات . الذين آمنوا فأدركوا أن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا , وعملوا الصالحات بمقتضى هذا الإيمان , تحقيقا لأمر الله بعمل الصالحات , وانتظارا للآخرة الطيبة . . وطريقها هو الصالحات . . هؤلاء .

(يهديهم ربهم بإيمانهم). .

يهديهم إلى الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين الله , ويفتح بصائرهم على استقامة


دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

الطريق , ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه .  هؤلاء يدخلون الجنة .

(تجري من تحتهم الأنهار). .

وما يزال الماء ولن يزال يوحي بالخصب والري والنماء والحياة .

فما همومهم في هذه الجنة وما هي شواغلهم , وما هي دعواهم التي يحبون تحقيقها ؟
إن همومهم ليست مالاً ولا جاهاً , وإن شواغلهم ليست دفع أذى ولا تحصيل مصلحة . لقد كفوا شر ذلك كله , ولقد اكتفوا فما لهم من حاجة من تلك الحاجات , ولقد استغنوا بما وهبهم الله , ولقد ارتفعوا عن مثل هذه الشواغل والهموم . إن أقصى ما يشغلهم حتى ليوصف بأنه(دعواهم)هو تسبيح الله أولا وحمده أخيرا , يتخلل هذا وذاك تحيات بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين ملائكة الرحمن:

(دعواهم فيها:سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم:أن الحمد لله رب العالمين). .

إنه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا وشواغلها ; والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها , والرفرفة في آفاق الرضى والتسبيح والحمد والسلام . تلك الآفاق اللائقة بكمال الإنسان .

الدرس الرابع:11 - 14 إشارة إلى الطبيعة الإنسانية ولفت نظر الكفار لهلاك السابقين

بعد ذلك يواجه السياق القرآني تحديهم لرسول اللّه [ ص ] وطلبهم تعجيل العذاب الذي يتوعدهم به ; ببيان أن تأجيله إلى أجل مسمى هو حكمة من اللّه ورحمة . ويرسم لهم مشهدهم حين يصيبهم الضر فعلا , فتتعرى فطرتهم من الركام وتتجه إلى خالقها . فإذا ارتفع الضر عاد المسرفون إلى ما كانوا فيه من غفلة . ويذكرهم مصارع الغابرين الذين استخلفوا هم من بعدهم ; ويلوح لهم بمثل هذا المصير ; ويبين لهم أن الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء وبعدها الجزاء . .

(ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم , فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون . وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما , فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه , كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون . ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا , وجاءتهم رسلهم بالبينات , وما كانوا ليؤمنوا , كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم , لننظر كيف تعملون).

ولقد كان المشركون العرب يتحدون رسول الله [ ص ] أن يعجل لهم العذاب . . ومما حكاه الله تعالى عنهم في هذه السورة:(ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين).
وورد في غيرها: (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات)
كما حكى القرآن الكريم قولهم:(وإذ قالوا:اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم). .

وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله . . وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم , فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعهم بالمكذبين قبلهم . فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين , فيقوم عليها , وينطلق في الأرض بها . وكان ذلك بعد فتح مكة , مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة !

غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي . لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر !

والله سبحانه يقول لهم في الآية الأولى:إنه لو عجل لهم بالشر الذي يتحدون باستعجاله , استعجالهم بالخير الذي يطلبونه . . لو استجاب الله لهم في استعجالهم كله لقضى عليهم , وعجل بأجلهم ! ولكنه يستبقيهم


وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12)

لما أجلهم له . . ثم يحذرهم من هذا الإمهال أن يغفلوا عما وراءه . فالذين لا يرجون لقاءه سيظلون في عمايتهم يتخبطون , حتى يأتيهم الأجل المرسوم .

وبمناسبة الحديث عن استعجال الشر يعرض صورة بشرية للإنسان عندما يمسه الضر , تكشف عن التناقض في طبيعة هذا الإنسان الذي يستعجل الشر وهو يشفق من مس الضر , فإذا كشف عنه عاد إلى ما كان فيه:

(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ; فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه . كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون). .

إنها صورة مبدعة لنموذج بشري مكرور . . وإن الإنسان ليظل مدفوعا مع تيار الحياة , يخطئ ويذنب ويطغى ويسرف , والصحة موفورة , والظروف مواتية . وليس - إلا من عصم الله ورحم - من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن هناك ضعفا وأن هناك عجزا . وساعات الرخاء تنسي , والإحساس بالغنى يطغي . . ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع , وإذا هو كثير الدعاء , عريض الرجاء , ضيق بالشدة مستعجل للرخاء . فإذا استجيب الدعاء وكشف الضر انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر . انطلق إلى ما كان فيه من قبل من اندفاع واستهتار .

والسياق ينسق خطوات التعبير وإيقاعه مع الحالة النفسية التي يصورها , والنموذج البشري الذي يعرضه . فيصور منظر الضر في بطء وتلبث وتطويل:

(دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً). .

يعرض كل حالة وكل وضع وكل منظر , ليصور وقفة هذا الإنسان وقد توقف التيار الدافع في جسمه أو في ماله أو في قوته كما يتوقف التيار أمام السد , فيقف أو يرتد . حتى إذا رفع الحاجز(مر) كلمة واحدة تصور الاندفاع والمروق والانطلاق .(مر)لا يتوقف .

ليشكر , ولا يلتفت ليتدبر , ولا يتأمل ليعتبر:

(مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه). .

واندفع مع تيار الحياة دون كابح ولا زاجر ولا مبالاة !

وبمثل هذه الطبيعة . طبيعة التذكر فقط عند الضر , حتى إذا ارتفع انطلق ومر . بمثل هذه الطبيعة استمر المسرفون في إسرافهم , لا يحسون ما فيه من تجاوز للحدود:

كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون . .

فماذا كانت نهاية الإسراف في القرون الأولى ؟

(ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا , وجاءتهم رسلهم بالبينات , وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين). .

لقد انتهى بهم الإسراف وتجاوز الحد والظلم - وهو الشرك - إلى الهلاك . وهذه مصارعهم كانوا يرون بقيتها في الجزيرة العربية في مساكن عاد وثمود وقرى قوم لوط . .

وتلك القرون . جاءتهم رسلهم بالبينات كما جاءكم رسولكم:

(وما كانوا ليؤمنوا). .


وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)

لأنهم لم يسلكوا طريق الإيمان , وسلكوا طريق الطغيان فأبعدوا فيها , فلم يعودوا مهيئين للإيمان . فلقوا جزاء المجرمين . .

(كذلك نجزي القوم المجرمين). .

وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين , الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا , فحق عليهم العذاب , يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين , وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه:

(ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون). .

وهي لمسة قوية للقلب البشري ; إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أذيل من مالكيه الأوائل , وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه , وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك , وإنما هي أيام يقضيها فيه , ممتحنا بما يكون منه , مبتلى بهذا الملك , محاسبا على ما يكسب , بعد بقاء فيه قليل !

إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري . . فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع . . يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى , هي صمام الأمن له , وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه .

إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض , وبكل شيء يملكه , وبكل متاع يتاح له , يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة ; ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا , ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه .

وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به , والتي يصورها قول الله سبحانه:

(لننظر كيف تعملون). .

ليجعله شديد التوقي , شديد الحذر , شديد الرغبة في الإحسان , وفي النجاة أيضا من هذا الامتحان ! وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية ; والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها ! . . فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش بتلك التصورات القاصرة . . لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة , ولا في خلق , ولا في حركة ; كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان !

والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان . ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي ; وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة . وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة , ولا بمنتجات هذه الحياة أيضا !

والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية , والنظام الإسلامي , بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر , لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان !

الدرس الخامس:15 - 20 نقض شبهات الكفار حول الوحي والقرآن

وهنا يتحول السياق من خطابهم إلى عرض نماذج من أعمالهم بعد استخلافهم .

لقد استخلفوا بعد القوم المجرمين . فماذا فعلوا ؟

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( 15 )



وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20)

أبدله من تلقاء نفسي , إن أتبع إلا ما يوحى إلي , إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل:لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به , فقد لبثت فيكم عمرا من قبله . أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون). .

(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ; ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله . قل:أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون . وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا , ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون . ويقولون:لولا أنزل عليه آية من ربه , فقل:إنما الغيب لله , فانتظروا إني معكم من المنتظرين).

هكذا كان عملهم بعد الاستخلاف , وهكذا كان سلوكهم مع الرسول !!!

(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا:ائت بقرآن غير هذا أو بدله). .

وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد , إنما يصدر عن عبث وهزل ; وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله . وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله !

إن هذا القرآن دستور حياة شامل , منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية ,

ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق , ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف . ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه , أو يطلب تبديل بعض أجزائه .

وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله ; كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة , ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية . فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآنا آخر , أو يؤلف جزءا مكان جزء ?!

قال:ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . .

إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر . إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله , وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه . فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه . وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه . وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم .

(قل:لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به . فقد لبثت فيكم عمرا من قبله . أفلا تعقلون ?).

إنه وحي من الله , وتبليغه لكم أمر من الله كذلك . ولو شاء الله ألا أتلوه عليكم ما تلوته , ولو شاء الله ألا يعلمكم به ما أعلمكم . فالأمر كله لله في نزول هذا القرآن وفي تبليغه للناس . قل لهم هذا . وقل لهم:إنك لبثت فيهم عمرا كاملا من قبل الرسالة . أربعين سنة . فلم تحدثهم بشيء من هذا القرآن . لأنك لم تكن تملكه . لم يكن قد أوحي إليك . ولو كان في استطاعتك عمل مثله أو أجزاء منه فما الذي أقعدك عمرا كاملا ?

ألا إنه الوحي الذي لا تملك من أمره شيئا إلا البلاغ . .

وقل لهم:ما كان لي أن أفتري على الله الكذب , وأن أقول:إنه أوحي إلي إلا بالحق . فليس هنالك ما هو أشد ظلما ممن يفتري على الله أو من يكذب بآيات الله:

(فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ?). .
وأنا أنهاكم عن ثانية الجريمتين , وهي التكذيب بآيات الله , فلا أرتكب أولاهما ولا أكذب على الله:

(إنه لا يفلح المجرمون). .

ويستمر السياق يعرض ما فعلوه وما قالوه بعد استخلافهم في الأرض . غير هذا الهزل في طلب قرآن جديد . .

ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم , ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله , قل:أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون .

والنفس حين تنحرف لا تقف عند حد من السخف . وهذه الأرباب المتعددة التي يعبدونها لا تملك لهم ضررا ولا نفعا , ولكنهم يظنونها تشفع لهم عند الله:

ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله . .

(قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ?). .

فالله سبحانه لا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون ! فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه الله وتنبئونه بما لا يعلم له وجودا في السماوات ولا في الأرض ?!

إنه أسلوب ساخر يليق بهذا السخف الذي يلجون فيه . يعقبه التنزيه لله عما لا يليق بجلاله مما يدعون:

(سبحانه وتعالى عما يشركون).

وقبل أن يمضي في عرض ما قالوه وما فعلوه , يعقب على هذا الشرك , بأنه عارض . والفطرة في أصلها كانت على التوحيد , ثم جد الخلاف بعد حين:

(وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا). .

وقد اقتضت مشيئة الله أن يمهلهم جميعا إلى أجل يستوفونه , وسبقت كلمته بذلك فنفذت لحكمة يريدها:

(ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون).

وبعد هذا التعقيب يمضي في الاستعراض لما يقول المستخلفون:

(ويقولون:لولا أنزل عليه آية من ربه ! فقل:إنما الغيب لله , فانتظروا إني معكم من المنتظرين). .

فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم المعجز لا تكفيهم . وكل آيات الله المبثوثة في تضاعيف الكون لا تكفيهم . وهم يقترحون خارقة كخوارق الرسل في الأمم قبلهم . غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية . وطبيعة معجزتها . فهي ليست معجزة وقتية تنتهي بمشاهدة جيل , إنما هي المعجزة الدائمة التي تخاطب القلب والعقل في جيل بعد جيل .

ويوجه الله رسوله أن يحيلهم على الله الذي يعلم ما في غيبه , ويقدر إن كان سيبرز لهم خارقة أو لا يبرز:

(فقل:إنما الغيب لله . فانتظروا إني معكم من المنتظرين). .

وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد . . وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية . فإن محمدا [ ص ] وهو أعظم الأنبياء المرسلين , لا يملك من أمر الغيب شيئا , فالغيب كله لله . ولا يملك من أمر الناس شيئا , فأمرهم موكول إلى الله . . وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية , ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة . .


وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)

الدرس السادس:21 - 23 لجوء الناس إلى الله عند الشدة ونسيانه عند الرخاء

وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون , يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر , حين يذوقون الرحمة بعد الضر . كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه . ويضرب لهم مثلا مما يقع في الحياة يصدق ذلك , فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية:

(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم , إذا لهم مكر في آياتنا . قل:الله أسرع مكراً , إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر , حتى إذا كنتم في الفلك , وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف , وجاءهم الموج من كل مكان , وظنوا أنهم أحيط بهم , دعوا الله مخلصين له الدين:لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا , ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). .

عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة , ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة . فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان . . ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن , مجلوة دائما بجلاء الإيمان . .

(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم , إذا لهم مكر في آياتنا). .

كذلك صنع قوم فرعون مع موسى . فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه . فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها , وقالوا:إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا . . وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك , فجاءت محمدا تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا , ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه ! وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان .

(قل:الله أسرع مكرا . إن رسلنا يكتبون ما تمكرون). .

فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون . ومكرهم مكشوف لديه ومعروف , والمكر المكشوف إبطاله مضمون:

(إن رسلنا يكتبون ما تمكرون). .

فلا شيء منه يخفى , ولا شيء منه ينسى . أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون , فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئا إلا من مثل هذا النص , فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح .

ثم ذلك المشهد الحي , الذي يعرض كأنه يقع , وتشهده العيون , وتتابعه المشاعر , وتخفق معه القلوب . يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون:

(هو الذي يسيركم في البر والبحر). .

ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك .

ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب:

(حتى إذا كنتم في الفلك). .

وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء . .

(وجرين بهم بريح طيبة). .


هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)

وهذه مشاعر أهل الفلك ندركها:

(وفرحوا بها). .

وفي هذا الرخاء الآمن , وفي هذا السرور الشامل , تقع المفاجأة , فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين:

(جاءتها ريح عاصف).

يا للهول !

(وجاءهم الموج من كل مكان). .

وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها , ولاطمها الموج وشالها وحطها , ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم . . وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص:

(وظنوا أنهم أحيط بهم). .

فلا مجال للنجاة . .

عندئذ فقط , وفي وسط هذا الهول المتلاطم , تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب , وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات , وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه:

(دعوا الله مخلصين له الدين:لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)!

وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج , وتهدأ الأنفاس اللاهثة , وتسكن القلوب الطائرة , وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ , ويوقن الناس بالحياة , وأرجلهم مستقرة على اليابسة . فماذا ?

(فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق !). .

هكذا بغتة ومفاجأة !

إنه مشهد كامل , لم تفتنا منه حركة ولا خالجة . . مشهد حادث . ولكنه مشهد نفس , ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل . ومن ثم يجيء التعقيب تحذيرا للناس أجمعين:

(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم). .

سواء كان بغيا على النفس خاصة , بإيرادها موارد التهلكة , والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية ; أو كان بغيا على الناس فالناس نفس واحدة . على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة .

والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه , واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده .

والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدينا , قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة .

يذوقون هذه العاقبة فسادا في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به , ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضار به .

إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله . وإما أن يتعبدهم الطغاة . والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض , وربوبية الله وحدها في حياة البشر , هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة , ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد , ودنس المستنقع , وامتهان الكرامة , وفساد المجتمع , ودناءة الحياة !


فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . . متاع الحياة الدنيا). .

لا تزيدون عليه !

(ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). .

فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك , بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء

الدرس السابع:24 - 25 زوال الدنيا بالقياس إلى دار السلام في الآخرة

وما قيمة (متاع الحياة الدنيا)هذا وما حقيقته ؟ يصور السياق هذه الحقيقة في مشهد من مشاهد القرآن التصويرية الحافلة بالحركة والحياة , وهي مع ذلك من المشاهدات التي تقع في كل يوم , ويمر عليها الأحياء دون انتباه:

(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام . حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت , وظن أهلها أنهم قادرون عليها . . أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون). .

ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها , حين يرضون بها , ويقفون عندها , ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى . .

هذا هو الماء ينزل من السماء , وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر . وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج . وأهلها مزهوون بها , يظنون أنها بجهدهم ازدهرت , وبإرادتهم تزينت , وأنهم أصحاب الأمر فيها , لا يغيرها عليهم مغير , ولا ينازعهم فيها منازع .

وفي وسط هذا الخصب الممرع , وفي نشوة هذا الفرح الملعلع , وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق . .

(أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس). .

في ومضة , وفي جملة , وفي خطفة . . وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان .

وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس , ويضيعون الآخرة كلها لينالوا منها بعض المتاع .

هذه هي . لا أمن فيها ولا اطمئنان , ولا ثبات فيها ولا استقرار , ولا يملك الناس من أمرها شيئا إلا بمقدار .

هذه هي . .

(واللّه يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).

فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة , وقد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس . . ودار السلام التي يدعو إليها الله , ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها . حينما تنفتح بصيرته , ويتطلع إلى دار السلام .

الوحدة الثانية:26 - 70 الموضوع:لمسات وحدانية وآيات كونية على الحقائق الإعتقادية مقدمة الوحدة


هذا الدرس كله لمسات وجدانية متتابعة , تنتهي كلها إلى هدف واحد:مواجهة الفطرة البشرية بدلائل توحيد الله وصدق الرسول , واليقين باليوم الآخر . والعدل فيه .

لمسات وجدانية تأخذ النفس من أقطارها , وتأخذ بها إلى أقطار الكون , في جولة واسعة شاملة . جولة من الأرض إلى السماء . ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس . ومن ماضي القرون إلى الحاضر القريب . ومن الدنيا إلى الآخرة . . في سياق . .


وفي الدرس الماضي لمسات من هذه , وجولات من هذه . . ولكنها في هذا الدرس أظهر . . فمن معرض الحشر , إلى مشاهد الكون , إلى ذات النفس , إلى التحدي بالقرآن , إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين . ومن ثم لمحة عابرة من الحشر في مشهد جديد , إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب في صورة موحية للحس بالتوجس , إلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء , إلى بعض آيات الله في الكون , إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب . .

إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة , لا تملك فطرة سليمة التلقي , صحيحة الاستجابة , ألا تستجيب لها , وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة , ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود . .

لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم وهم يتناهون عن الاستماع إليه خيفة أن يجرفهم تأثيره ويزلزل قلوبهم ! وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين !

الدرس الأول:26 - 30 بين نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين

(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة , ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة , أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ).


وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)

(والذين كسبوا السيئات جزاء سيئه بمثلها وترهقهم ذلة , مالهم من الله من عاصم , كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما , أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .

كانت آخر آية في الدرس السابق:(والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). .

فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين . ويكشف عن رحمة الله وفضله , وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء .

فأما الذين أحسنوا . أحسنوا الاعتقاد , وأحسنوا العمل , وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم , وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام . . فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا , وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة:

(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة). .

وهم ناجون من كربات يوم الحشر , ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق:

(ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة). .

والقتر:الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق . والذلة:الانكسار والمهانة أو الإهانة . فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة . . والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه , فالنجاة من هذا كله غنيمة , وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه . .

(أولئك). . أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق (أصحاب الجنة)وملاكها ورفاقها (هم فيها خالدون).

(والذين كسبوا السيئات). .

فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة ! هؤلاء ينالهم عدل الله , فلا يضاعف لهم الجزاء , ولا يزاد عليهم السوء . ولكن:

(جزاء سيئة بمثلها). . (وترهقهم ذلة). .

تغشاهم وتركبهم وتكربهم .

(ما لهم من الله من عاصم). .

يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم , نفاذا لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق , ويخالف الناموس . . ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب:

(كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما). .

كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعا غشيت بها هذه الوجوه ! وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته , تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم . .

(أولئك). . المبعدون في هذا الظلام والقتام (أصحاب النار). . ملاكها ورفاقها (هم فيها خالدون).

ولكن أين الشركاء والشفعاء ? 
وكيف لم يعصموهم من دون الله ?
هذه هي قصتهم في يوم الحشر العصيب:

(ويوم نحشرهم جميعا , ثم نقول للذين أشركوا:مكانكم أنتم وشركاؤكم . فزيلنا بينهم . وقال شركاؤهم:


وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30)

ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى باللّه شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين . . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت , وردوا إلى الله مولاهم الحق . وضل عنهم ما كانوا يفترون). .

هذه هي قصة الشفعاء والشركاء في مشهد من مشاهد القيامة , مشهد حي أبلغ من الإخبار المجرد بأن الشركاء والشفعاء لن يعصموا عبادهم من الله , ولن يملكوا لهم خلاصا ولا نجاة .

هؤلاء هم محشورون جميعا . . الكفار والشركاء . . وهم كانوا يزعمونهم شركاء لله , ولكن القرآن يسميهم(شركاءهم)تهكما من جهة , وإشارة إلى أنهم من صنعهم هم ولم يكونوا يوما شركاء لله .

هؤلاء هم جميعا كفارا وشركاء . يصدر إليهم الأمر:

(مكانكم أنتم وشركاؤكم). .

قفوا حيث أنتم . ولا بد أن يكونوا قد تسمروا في أماكنهم ! فالأمر يومئذ للنفاذ . ثم فرق بينهم وبين شركائهم وحجز بينهما في الموقف:

(فزيلنا بينهم). .

وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن يتكلم الشركاء يتكلمون ليبرئوا أنفسهم من الجريمة . جريمة أن عبدهم هؤلاء الكفار مع الله , أو من دون الله , وإعلان أنهم لم يعلموا بعبادتهم إياهم ولم يشعروا , فهم إذن لم يشتركوا في الجناية , ويشهدون الله وحده على ما يقولون:

(وقال شركاؤهم:ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين). .

هؤلاء هم الشركاء الذين كانوا يعبدون . هؤلاء هم ضعاف يطلبون البراءة من إثم أتباعهم . ويجعلون الله وحده شهيدا , ويطلبون النجاة من إثم لم يشاركوا فيه !

عندئذ , وفي هذا الموقف المكشوف , تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل , وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة:

هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت . .

وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع , وما عداه باطل:

(وردوا إلى الله مولاهم الحق). .

وهنالك لا يجد المشركون شيئا من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم , فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود:

(وضل عنهم ما كانوا يفترون). .

وهكذا يتجلى المشهد الحي , في ساحة الحشر , بكل حقائقه , وبكل وقائعه , وبكل مؤثراته واستجاباته . تعرضه تلك الكلمات القلائل , فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد , ولا براهين الجدل الطويل !

الدرس الثاني:31 - 36 اعتراف الكفار بأن الأمور بيد الله وذمهم على الخضوع لغير الله

ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل , ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه . إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه , وإلى أنفسهم التي يعلمونها , وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة . بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله:

(قل:من يرزقكم من السماء والأرض ? أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت


قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33)

ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون:الله . فقل:أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق , فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون ?). .

ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله , ولا أنه الخالق , والرازق , والمدبر . إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى , أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله . فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم , ليصحح لهم - عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري - ذلك الخلط والضلال .

(قل:من يرزقكم من السماء والأرض ?). .

من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع , ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها , ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم . وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض . وهو أوسع من ذلك بكثير . وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض , يستخدمونه أحيانا في الخير ويستخدمونه أحيانا في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل . وكله من رزق الله المسخر للإنسان . فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق . ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق . ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق . حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق !

(أم من يملك السمع والأبصار ?). .

يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها , ويصححها أو يمرضها , ويصرفها إلى العمل أو يلهيها , ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره . . ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار . وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه . وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر , ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة . وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات , أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات , لعالم وحده يدير الرؤوس , عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث ! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان , لا يقاس في شيء إلى صنع الله . بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون !

(ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ?). .

وكانوا يعدون الساكن هو الميت , والنامي أو المتحرك هو الحي . فكان مدلول السؤال عندهم مشهودا في خروج النبتة من الحبة , والحبة من النبتة , وخروج الفرخ من البيضة , والبيضة من الفرخ . . إلى آخر هذه المشاهدات . وهو عندهم عجيب . وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء ; بما فيها من حياة كامنة واستعداد . فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله . .

وإن وقفة أمام الحبة والنواة , تخرج منهما النبتة والنخلة , أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان , لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش !

وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة ? وأين كان يكمن العود ? وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق ? . . وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء , والساق السامقة والعراجين والألياف ? وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة , والبلح والتمر , والرطب والبسر . . . ?

وأين في البيضة كان الفرخ ? وأين يكمن كان العظم واللحم , والزغب والريش , واللون والشيات , والرفرفة والصوات . . . ?

وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب ? أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي ? أين كانت نبرات الصوت , ونظرات العين , ولفتات الجيد , واستعدادات الأعصاب , ووراثات الجنس والعائلة والوالدين ? وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات ?

وهل يكفي أن نقول:إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامنا في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة , لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله ?

وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة , وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي , وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة , ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظه . وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي , وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق , لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها . وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار . وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله , يهب الحياة !

(ومن يدبر الأمر ?). .

في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ 
من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق ؟
 ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق 
 ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر , والتي لا تخطى ء مرة ولا تحيد ؟ ومن ومن ؟

(فسيقولون الله). .

فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله , أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار . ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله , فيتوجهون بالشعائر إلى سواه , كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله .

(فقل:أفلا تتقون ?). .

أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض , والذي يملك السمع والأبصار , والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي , والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه ? إن الذي يملك هذا كله لهو الله , وهو الرب الحق دون سواه:

(فذلكم الله ربكم الحق). .

والحق واحد لا يتعدد , ومن تجاوزه فقد وقع على الباطل , وقد ضل التقدير:

(فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون). .

وكيف توجهون بعيدا عن الحق وهو واضح بين تراه العيون ؟

بمثل هذا الانصراف عن الحق الواضح الذي يعترف المشركون بمقدماته وينكرون نتائجه اللازمة , ولا يقومون بمقتضياته الواجبة , قدر الله في سننه ونواميسه أن الذين يفسقون وينحرفون عن منطق الفطرة السليم وسنة الخلق الماضية لا يؤمنون:


قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)

(كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون). .

لا لأنه يمنعهم من الإيمان . فهذه دلائله قائمة في الكون , وهذه مقدماته قائمة في اعتقادهم . ولكن لأنهم هم يحيدون عن طريق الموصل إلى الإيمان , ويجحدون المقدمات التي في أيديهم , ويصرفون أنفسهم عن الدلائل المشهودة لهم , ويعطلون منطق الفطرة القويم فيهم .

ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله , وهل للشركاء فيها من نصيب .

(قل:هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? قل:الله يبدأ الخلق ثم يعيده . فأنى تؤفكون ? قل:هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ? قل:الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى ? فما لكم ? كيف تحكمون ?). .

وهذه الأمور المسؤول عنها - من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق - ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى . ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكانا على مسلماتهم الأولى , فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر . ثم لا يطلب إليهم الجواب , إنما يقرره لهم اعتمادا على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات .

(قل:هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ?). .

وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته , ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء . . ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق ; ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض , ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم , ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم , وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه . إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم . وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته . ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعتقدون بأن الله هو الخالق , وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت . والحياة الأخرى قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به:

(قل:الله يبدأ الخلق ثم يعيده). .

وإنه لعجيب أن يصرفوا عن إدراك هذه الحقيقة ولديهم مقدماتها:

(فأنى تؤفكون). .

فتوجهون بعيدا عن الحق إلى الإفك وتضلون ?

(قل:هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ?). .

فينزل كتاباً , ويرسل رسولاً , ويضع نظاماً , ويشرع شريعة , وينذر ويوجه إلى الخير ; ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس ; ويوقظ القلوب الغافلة , ويحرك المدارك المعطلة . كما هو معهود لكم من الله ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق ? وهذه قضية ليست من سابق مسلماتهم , ولكن وقائعها حاضرة بين أيديهم . فليقررها لهم الرسول [ ص ] وليأخذهم بها:

(قل:الله يهدي للحق). .

ومن هذه تنشأ قضية جديدة , جوابها مقرر:

(أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ? أم من لا يهدي إلا أن يهدى ?). .

والجواب مقرر . فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع , ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره . .



قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)

وهذا ينطبق سواء كان المعبودون حجارة أو أشجاراً أو كواكب . أو كانوا من البشر - بما في ذلك عيسى عليه السلام , فهو ببشريته محتاج إلى هداية اللّه له , وإن كان هو قد بعث هاديا للناس - ومن عدا عيسى عليه السلام أولى بانطباق هذه الحقيقة عليه:

(فما لكم ? كيف تحكمون ?). .

ما الذي وقع لكم وما الذي أصابكم ? وكيف تقدرون الأمور , فتحيدون عن الحق الواضح المبين ?

فإذا فرغ من سؤالهم وإجابتهم , وتقرير الإجابة المفروضة التي تحتمها البديهة وتحتمها المقدمات المسلمة . . عقب على هذا بتقرير واقعهم في النظر والاستدلال والحكم والاعتقاد . فهم لا يستندون إلى يقين فيما يعتقدون أو يعبدون أو يحكمون , ولا إلى حقائق مدروسة يطمئن إليها العقل والفطرة , إنما يتعلقون بأوهام وظنون , يعيشون عليها ويعيشون بها ; وهي لا تغني من الحق شيئا .

(وما يتبع أكثرهم إلا ظنا . إن الظن لا يغني من الحق شيئا . إن الله عليم بما يفعلون . .).

فهم يظنون أن لله شركاء . ولا يحققون هذا الظن ولا يمتحنونه عملا ولا عقلا . وهم يظنون أن آباءهم ما كانوا ليعبدوا هذه الأصنام لو لم يكن فيها ما يستحق العبادة:ولا يمتحنون هم هذه الخرافة , ولا يطلقون عقولهم من إسار التقليد الظني . وهم يظنون أن الله لا يوحي إلى رجل منهم , ولا يحققون لماذا يمتنع هذا على الله . وهم يظنون أن القرآن من عمل محمد ولا يحققون إن كان محمد - وهو بشر - قادرا على تأليف هذا القرآن , بينما هم لا يقدرون وهم بشر مثله . . وهكذا يعيشون في مجموعة من الظنون لا تحقق لهم من الحق شيئا . والله وحده هو الذي يعلم علم اليقين أفعالهم وأعمالهم . .

(إن الله عليم بما يفعلون). .

الدرس الثالث:37 - 44 تقرير حقيقة مصدر القرآن وذم الكافرين له

وتفريعاً على هذا التعقيب , يأخذ بهم السياق في جولة جديدة حول القرآن تبدأ بنفي التصور لإمكان أن يكون القرآن مفترى من دون الله , وتحديهم أن يأتوا بسورة مثله . وتثني بوصمهم بالتسرع في الحكم على ما لم يعلموه يقينا أو يحققوه . وتثلث بإثبات حالتهم في مواجهة هذا القرآن , وتثبيت الرسول [ ص ] على خطته أيا كانت استجابتهم أو عدم استجابتهم له , وتنتهي بالتيئيس من الفريق الضال والإيماء إلى مصيرهم الذي لا يظلمهم الله فيه ; وإنما يستحقونه بما هم فيه من ضلال:

وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ; ولكن تصديق الذي بين يديه , وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون:افتراه ? قل:فأتوا بسورة مثله , وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله . كذلك كذب الذين من قبلهم , فانظر كيف كان عاقبة الظالمين . ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به , وربك أعلم بالمفسدين . وإن كذبوك فقل:لي عملي ولكم عملكم , أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون . ومنهم من يستمعون إليك , أفانت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ? ومنهم من ينظر إليك , أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ? إن الله لا يظلم الناس شيئا . ولكن الناس أنفسهم يظلمون . .

(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله). .

فهو بخصائصه , الموضوعية والتعبيرية . بهذا الكمال في تناسقه ; وبهذا الكمال في العقيدة التي جاء بها ,


وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (41)

وفي النظام الإنساني الذي يتضمن قواعده ; وبهذا الكمال في تصوير حقيقة الألوهية , وفي تصوير طبيعة البشر , وطبيعة الحياة , وطبيعة الكون . . لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله , لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله . القدرة التي تحيط بالأوائل والأواخر , وبالظواهر والسرائر , وتضع المنهج المبرأ من القصور والنقص ومن آثار الجهل والعجز . .

(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله). .

ما كان من شأنه أصلا أن يفترى . فليس الافتراء هو المنفي , ولكن جواز وجوده هو المنفي . وهو أبلغ في النفي وأبعد .

(ولكن تصديق الذي بين يديه). .

من الكتب التي سبق بها الرسل . تصديقها في أصل العقيدة , وفي الدعوة إلى الخير .

(وتفصيل الكتاب). . الواحد الذي جاء به الرسل جميعا من عند الله , تتفق أصوله وتختلف تفصيلاته . . وهذا القرآن يفصل كتاب الله ويبين وسائل الخير الذي جاء به , ووسائل تحقيقه وصيانته . فالعقيدة في الله واحدة , والدعوة إلى الخير واحدة . ولكن صورة هذا الخير فيها تفصيل , والتشريع الذي يحققه فيه تفصيل , يناسب نمو البشرية وقتها , وتطورات البشرية بعدها , بعد أن بلغت سن الرشد فخوطبت بالقرآن خطاب الراشدين , ولم تخاطب بالخوارق المادية التي لا سبيل فيها للعقل والتفكير .

(لا ريب فيه , من رب العالمين). .

تقرير وتوكيد لنفي جواز افترائه عن طريق إثبات مصدره: (من رب العالمين). .

(أم يقولون افتراه ?).

بعد هذا النفي والتقرير , فهو إذن من صنع محمد . ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها , و لا يملك من حروفها إلا ما يملكون . [ ألف . لام . ميم ] . . [ ألف . لام . را . ] . . [ ألف . لام . ميم . صاد ] . . . الخ . فدونهم إذن - ومعهم من يستطيعون جمعهم - فليفتروا , كما افترى [ بزعمهم ] محمد . فليفتروا سورة واحدة لا قرآنا كاملا:

(قل:فأتوا بسورة مثله , وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين).

وقد ثبت هذا التحدي ; وثبت العجز عنه . وما يزال ثابتا ولن يزال . والذين يدركون بلاغة هذه اللغة , ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها , يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان . وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية , والأصول التشريعية , ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن , يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها , والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة . . كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد , أو مجموعة العقول في جيل واحد او في جميع الأجيال . ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه . .

فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده , ولكنه الاعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها . .

والذين زاولوا فن التعبير , والذين لهم بصر بالأداء الفني , يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداءالقرآني من إعجاز في هذا الجانب . والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي , والإنساني بصفة عامة , يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً .

ومع تقدير العجز سلفا عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه ; والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري . ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز - في حدود الطاقة البشرية - هو موضوع كتاب مستقل . فسأحاول هنا أن ألم المامة خاطفة بشيء من هذا . .

إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري . . إن له سلطاناً عجيباً على القلوب ليس للأداء البشري ; حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً . . وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول - وإن لم تكن هي القاعدة - ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل . .
ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري ; ولكني أذكر حادثا وقع لي وكان عليه معي شهود ستة , وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً 
كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك ; من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم . . وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة ! والله يعلم - أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة ; وحاول أن يزاول تبشيره معنا ! . .
 وقد يسر لنا قائد السفينة - وكان إنجليزياً - أن نقيم صلاتنا ; وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها - وكلهم نوبيون مسلمون - أن يصلي منهم معنا من لا يكون في "الخدمة " وقت الصلاة ! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً , إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة . .
 وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ; والركاب الأجانب - معظمهم - متحلقون يرقبون صلاتنا ! . . وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح "القدّاس" !!!
فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا ! ولكن سيدة من هذا الحشد - عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم "تيتو" وشيوعيته ! - كانت شديدة التأثر والانفعال , تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها .
جاءت تشد على أيدينا بحرارة ; وتقول:- في إنجليزية ضعيفة - إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح ! . . وليس هذا موضع الشاهد في القصة . . ولكن ذلك كان في قولها:أي لغة هذه التي كان يتحدث بها "قسيسكم" ! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم "الصلاة " إلا قسيس - أو رجل دين - كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة ! وقد صححنا لها هذا الفهم ! . .
وأجبناها:فقالت:إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب , وإن كنت لم أفهم منها حرفا . . ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول:ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه . . إن الموضوع الذي لفت حسي , هو أن "الإمام" كانت ترد في أثناء كلامه - بهذه اللغة الموسيقية - فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه ! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا . . هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة ! إنها شيء آخر ! كما لو كان - الإمام - مملوءا من الروح القدس ! - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها ! - وتفكرنا قليلا . ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة ! وكانت - مع ذلك - مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة , من سيدة لا تفهم مما تقول شيئا !

وليست هذه قاعدة كما قلت . ولكن وقوع هذه الحادثة - ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد - ذو دلالة على أن في هذا القرآن سراً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته . وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها , وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها , قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب . . ولكنما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء , ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه - وسره هذا - وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافية !!!

ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب . قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير . ومن يزاولون التفكير والشعور !

إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض , وذلك بأوسع مدلول , وأدق تعبير , وأجمله وأحياه أيضا ! مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو . ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد , بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه , وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال . ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد , كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلا ; لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال . ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعا .

وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني . . هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص ; وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات ; وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها . بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى ; ويبدو في كل مرة أصيلا في الموضع الذي استشهد به فيه ; وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع ! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها [ ولو راجع القارىء المقتطفات الواردة في التعريف بهذه السورة لوجد أن النص الواحد يرد للدلالة على أغراض شتى , وهو في كل مرة أصيل في موضعه تماما . وليس هذا إلا مثالا ] .

وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد , والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضراً , بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر ; ولا يملك الأداء البشري تقليدها . لأنه يبدو في هذه الحالة مضطرباً غير مستقيم مع أسلوب الكتابة ! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر على طريقة الأداء القرآني مثلا في مثل هذه المواضع:

وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده - بغيا وعدوا - حتى إذا أدركه الغرق قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . . [ وإلى هنا هي قصة تحكى ] . . ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر . . (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية). . ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر: (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون). .

(قل:أي شيء أكبر شهادة . قل الله , شهيد بيني وبينكم , وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ). . وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى . . ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم: (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ?)

وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه - وأجابوه ! -: (قل:لا أشهد . قل:إنما هو إله واحد , وإنني بريء مما تشركون).

وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات: (ويوم يحشرهم جميعا . . يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس . . وقال أولياؤهم من الإنس:ربنا استمتع بعضنا ببعض , وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا.قال:النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله , إن ربك حكيم عليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس , ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي , وينذرونكم لقاء يومكم هذا ? . . قالوا:شهدنا على أنفسنا , وغرتهم الحياة الدنيا , وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين . . ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون).

وأمثالها كثير في القرآن كله . وهو أسلوب متميز تماما من الأسلوب البشري . وإلا فمن شاء أن يماري , فليحاول أن يعبر على هذا النحو , ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم ; فضلا على أن يكون له هذا الجمال الرائع , وهذا الإيقاع المؤثر , وهذا التناسق الكامل !

هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعا . ويبقى الإعجاز الموضوعي ; والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه .

إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها ; فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة . وقلبها الشاعرة مرة . وحسها المتوفز مرة . ولكنه يخاطبها جملة , ويخاطبها من أقصر طريق ; ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها . . وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها , لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق , وبهذا الشمول , وبهذه الدقة وهذا الوضوح , وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضاً !

وأنا أستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب:"خصائص التصور ومقوماته" تعين على توضيح هذه الحقيقة ; وهي تتحدث عن "المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي" في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة , وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض:

أنه يمتاز عن كل المناهج:

أولا:بكونه يعرض الحقيقة - كما هي في عالم الواقع - في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها , وكل جوانبها , وكل ارتباطاتها , وكل مقتضياتها . . وهو - مع هذا الشمول - لا يعقد هذه الحقيقة , ولا يلفها بالضباب ! بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها . . ولم يشأ الله - سبحانه - رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور أو إدراكهم لها , متوقفا على سابق علم لهم . . إطلاقا . . لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى ; والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله ; ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم , ولطلب أية معرفة . . لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفا على علم سابق . ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم - بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم , ولما يجري فيه ولما يجري فيهم - كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن . ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه - عن غير هذا المصدر - هو معرفة - "ظنية " ونتائج "محتملة " لا "قطعية " حتى ذلك "العلم التجريبي" . فطريق العلم التجريبي هو القياس - لا الاستقراء والاستقصاء - فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة . هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر !
 إنما قصارى "العلم" أن يقوم بعدد من التجارب ,ثم يقيس على نتائجها . والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة لا يقينية قطعية [ وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة , تقوم على ترجيح أحد "الاحتمالات" لا على القطع الحتمي ] . . فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير , والذي يقصه عليهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين .

ثانيا:بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات "العلمية " والتأملات "الفلسفية " والومضات "الفنية " جميعا . فهو لا يفرد كل جانب من جوانب [ الكل ] الجميل المتناسق بحديث مستقل . كما تصنع أساليب الأداء البشرية .
وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول ; يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب . وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية . وتتصل فيه الدنيا بالآخرة . وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى . . في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده ; لأن الأسلوب البشري عندما يحاول تقليده في هذه الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة , غير واضحة ولا محددة ولا منسقة , كما تبدو في المنهج القرآني !

"وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد ; قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع . ولكن هذا الترابط يبدو دائما . فعندما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلا على تعريف الناس بربهم الحق , تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان . في عالم الغيب وعالم الشهادة سواء . . وعندما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون , تتجلى العلاقة بين "حقيقة الألوهية " و "حقيقة الكون" , ويتطرق السياق كثيرا إلى حقيقة الحياة والأحياء , وإلى سنن الله في الكون والحياة . . وعندما يكون التركيز على "حقيقة الإنسان" يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء , وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء . . وعندما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى . . وكذلك عندما يكون التركيز على قضايا الحياة الدنيا . . إلى آخر هذا النسق من العرض , الواضح الملامح في القرآن .

ثالثا:بكونه - مع تماسك جوانب "الحقيقة " وتناسقها - يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها - في الكل المتناسق - مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله - وهو الميزان - ومن ثم تبدو "حقيقة الألوهية " وخصائصها , وقضية "الألوهية والعبودية " بارزة مسيطرة محيطة شاملة ; حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي . . وتشغل حقيقة عالم الغيب - بما فيه القدر والدار الآخرة - مساحة بارزة . ثم تنال حقيقة الإنسان , وحقيقة الكون , وحقيقة الحياة , أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع . . وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق , ولا تهمل , ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق . .
وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي ذاته - كما بينا في فصل "التوازن" في القسم الأول - حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسهوتناسق أجزائه وقوانينه إلى تألهه - كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديماً وحديثاً ! - ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها الى وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها - كأصحاب المذهب الحيوي ! - ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان , وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنه في كيانه المنطلقة في تعامله مع الكون , إلى تأليه الإنسان - أو العقل - في صورة من الصور - كالمثاليين في عمومهم ! - ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني - كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة - . .
كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته , فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد ! وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني !

رابعاً:بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية - مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم , وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعاً وروعة وجمالاً , لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير . ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة , وتحديد حاسم ; ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال , ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة !

"ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري , ملامح المنهج القرآني , فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج . كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" شيئاً مما يبلغه القرآن في هذا الشأن . . وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ; ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات , ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن , بينما هم ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك . ومن ثم لم يعد الناس قادرين على تذوق المنهج القرآني ذاته , والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته" . . . انتهت المقتطفات . .

والقرآن يقدم حقائق العقيدة - أحياناً - في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها , لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو .

من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته . .

(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو , ويعلم ما في البر والبحر , وما تسقط من ورقة إلا يعلمها , ولا حبة في ظلمات الأرض , ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). .

فهذه المطارح المترامية , الخفية والظاهرة , ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو ; وهو في معرض تصوير شمول العلم ; مهما أراد تصوير هذا الشمول . ولو أن فكراً بشرياً هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته . . وذلك كما قلنا في تفسير هذه الآية من قبل في الجزء السابع:

"ننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن .

ننظر إليها من ناحية موضوعها , فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع - موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق . . إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر , في كل أنحاء الأرض ؟
 إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصى ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض .ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه , ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل ! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق !

"وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق: (ولا رطب ولا يابس). إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الإنتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل فهذا ليس معهوداً في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك ! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق , ويعبر عنه الخالق !

"ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ; وكل حبة مخبوءة , وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين , وفي سجل محفوظ فما شأنهم بهذا ? وما فائدته لهم ? وما احتفالهم بتسجيله ? إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك , الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير , والحقير كالجليل , والمخبوء كالظاهر , والمجهول كالمعلوم , والبعيد كالقريب . .

"إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً , والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً , والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً . .
إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري , وكذلك لا تلحظه العين البشرية ; ولا تلم به النظرة البشرية . .
إن هذا المشهد إنما يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده , المشرف على كل شيء , المحيط بكل شيء , الحافظ لكل شيء , الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير , والحقير كالجليل , والمخبوء كالظاهر , والمجهول كالمعلوم , والبعيد كالقريب . .

"والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضاً . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد , لا يخطر على القلب البشري ; كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله , ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الإتجاه أصلاً !

"وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم" . .

"كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته , فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر , على هذا المستوى السامق: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو). . آماد وآفاق وأغوار في "المجهول" المطلق . في الزمان والمكان , وفي الماضي والحاضر والمستقبل وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان .

(ويعلم ما في البر والبحر). . آماد وآفاق وأغوار في "المنظور" على استواء وسعة وشمول . . تناسب في عالم الشهود والمشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب .

(وما تسقط من ورقة إلا يعلمها). . حركة الموت والفناء ; وحركة السقوط والانحدار من علو إلى سفل , ومن حياة إلى اندثار .

(ولا حبة في ظلمات الأرض). . حركة البزوغ والنماء , المنبثقة من الغور إلى السطح , ومن كمون وسكون إلى إندفاع وانطلاق .

(ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). التعميم الشامل , الذي يشمل الحياة والموت . والازدهار والذبول , في كل حي على الإطلاق . .

فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق ؟ من ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال ؟. . من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله , في مثل هذا النص القصير . . من ؟ إلا الله ؟!

كذلك هذا النص الآخر عن شمول علم اللّه:

(يعلم ما يلج في الأرض , وما يخرج منها , وما ينزل من السماء , وما يعرج فيها , وهو الرحيم الغفور). .

ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة ; فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء , والحركات , والأحجام , والأشكال , والصور , والمعاني , والهيئات , لا يصمد لها الخيال !

ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة , مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين !

فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض ? وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها ? وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء ? وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها ?

كم من شيء يلج في الأرض ? كم من حبة تختبيء أو تخبأ في جنبات هذه الأرض ? كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية ? كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز , ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة ? وكم وكم مما يلج في الأرض , وعين الله عليه ساهرة لا تنام ?!

وكم يخرج منها ? كم من نبتة تنبثق ? وكم من نبع يفور ? وكم من بركان يتفجر ? وكم من غاز يتصاعد ? وكم من مستور يتكشف ? وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور ? وكم وكم مما يرى ومما لا يرى , ومما يعلم البشر ومما يجهلونه وهو كثير ? ?

وكم مما ينزل من السماء ? كم من نقطة مطر ? وكم من شهاب ثاقب ? وكم من شعاع محرق ? وكم من شعاع منير ? وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور ? وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد ? وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر ? . . وكم وكم مما لا يحصيه إلا اللّه ?

وكم مما يعرج فيها ? كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان ? وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه ?

وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة ? وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله ? وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله ?

ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر , ومن ذرة غاز صاعدة من جسم ? وكم وكم مما لا يعلمه سواه ?!

كم في لحظة واحدة ? وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء ? وعلم الله الكامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان . . وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وماله من حركات وسكنات تحت عين الله , وهو مع هذا يستر ويغفر . .

(وهو الرحيم الغفور). .

وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر . فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر . ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر , ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارئ هذا الوجود التي لا تشبهها صنعة العبيد !

كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها ; وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب الموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . . كما يبدو في قوله تعالى:

(نحن خلقناكم فلولا تصدقون ! أفرأيتم ما تمنون ? أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ? نحن قدرنا بينكمالموت وما نحن بمسبوقين . على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون . ولقد علمتم النشأة الأولى , فلولا تذكرون !)

(أفرأيتم الماء الذي تشربون ? أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ? لو نشاء جعلناه أجاجاً , فلولا تشكرون !)

(أفرأيتم النار التي تورون ? أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ? نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين .)

(فسبح باسم ربك العظيم).

إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة , قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود , وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود , كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير , وحياة للأرواح والقلوب , ويقظة في المشاعر والحواس . يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها , ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها !

إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة . كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم , ولا عن مألوف حياتهم , ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم . . إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة , أو مشكلات عقلية عويصة , أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد . . لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة , وتصورا للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة .

إن أنفسهم من صنع الله ; وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته . والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده . وهذا القرآن قرآنه . ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم , والمبثوثة في الكون من حولهم . يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم , التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها . لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها . يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها , فتطلع على السر الهائل المكنون فيها . سر القدرة المبدعة , وسر الوحدانية المفردة , وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم ; والذي يحمل دلائل الإيمان ; وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم , أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق .

وعلى هذا المنهج يسير , وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم . وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم . وفي الماء الذي يشربون . وفي النار التي يوقدون - وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم - كذلك يصور لهم لحظة النهاية . نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر . اللحظة التي يواجهها كل أحد , والتي تنتهي عندها كل حيلة , والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة , لا محاولة فيها ولا مجال ! حيث تسقط جميع الأقنعة , وتبطل جميع التعلات .

إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره . . إنه المصدر الذي صدر منه الكون . فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون . فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال , وأضخم الخلائق . . الذرة يظن أنها مادة بناء الكون ; والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة . . والذرة على صغرها معجزة في ذاتها ; والخلية على ضآلتها آية في ذاتها . . وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني . . المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان:النسل . الزرع . والماء . والنار . والموت . . أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه ?
 أي ساكن كهف لم يشهدنشأة حياة جنينية , ونشأة حياة نباتية . ومسقط ماء . وموقد نار . ولحظة وفاة ? . .
من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة , لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة . . وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية , وأعظم الأسرار الربانية ; فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان ; وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان .

ولسنا نملك المضي أبعد من هذا في بيان طبيعة "هذا القرآن" الدالة على مصدره . ففي هذا القدر كفاية لنعود إلى سياق السورة 

وصدق الله العظيم:

(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون اللّه . . .).

(أم يقولون افتراه ? قل:فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين).

ويضرب السياق عن المضي في الجدل بعد هذا التحدي , ليقرر أنهم لا يتبعون إلا الظن , فهم يحكمون على مالم يعلموه . والحكم يجب أن يسبقه العلم , وألا يعتمد على مجرد الهوى أو مجرد الظن . والذي حكموا عليه هنا هو الوحي بالقرآن وصدق ما فيه من الوعد والوعيد .
 لقد كذبوا بهذا وليس لديهم من علم يقوم عليه التكذيب , ولما يأتهم تأويله الواقعي بوقوعه:

(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه , ولما يأتهم تأويله). .

شأنهم في هذا شأن المكذبين من قبلهم , الظالمين المشركين بربهم . فليتأمل المتأمل كيف كان مصير الأولين ليعرف حقيقة مصير الآخرين:

(كذلك كذب الذين من قبلهم , فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). .

وإذا كان أكثرهم لا يتبعون إلا الظن , ويكذبون بما لم يحصل لهم عنه علم , فإن هناك منهم من يؤمن بهذا الكتاب , فليسوا جميعهم من المكذبين:

(ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به . وربك أعلم بالمفسدين). .

والمفسدون هم الذين لا يؤمنون . وما يقع الفساد في الأرض كما يقع بضلال الناس عن الإيمان بربهم والعبودية له وحده .
وما نجم الفساد في الأرض إلا من الدينونة لغير الله , وما يتبع هذا من شر في حياة الناس في كل اتجاه . شر اتباع الهوى في النفس والغير ; وشر قيام أرباب أرضية تفسد كل شيء لتستبقي ربوبيتها المزيفة . . تفسد أخلاق الناس وأرواحهم وأفكارهم وتصوراتهم . . ثم تفسد مصالحهم وأموالهم . في سبيل بقائها المصطنع الزائف . وتاريخ الجاهلية في القديم والحديث فائض بهذا الفساد الذي ينشئه المفسدون الذين لا يؤمنون .

ويعقب على تقرير مواقفهم من هذا الكتاب بتوجيه الخطاب للرسول - [ ص ] - بألا يتأثر بتكذيب المكذبين , وأن ينفض يديه منهم .
 ويعلنهم ببراءته من عملهم , ويفاصلهم على ما معه من الحق في وضوح وفي حسم وفي يقين:

(وإن كذبوك فقل:لي عملي ولكم عملكم . أنتم بريئون مما أعمل , وأنا بريء مما تعملون).

وهي لمسة لوجدانهم , باعتزالهم وأعمالهم , وتركهم لمصيرهم منفردين , بعد بيان ذلك المصير المخيف . وذلك كما تترك طفلك المعاند الذي يأبى أن يسير معك , في وسط الطريق وحده يواجه مصيره فريدا لا يجد منك سنداً . وكثيراً ما يفلح هذا الأسلوب من التهديد !


وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

ويمضي السياق يستعرض حال بعضهم من الرسول [ ص ] وهم يستمعون إليه بآذانهم وقلوبهم مغلقة . وينظرون إليه بعيونهم وبصيرتهم مطموسة , فلا يئوبون من السمع والنظر بشيء , ولا يهتدون إلى الطريق:

(ومنهم من يستمعون إليك . أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ? ومنهم من ينظر إليك . أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ?).

إن هؤلاء الخلائق الذين يستمعون ولا يعقلون ما سمعوا , وينظرون ولا يميزون ما نظروا . . إن هؤلاء لكثير , في كل زمان وفي كل مكان . والرسول [ ص ] لا يملك لهم شيئاً . لأن حواسهم وجوارحهم مطموسة الاتصال بعقولهم وقلوبهم , فكأنها معطلة لا تؤدي حقيقة وظيفتها . والرسول [ ص ] لا يسمع الصم , ولا يبصر العمي . فذلك من شأن الله وحده عز وجل . والله سن سنة وترك الخلق لمقتضى السنة . وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليهتدوا بها , فإذا هم عطلوها حقت عليهم سنته التي لا تتخلف ولا تحابي , ولقوا جزاءهم عدلاً , ولم يظلمهم الله شيئاً:

(إن الله لا يظلم الناس شيئاً , ولكن الناس أنفسهم يظلمون). .

وفي هذه الآيات الأخيرة تسرية عن رسول الله [ ص ] مما يجده في نفسه من ضيق بهذا التكذيب لما معه من الحق , وبهذا العناد الصفيق بعد تكرار البيان والإعلام .
وذلك بما يقرره له ربه من أن إباءهم الهدى لم يكن عن تقصير منه في الجهد . ولا قصور فيما معه من الحق . ولكن هؤلاء كالصم العمي . وما يفتح الآذان والعيون إلا الله . فهو شأن خارج عن طبيعة الدعوة والداعية داخل في اختصاص الله .

وفيها كذلك تحديد حاسم لطبيعة العبودية ومجالها - حتى ولو تمثلت في شخص رسول الله . فهو عبد من عباد الله لا قدرة له خارج مجال العبودية . والأمر كله لله .

الدرس الرابع:45 لقطة من مشهد حشر الكفار وخسارتهم

بعد ذلك يلمس وجدانهم لمسة خاطفة بمشهد من مشاهد القيامة , تبدو فيه الحياة الدنيا التي تزحم حسهم , وتشغل نفوسهم , وتأكل اهتماماتهم . . رحلة سريعة , قضاها الناس هناك , ثم عادوا إلى مقرهم الدائم ودارهم الأصيلة .

(ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم . قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله , وما كانوا مهتدين). .

وفي هذه الجولة الخاطفة ننظر فإذا المحشورون مأخوذون بالمفاجأة , شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة , حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف , ثم أسدل الستار .

أو هذا مجرد تشبيه لهذه الحياة الدنيا , وللناس الذين دخلوا ثم خرجوا , كأن لم يفعلوا شيئاً سوى اللقاء والتعارف ?

إنه لتشبيه , ولكنه حق اليقين وإلا فهل ينتهي البشر في هذه الأرض من عملية التعارف ? إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين , وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى . ثم يذهبون .

وإلا فهل هؤلاء الأفراد الذين يتنازعون ويتعاركون ويقع من سوء التفاهم بينهم وبين بعضهم في كل ساعة

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47)

ما يقع . . . هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي أن يكون ?

وهذه الشعوب المتناحرة , والدول المتخاصمة - لا تتخاصم على حق عام , ولا على منهج سليم , إنما تتعارك على الحطام والأعراض - هذه . هل عرف بعضها بعضاً ? وهي ما تكاد تفرغ من خصام حتى تدخل في خصام .

إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا . ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة . . ثم يرحلون !

وفي ظل هذا المشهد تبدو الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة , وكذبوا بلقاء الله , وشغلوا عنه واستغرقوا في تلك الرحلة - بل تلك الومضة - فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم ; ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية:

(قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله , وما كانوا مهتدين). .

الدرس الخامس:46 - 54 تهديد الكفار وبيان عجزهم وخسارتهم ومواساة الرسول عليه السلام

ومن هذا المشهد الخاطف ليوم الحشر , وما سبقه من أيام الحياة في الأرض إلى حديث مع الرسول - [ ص ] - في شأن وعيد الله للمكذبين ; ذلك الوعيد الغامض , لا يدرون إن كان سيعاجلهم غداً , أم إنهم سينظرون إلى يوم الدين , ليبقى مصلتاً فوق رؤوسهم لعلهم يتقون ويهتدون . .
وشيئاً فشيئاً تنتهي الجولة التي بدأت بالحديث عن الوعيد إلى نهايتها يوم لا ينفع الفداء ولو كان ما في الأرض كله , ويوم يقضي الله بالقسط لا يظلم أحداً . . وذلك على طريقة القرآن في وصل الدنيا بالآخرة , في كلمات ولحظات , في تصوير حي يلمس القلوب , ويصور في الوقت ذاته حقيقة الاتصال بين الدارين والحياتين كما هما في الواقع , وكما ينبغي أن يكونا في التصور الإسلامي الصحيح:

وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم , ثم الله شهيد على ما يفعلون . ولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون:متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل:لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله , لكل أمة أجل , إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل أرأيتم:إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون . أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ثم قيل للذين ظلموا:ذوقوا عذاب الخلد , هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون . ويستنبئونك أحق هو ? قل:إي وربي إنه لحق , وما أنتم بمعجزين . ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به , وأسروا الندامة لما رأوا العذاب , وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون .

تبدأ هذه الجولة بتقرير أن مرجع القوم إلى الله , سواء وقع بعض الوعيد الذي كلف الرسول [ ص ] أن يبلغه لهم , في حياته أو بعد وفاته . فالمرجع إلى الله في الحالين . وهو شهيد على ما يفعلون في حضور الرسول بالحياة , وفي غيبته بالوفاة . فلن يضيع شيء من أعمالهم ولن تعفيهم وفاة الرسول [ ص ] مما يوعدون .

(وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم , ثم الله شهيد على ما يفعلون). . فالأمور مدبرة سائرة حسب التدبير , لا يخرم منها حرف , ولا يتغير بالطوارئ والظروف . ولكن كل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم , فينذرهم ويبين لهم , وبذلك يستوفون حقهم الذي فرضه الله على نفسه بألا يعذب قوما إلا بعد الرسالة , وبعد الإعذار لهم بالتبيين . وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول:

وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)

(ولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون). .

ونقف من هاتين الآيتين أمام حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية التي يرتكز عليها التصور الإسلامي كله . وعناية المنهج القرآني بتوضيحها وتقريرها في كل مناسبة , وفي صور شتى متنوعة . .

إنه يقال للرسول [ ص ] إن أمر هذه العقيدة , وأمر القوم الذين يخاطبون بها . كله لله , وأن ليس لك من الأمر شيء . دورك فيها هو البلاغ , أما ما وراء ذلك فكله لله . وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك , فليس حتماً على الله أن يريك عاقبتهم , وما ينزله بهم من جزاء . . هذا له وحده سبحانه ! اما أنت - وكل رسول - فعليك البلاغ . . ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله . . ذلك كي يعلم العبيد مجالهم , وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة , ومهما تعرضوا فيها للعذاب !!

(ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ?). .

وقد كانوا يسألون في تحد واستعجال , طالبين وقوع ما يوعدهم به النبي [ ص ] من قضاء الله فيهم , كما قضى الله بين الأمم التي جاءتها رسلها فكذبت , فأخذ الله المكذبين:والجواب:

(قل:لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله , لكل أمة أجل , إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). .

وإذا كان الرسول [ ص ] لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً , فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال . [ وقد قدم ذكر الضر هنا , وإن كان مأموراً أن يتحدث عن نفسه , لأنهم هم يستعجلون الضر , فمن باب التناسق قدم ذكر الضر . أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير , لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول:ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ] .

(قل:لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعاً . . إلا ما شاء الله . .).

فالأمر إذن لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه . وسنة الله لا تتخلف , وأجله الذي أجله لا يستعجل:

(لكل أمة أجل , إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). .

والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي . هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية . وقد ينتهي بالهلاك المعنوي . هلاك الهزيمة والضياع . وهو ما يقع للأمم , إما لفترة تعود بعدها للحياة , وإما دائماً فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة , وإن بقيت كأفراد . . وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل , لا مصادفة ولا جزافا ولا ظلماً ولا محاباة . فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها . والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها , والرسول يدعوها لما يحييها . لا بمجرد الاعتقاد , ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة . وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه اللّه لها , والشريعة التي أنزلها , والقيم التي قررها . وإلا جاءها الأجل وفق سنة اللّه . .

ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي , إلى موقف المهدد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار:

(قل:أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً , ماذا يستعجل منه المجرمون ?). .

فهذا العذاب المغيب الذي لا يُعلم موقعه وموعده ; والذي قد يحل بياتاً وأنتم نيام , أو نهاراً وأنتم أيقاظ ,


أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54)

لا يجديكم في رده الصحو . . ما الذي يستعجل منه المجرمون ? وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال .

وبينما هم في مفاجأة السؤال الذي ينقل مشاعرهم إلى تصور الخطر وتوقعه , تفجؤهم الآية التالية بوقوعه فعلاً . . وهو لم يقع بعد . . ولكن التصور القرآني يرسمه واقعاً , ويغمر به المشاعر , ويلمس به الوجدان:

(أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ?!).

فكأنما قد وقع . وكأنما قد آمنوا به , وكأنما يخاطبون بهذا التبكيت في مشهد حاضر يشهدونه الآن !

وتتمة المشهد الحاضر:

(ثم قيل للذين ظلموا:ذوقوا عذاب الخلد . هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ?). .

وهكذا نجدنا مع السياق في ساحة الحساب والعذاب , وقد كنا منذ لحظات وفقرات في الدنيا نشهد خطاب اللّه لرسوله عن هذا المصير !!

وختام هذه الجولة , هو استنباء القوم للرسول:إن كان هذا الوعيد حقاً . فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين . والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين:

(ويستنبئونك:أحق هو ? قل:إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين). .

(إي وربي). .

الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثاً , ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين . .

(إنه لحق وما أنتم بمعجزين). .

ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم , وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم , وأن يجازيكم .

وبينما نحن معهم على هذه الأرض في استنباء وجواب . إذا نحن فجأة - مع السياق في نقلة من نقلات الأسلوب القرآني المصور - في ساحة الحساب والجزاء . مبدئياً على وجه الفرض والتقدير .

ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به . .

فلا يقبل منها حتى على فرض وجوده معها .

ولا تكتمل الآية حتى يكون الفرض قد وقع وقضي الأمر:

(وأسروا الندامة لما رأوا العذاب). .

أخذتهم وهلة المفاجأة فسقط في أيديهم , والتعبير يرسم للخيال صورة الكمد يظلل الوجوه , دون أن تنطق الشفاه !

(وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون). .

وانتهى المشهد الذي بدأ منذ نصف آية فرضاً وانتهى واقعاً , على طريقة التصوير القرآني المؤثر المثير .

الدرس السادس:55 - 58 من مظاهر قدرة الله ودعوة للإنتفاع بالقرآن

والتعقيب المؤكد للحشر والحساب , جولة أخرى مع القدرة في بعض مجاليها في السماء والأرض وفي الحياة والموت . جولة عابرة لتوكيد معنى القدرة الكفيلة بتحقق الوعد .

ثم نداء عام للناس أجمعين للانتفاع بهذا القرآن الذي يحمل لهم الموعظة والهدى وشفاء الصدور .

أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

(ألا إن للّه ما في السماوات والأرض . ألا إن وعد اللّه حق , ولكن أكثرهم لا يعلمون . هو يحيي ويميت , وإليه ترجعون . يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور , وهدى ورحمة للمؤمنين . قل:بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). .

ألا . . . "بهذا الإعلان المدوي" . (ألا إن للّه ما في السماوات والأرض). والذي يملك ما في السماوات والأرض يملك أن يجعل وعده حقاً فلا يعجزه عن تحقيقه معجز , ولا يعوقه عن تصديقه معوق:

(ألا إن وعد اللّه حق). . (ولكن أكثرهم لا يعلمون). .

وهم لجهلهم يشكون أو يكذبون .

(هو يحيي ويميت). .

والذي يملك الحياة والموت , يملك الرجعة والحساب . .

(وإليه ترجعون).

إنه تعقيب سريع للتوكيد السريع بعد الاستعراض المثير .

ثم يعقبه النداء الجامع للبشرية جميعاً:

(يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم , وشفاء لما في الصدور , وهدى ورحمة للمؤمنين). .

جاءتكم في ذلك الكتاب الذي ترتابون فيه . جاءتكم الموعظة (من ربكم)فليس هو كتاباً مفترى , وليس ما فيه من عند بشر . جاءتكم الموعظة لتحيي قلوبكم , وتشفي صدوركم من الخرافة التي تملؤها , والشك الذي يسيطر عليها , والزيغ الذي يمرضها , والقلق الذي يحيرها . جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسلام مع الإيمان . وهي لمن يرزق الإيمان هدى إلى الطريق الواصل , ورحمة من الضلال والعذاب:

(قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا , هو خير مما يجمعون). . .

فبهذا الفضل الذي آتاه اللّه عباده , وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان . . فبذلك وحده فليفرحوا . فهذا هو الذي يستحق الفرح . لا المال ولا أعراض هذه الحياة . إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة , فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة ; ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبداً خاضعاً لها . والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها . إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد , مطمحهم أعلى من هذه الأعراض , وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض . الإيمان عندهم هو النعمة , وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف . والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم .

عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو:سمعت أيفع بن عبد اللّه الكلاعي يقول:لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضي اللّه عنه - خرج عمر ومولى له , فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك , فجعل يقول:الحمد للّه تعالى . ويقول مولاه:هذا واللّه من فضل اللّه ورحمته , فقال عمر:كذبت ليس هذا هو الذي يقول اللّه تعالى:(قل:بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).

هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة . كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من اللّه من موعظة وهدى . فأما المال , وأما الثراء , وأما النصر ذاته فهو تابع . لذلك كان النصر يأتيهم , وكان المال ينثال عليهم , وكان الثراء يطلبهم . . إن طريق هذه الأمة واضح . إنه في هذا الذي يسنه

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59)

لها قرآنها , وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها . . هذا هو الطريق .

إن الأرزاق المادية , والقيم المادية , ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض . . في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى . . إن الأرزاق المادية , والتيسيرات المادية , والقيم المادية , يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية - لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة - كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة !

إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية ; وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس ; وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان .

إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم . هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء . كما يجعلها سبباً للرقي الإنساني أو مزلقاً للارتكاس !

ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله:

(يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم , وشفاء لما في الصدور , وهدى ورحمة للمؤمنين . قل:بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). .

ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا , فيقول عمر - رضي اللّه عنه - عن المال والأنعام:" ليس هذا هو الذي يقول اللّه تعالى:(قل:بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). . "

لقد كان عمر - رضي اللّه عنه - يفقه دينه . كان يعرف أن فضل اللّه ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله اللّه لهم:موعظة من ربهم , وشفاء لما في الصدور , وهدى ورحمة للمؤمنين . لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق !

لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين , من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها . . وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان . . بما فيها جاهلية القرن العشرين .

إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي إعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد ; وتحريرهم من هذه العبودية , وتعبيدهم للّه وحده , وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم , ويرفع قيمهم , ويرفع أخلاقهم . ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية . .

ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية , والتمكين المادي , تبعاً لهذا التحرر وهذا الانطلاق . كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة , وهي تكتسح الجاهليات حولها , وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض , وتقود البشرية إلى اللّه , لتستمتع معها بفضل اللّه . .

والذين يركزون على القيم المادية , وعلى الإنتاج المادي , ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية , هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان .

وهم لا يطلقونها دعوة بريئة ; ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية , وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان - دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية - وتجعل لهم مطالبأساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان !

وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية , والإنتاج المادي , بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها . . وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة , وتعدها قيمة الحياة الكبرى ; وتنسى في عاصفة الصياح المستمر . . الإنتاج . . الإنتاج . . كل القيم الروحية والأخلاقية ; وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي . . هذا الصياح ليس بريئاً ; إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى ; وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعاً !

وعندما يصبح الإنتاج المادي صنماً يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام ; فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك . . الأخلاق . الأسرة . الأعراض . الحريات . الضمانات . . . كلها . . كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس ! فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه ? إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجراً أو خشباً . فقد يكون قيمة واعتباراً ولافتة ولقباً !

إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل اللّه ورحمته المتمثلين في هداه الذي يشفي الصدور , ويحرر الرقاب , ويعلي من القيم الإنسانية في الإنسان . وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق اللّه الذي أعطاه للناس في الأرض ; وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي ; وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح ; وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض !

وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس ; لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية , على حساب القيم الإنسانية العلوية .

وصدق اللّه العظيم:

(يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم , وشفاء لما في الصدور , وهدى ورحمة للمؤمنين . قل:بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). .

الدرس السابع:59 - 60 ذم الجاهلين في تشريعاتهم الباطلة

وفي ظل هذا الحديث عن فضل اللّه ورحمته , المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور , يتعرض السياق للجاهلية , وهي تزاول حياتها العملية , لا وفق ما جاء من عند اللّه ; ولكن وفق أهواء البشر , واعتدائهم على خصائص اللّه سبحانه , ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم اللّه:

(قل:أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً ! قل:آللّه أذن لكم ? أم على اللّه تفترون ? وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة ? إن الله لذو فضل على الناس , ولكن أكثرهم لا يشكرون). .

قل:ماذا ترون في رزق اللّه الذي أنزله إليكم ? - وكل ما جاء من عند اللّه في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى - ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم , لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه , فإذا أنتم - من عند أنفسكم ودون إذن من اللّه لكم - تحرمون منه أنواعاً وتحلون منه أنواعاً . والتحريم والتحليل تشريع . والتشريع حاكمية . والحاكمية ربوبية . وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم:

(قل:آللّه أذن لكم ? أم على اللّه تفترون ?). .

إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم ; وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين . . ذلك أنها

وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60)

القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا اللّه . بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة .

إن الاعتراف بأن اللّه هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون اللّه هو الرب المعبود ; وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله . . ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها اللّه للبشر , وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض . . والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود اللّه - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق - كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين ! " . ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم اللّه - كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين ! " - وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود اللّه ومن أنه الخالق الرازق ; وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير اللّه تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم ! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك ; كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . مهما اختلفت الأسماء واللافتات . فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان !

ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون - كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم "المسلمين" - أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به اللّه . أو كانوا يقولون عنه:شريعة اللّه !

وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه اللّه . . وذلك في قوله تعالى:(وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها , وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون). . فهم كانوا يقولون:إن اللّه يشاء هذا , ولا يشاء هذا . . افتراء على اللّه . . كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم "مسلمين" يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون:شريعة اللّه !

واللّه يجبههم هنا بالافتراء , ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه:

(وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة ?). .

وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على اللّه الكذب وتنتظمهم جميعاً . . فما ظنهم يا ترى ? ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة !! وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية !

إن اللّه لذو فضل على الناس , ولكن أكثرهم لا يشكرون . .

واللّه ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم ; وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره ; والنواميس التي تحكم هذه المصادر , وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله , والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال . . وكله في الكون وفيهم من رزق اللّه . .

واللّه ذو فضل على الناس بعد ذلك برزقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور ; ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم ; الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات ; ومشاعر واتجاهات ; والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة ; كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه .

ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك . . فإذا هم يحيدون عن منهج اللّه وشرعه ; وإذا

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61)

هم يشركون به غيره . . ثم يشقون في النهاية بهذا كله . . يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور !

وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة . . إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء . . إنه يدب في القلوب فعلاً دبيب الشفاء في الجسم المعلول ! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب . ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية , فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب . ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية . ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله , وإلى العدل في الجزاء , وإلى غلبة الخير , وإلى حسن المصير . .

وإنها لعبارة تثير حشداً وراء حشد من المعاني والدلائل , تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب !

الدرس الثامن:61 - 67 اطلاع الله على كل شيء وطمأنينة أولياء الله أمام الأعداء

لا يشكرون . . والله هو المطلع على السرائر , المحيط بكل مضمر وظاهر , الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . . هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق , ليخرج منها إلى طمأنة الرسول [ ص ] ومن معه بأنهم في رعايته وولايته , لا يضرهم المكذبون , الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون:

وما تكون في شأن , وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل , إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ; وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة , لا تبديل لكلمات الله , ذلك هو الفوز العظيم . ولا يحزنك قولهم , إن العزة لله جميعاً , هو السميع العليم , ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض , وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء , إن يتبعون إلا الظن , وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً , إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون .

إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق:

وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . شعور مطمئن ومخيف معاً , مؤنس ومرهب معاً . . وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه , شاهدً أمره وحاضر شأنه . الله بكل عظمته , وبكل هيبته , وبكل جبروته , وبكل قوته . الله خالق هذا الكون وهو عليه هين . ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان . . الله مع هذا المخلوق البشري . الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها ! إنه شعور رهيب . ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن . إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية . . إن الله معها:

(وما تكون في شأن , وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . .)

إنه ليس شمول العلم وحده , ولكن شمول الرعاية , ثم شمول الرقابة . .

(وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). .


أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)

ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء - ومعها علم الله - ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصوراً في علم الله . . ويرتعش الوجدان إشفاقاً ورهبة , ويخشع القلب إجلالاً وتقوى , حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة ; ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله .

وفي ظل هذا الأنس , وفي طمأنينة هذا القرب . . يأتي الإعلان الجاهر:

(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة . لا تبديل لكلمات الله . ذلك هو الفوز العظيم). .

وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون ? وهم أولياء الله , المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن:

(الذين آمنوا وكانوا يتقون). .

كيف يخافون وكيف يحزنون , وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه ? وعلام يحزنون ومم يخافون , والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ? إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل - لا تبديل لكلمات الله -:

(ذلك هو الفوز العظيم). .

إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى . والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل . والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه . . هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله . لا كما يفهمه العوام , من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء !

وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي [ ص ] وهو أولى الأولياء , بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين , وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه:

(ولا يحزنك قولهم . إن العزة لله جميعاً . هو السميع العليم). .

ويفرد الله بالعزة هنا , ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين - كما في الموضع الآخر - لأن السياق سياق حماية الله لأوليائه . فيفرده بالعزة جميعاً - وهي أصلاً لله وحده , والرسول والمؤمنون يستمدونها منه - ليجرد منها الناس جميعاً , ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس . أما الرسول [ ص ] فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه . فلا يحزن لما يقولون . والله معه وهو السميع العليم . الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد . وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة , وفي عصاة وتقاة , فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه:

(ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض). .

وهذه حكمة ذكر(من)هنا لا "ما" لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء . فالسياق جار فيها مجراه .

(وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء). .

فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء ; وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة:

إن يتبعون إلا الظن . وإن هم إلا يخرصون . . .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)

ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار:

(هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون). .

والمالك للحركة وللسكون , الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس , ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون ! ويبصرهم فيبصرون . . ممسك بمقاليد الحركة والسكون , قادر على الناس , قادر على حماية أوليائه من الناس . ورسوله - [ ص ] - في مقدمة أوليائه . ومن معه من المؤمنين . .

(إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون). .

يسمعون فيتدبرون ما يسمعون .

والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية . ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقة رداً . كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق . وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً .

فهذا الليل الذي يسكنون فيه , وهذا النهار الذي يبصرون به , هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم . وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم - ولو لم يتعمقوا في البحث و "العلم" .

ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية !

وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم "العلوم الحديثة ! " لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها . ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون . وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة , وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها , متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور اللّه في هذه الآفاق !

والافتراء على اللّه بالشركاء يكون بنسبة ولد للّه - سبحانه - وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات اللّه .

الدرس التاسع:68 - 70 تكذيب المشركين في إشراكهم بالله

وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن:

(قالوا:اتخذ اللّه ولداً , سبحانه هو الغني , له ما في السماوات وما في الأرض , إن عندكم من سلطان بهذا , أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? قل:إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم , ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). .

وعقيدة أن للّه - سبحانه - ولداً , عيقدة ساذجة , منشؤها قصور في التصور , يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية , والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية ; والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء , وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان للّه .

فالبشر يموتون , والحياة باقية إلى أجل معلوم , فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر , والولد وسيلة لهذا الامتداد .

والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون . والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية , تؤدي دورها في عمارة الأرض - كما شاء اللّه - وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة .

والبشر يكافحون فيما يحيط بهم , ويكافحون أعداءهم من الحيوان والناس . فهم في حاجة إلى التساند ,
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68)

والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال .

والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه , والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال . . .

وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض , حتى ينقضي الأجل , ويقضي اللّه أمراً كان مفعولاً .

وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية , فلا الحاجة إلى الامتداد , ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة , ولا الحاجة إلى النصير , ولا الحاجة إلى المال . ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات اللّه تعالى . .

ومن ثم تنتفي حكمة الولد , لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاتها , يتحقق بالولد . وما قضت حكمة اللّه أن يتوالد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة . فهي تقتضي الولد اقتضاء . وليست المسألة جزافاً .

ومن ثم كان الرد على فرية: (قالوا اتخذ اللّه ولداً). . هو:

(سبحانه ! هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض).

(سبحانه ! . .)تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصور . (هو الغنى). . بكل معاني الغنى , عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال . مما يقتضي وجود الولد . والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات , فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية . (له ما في السماوات وما في الأرض). فكل شيء ملكه . ولا حاجة به - سبحانه - لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد . فالولد إذن عبث . تعالى اللّه سبحانه عن العبث !

ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية , مما جد عند المتكلمين , وفي الفلسفات الأخرى . لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة . ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاضر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها !

فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم , وحاجتهم إلى الولد , وتصورهم لهذه الحاجة , وانتفاء وجودها بالقياس إلى اللّه الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض , ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام , بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة .

ثم يجبههم بالواقع , وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون . ويسمي البرهان سلطاناً , لأن البرهان قوة , وصاحب البرهان قوي ذو سلطان:

(إن عندكم من سلطان بهذا). .

ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون .

أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? . .

وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق . فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على اللّه - سبحانه - ! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة . فهو أولاً ينافي ما يستحقه اللّه من عباده من تنزيه وتعظيم , لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور . تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً . ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70)

الخالق والمخلوق , ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات . فكلها فرع من تصور هذه العلاقة . وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفسهم في الوثنيات من سلطان ; وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان , إنما نشأ عن تصور العلاقة بين اللّه تعالى وبناته الملائكة !

أو بين اللّه تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والنبوة , وحكاية الخطيئة , ومنها نشأت مسألة الاعتراف , ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح [ بزعمهم ] . . إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة .

فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي , ولكنه مسألة الحياة برمتها . وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء , انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه ! إنما نشأ من هذه الحلقة . حلقة فساد تصور العلاقة بين اللّه وخلقه . وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء .

ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام . . اللّه خالق أزلي باق , لا يحتاج إلى الولد . والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء . وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي . فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز , ومن حاد عنها ضل وخسر . . الناس في هذا كلهم سواء . وكلهم مرجعهم إلى اللّه . وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء . وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً . ولكل نفس ما عملت . ولا يظلم ربك أحداً .

عقيدة بسيطة واضحة , لا تدع مجالاً لتأويل فاسد , ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات , ولا في سحب وضباب !

ومن ثم يقف الجميع سواء أمام اللّه وكلهم مخاطب بالشريعة , وكلهم مكلف بها , وكلهم حفيظ عليها . وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض , نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين اللّه .

(قل:إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون). .

لا يفلحون أي فلاح . لا يفلحون في شِعب ولا طريق . لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى . والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن اللّه الصحيحة , المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع , وتنمية الحياة , ودفعها إلى الإمام . وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية , ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية . فذلك فلاح ظاهري موقوت , منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال .

(متاع في الدنيا . ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). .

مجرد متاع واط . وهو متاع قصير الأمد . وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة . إنما يعقبه (العذاب الشديد)ثمرة للانحراف عن سنن اللّه الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان .

الوحدة الثالثة:71 - 103 الموضوع:إهلاك الكافرين واستخلاف الآخرين من خلال القصص القرآني مقدمة الوحدة الإشارة في هذه السورة إلى القرون الخالية , وما كان من عاقبة تكذيبهم لرسلهم , واستخلاف من بعدهم لاختبارهم: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات , وما كانوا ليؤمنوا , كذلك نجزي القوم المجرمين , ثم جعناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون . .

كما سبقت الإشارة بأن لكل أمة رسولاً فإذا جاءهم رسولهم قضي بينهم بالقسط:(ولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون).

فالآن يأخذ السياق في جولة تفصيلية لهاتين الإشارتين , فيسوق طرفاً من قصة نوح مع قومه , وطرفاً من قصة موسى مع فرعون وملئه , تتحقق فيهما عاقبة التكذيب , والقضاء في أمر الأمة بعد مجيء رسولها , وإبلاغها رسالته , وتحذيرها عاقبة المخالفة .

كذلك تجيء إشارة عابرة لقصة يونس الذي آمنت قريته بعد أن كاد يحل بها العذاب , فرفع عنها ونجت منه بالإيمان . . وهي لمسة من ناحية أخرى تزين الإيمان للمكذبين , لعلهم يتقون العذاب الذي ينذرون . ولا تكون عاقبتهم كعاقبة قوم نوح وقوم موسى المهلكين .

وقد انتهى الدرس الماضي بتكليف الرسول - [ ص ] - أن يعلن عاقبة الذين يفترون على اللّه الكذب وينسبون إليه شركاء:(قل إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون , متاع في الدنيا , ثم إلينا مرجعهم , ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). وذلك بعد تطمين الرسول: (ولا يحزنك قولهم . إن العزة للّه جميعاً)وبأن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

واستمر السياق بتكليف جديد:أن يقص عليهم - [ ص ] - نبأ نوح فيما يختص بتحديه لقومه ثم ما كان من نجاته ومن آمنوا معه واستخلافهم في الأرض , وهلاك المكذبين وهم أقوى وأكثر عدداً .

والمناسبة ظاهرة لإيراد هذا القصص بالنسبة لسياق السورة , وبالنسبة لهذه المعاني القريبة قبلها . والقصص في القرآن يجيء في السياق ليؤدي وظيفة فيه ; ويتكرر في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه من السياق , والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع , وقد يعرض غيرها من القصة الواحدة في موضع آخر , لأن هذا الموضع تناسبه حلقة أخرى من القصة .
 وسنرى فيما يعرض من قصتي نوح وموسى ويونس هنا وفي طريقة العرض مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكة من النبي - [ ص ] - والقلة المؤمنة معه , واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان . كما سنجد المناسبة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه .

الدرس الأول:71 - 73 مشهد من قصة نوح

واتل عليهم نبأ نوح , إذ قال لقومه:يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت , فأجمعوا أمركم وشركاءكم , ثم لا يكن أمركم عليكم غمة , ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون . فإن توليتم فما سألتكم من أجر , إن أجري إلا على اللّه , وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك , وجعلناهم خلائف , وأغرقنا الذين كذبوا بآيانتا , فانظر كيف كان عاقبة المنذرين . .

إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح , هي الحلقة الأخيرة:حلقة التحدي الأخير , بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل . ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان , ولا التفصيلات في تلك الحلقة , لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة باللّه وحده , ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة , وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة . لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة . ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة , لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع .

(واتل عليهم نبأ نوح , إذ قال لقومه:يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم . ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . ثم اقضوا إلي ولا تنظرون). .

إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق , فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم ; وتذكيري لكم بآيات اللّه . فأنتم وما تريدون . وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على اللّه:

(فعلى اللّه توكلت). .

عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء .

(فأجمعوا أمركم وشركاءكم). .

وتدبروا مصادر أمركم وموارده , وخذوا أهبتكم متضامنين:

ثم ولا يكن أمركم عليكم غمة . .

بل ليكن الموقف واضحاً في نفوسكم , وما تعتزمونه مقرراً لا لبس فيه ولا غموض , ولا تردد فيه ولا رجعة .

(ثم اقضوا إلي). .

فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم , بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه . .

(ولا تنظرون). .

ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد , فكل استعدادي , هو اعتمادي على اللّه وحده دون سواه .

إنه التحدي الصريح المثير , الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته , واثق كل الوثوق من عدته , حتى ليغري خصومه بنفسه , ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه ! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة ? وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً ?

كان معه الإيمان . . القوة التي تتصاغر أمامها القوى , وتتضاءل أمامها الكثرة , ويعجز أمامها التدبير . وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان !

إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه . فليس هذا التحدي غروراً , وليس كذلك تهوراً , وليس انتحاراً . إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان .

وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه . . وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض . وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أياً كان !

ولن يضرهم الطاغوت إلاّ أذى - ابتلاء من اللّه لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه , ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه . ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف . ثم تعود الكرة للمؤمنين . ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين .

واللّه سبحانه يقص قصة عبده نوح وهو يتحدى قوى الطاغوت في زمانه هذا التحدي الواضح الصريح . فلنمض مع القصة لنرى نهايتها عن قريب ,

(فإن توليتم فما سألتكم من أجر . إن أجري إلا على اللّه . وأمرت أن أكون من المسلمين). .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71)

فإن أعرضتم عني وابتعدتم , فأنتم وشأنكم , فما كنت أسألكم أجراً على الهداية , فينقض أجري بتوليكم:

(إن أجري إلا على اللّه). .

ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي , فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها للّه:

(وأمرت أن أكون من المسلمين). .

وأنا عندما أمرت به . . من المسلمين . .

فماذا كان ?

(فكذبوه . فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف . وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا). .

هكذا باختصار . نجاته هو ومن معه في الفلك - وهم المؤمنون . واستخلافهم في الأرض على قلتهم . وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم:

(فانظر كيف كان عاقبة المنذرين). .

لينظر من ينظر (عاقبة المنذرين)المكذبين وليتعظ من يتعظ بعاقبة المؤمنين الناجين .

ويجعل السياق بإعلان نجاة نوح ومن معه , لأن نوحاً والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة . فلم تكن النتيجة مجرد هلاك هذه الكثرة , بل كان قبلها نجاة القلة من جميع الأخطار ; واستخلافها في الأرض , تعيد تعميرها وتجديد الحياة فيها , وتأدية الدور الرئيسي فترة من الزمان .

هذه سنة اللّه في الأرض . وهذا وعده لأوليائه فيها . . فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة , فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق , وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين , وألا تستعجل وعد اللّه حتى يجيء وهي ماضية في الطريق . . واللّه لا يخدع أولياءه - سبحانه - ولا يعجز عن نصرهم بقوته , ولا يسلمهم كذلك لأعدائه . . ولكنه يعلمهم ويدربهم ويزودهم - في الابتلاء - بزاد الطريق . .

الدرس الثاني:74 إشارة إلى الرسل من بعد نوح

وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح , وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون:

ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات , فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل , كذلك نطبع على قلوب المعتدين . .

فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات .
والنص يقول:إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل . . وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون . فلم تحولهم الآيات عن عنادهم . كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم , لأنهم ذوو طبيعة واحدة . فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم , أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف ! فهم منهم , طبيعتهم واحدة , وموقفهم تجاه البينات واحد . لا يفتحون لها قلوبهم , ولا يتدبرونها بعقولهم . وهم معتدون متجاوزون

فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73)

حد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى , ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها اللّه لهم ليتدبروا بها ويتبينوا . وبمثل هذا التعطيل , تغلق قلوبهم وتوصد منافذها:

(كذلك نطبع على قلوب المعتدين). .

حسب سنة اللّه القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر , فلا يعود صالحاً للتلقي والاستقبال . . لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء . فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال .

الدرس الثالث:75 - 77 اتهام آل فرعون لموسى بأنه ساحر مفسد

فأما قصة موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي , وينهيها عند غرق فرعون وجنوده , على نطاق أوسع مما في قصة نوح , ملماً بالمواقف ذات الشبه بموقف المشركين في مكة من الرسول - [ ص ] - وموقف القلة المؤمنة التي معه .

وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى , مقسمة إلى خمسة مواقف , يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به . . وهذه المواقف الخمسة تتتابع في السياق على هذا النحو:

(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا , فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا:إن هذا لسحر مبين . قال موسى:أتقولون للحق لما جاءكم , أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون . قالوا:أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا , وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين). .

والآيات التي بعث بها موسى إلى فرعون وملئه هي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف . ولكنها لا تذكر هنا ولا تفصل لأن السياق لا يقتضيها , والإجمال في هذا الموضع يغني . والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات اللّه:

(فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين). .

(فلما جاءهم الحق من عندنا). .

بهذا التحديد . . (من عندنا). . ليصور شناعة الجريمة فيما قالوه عن هذا الحق الصادر من عند اللّه:

(قالوا:إن هذا لسحر مبين). .

بهذا التوكيد المتبجح الذي لا يستند مع هذا إلى دليل . . (إن هذا لسحر مبين). . كأنها جملة واحدة يتعارف عليها المكذبون في جميع العصور ! فهكذا قال مشركو قريش , كما حكي عنهم في مطلع السورة , على تباعد الزمان والمكان , وعلى بعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن !

(قال موسى:أتقولون للحق لما جاءكم . أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون). .

وقد حذف من استنكار موسى الأول ما دل عليه الثاني . فكأنه قال لهم:أتقولون للحق لما جاءكم:هذا سحر ? أسحر هذا ? وفي السؤال الأول استنكار لوصف الحق بالسحر , وفي السؤال الثاني تعجيب من أن يقول أحد عن هذا إنه سحر . فالسحر لا يستهدف هداية الناس , ولا يتضمن عقيدة , وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق ; ولا يتضمن منهاجاً تنظيمياً للحياة . فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس . وما كان الساحرون ليؤدوا عملاً يستهدف مثل هذه الأغراض , ويحقق مثل هذا الاتجاه ; وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)

وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات اللّه:

(قالوا:أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا , وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين). .

وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة , التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي . وهو الخوف على السلطان في الأرض , هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة .

إنها العلة القديمة الجديدة , التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات , وانتحال شتى المعاذير , ورمي الدعاة بأشنع التهم , والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي "الكبرياء في الأرض" وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير , بكل ما فيها من زيف , وبكل ما فيها من فساد , وبكل ما فيها من أوهام وخرافات . لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة , واستنارة العقول بالنور الجديد , خطر على القيم الموروثة , وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير , وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند . إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام ! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون اللّه . .
ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعاً - إنما تستهدف تقرير ربوبية اللّه وحده للعالمين ; وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها , وتزاولها في حياة الناس . وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير . ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بربوبية اللّه وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد . .

ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير ; وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم , والانقلاب على سلطانهم , والانقضاض على ملكهم , والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان !

إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى اللّه رب العالمين !

وما كان رجال من أذكياء قريش مثلاً ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد - [ ص ] - من صدق وسمو , وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد . ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة , القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد . كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض , فقالوا متبجحين:

وما نحن لك بمؤمنين !

الدرس الرابع:79 - 82 المباراة بين موسى والسحرة وإيمانهم

وتعلق فرعون وملؤه بحكاية السحر , وأرادوا - في أغلب الظن - أن يغرقوا الجماهير بها , بأن يعقدوا حلقة للسحرة يتحدون بها موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها , ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحراً ماهراً . وبذلك ينتهي الخطر الذي يخشونه على معتقداتهم الموروثة , وعلى سلطانهم في الأرض , وهو الأساس . . ونرجح أن هذه كانت الدوافع الحقيقية لمهرجان السحرة , بعدما أفصح القوم عن شعورهم بالخطر الحقيقي الذي يتوقعونه:

(وقال فرعون:ائتوني بكل ساحر عليم . فلما جاء السحرة قال لهم موسى:ألقوا ما أنتم ملقون . فلما ألقوا قال موسى:ما جئتم به السحر , إن اللّه سيبطله , إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين , ويحق اللّه الحق بكلماته ولو كره المجرمون). .

ونلاحظ هنا اختصاراً في موقف المباراة , لأن نهايته هي المقصودة . وفي قولة موسى: (ما جئتم به السحر). . رد على تهمة السحر التي وجهت إليه . فالسحر هو هذا الذي يصنعه هؤلاء , لأنه ليس أكثر من تخييل
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80)

وسحر للأنظار لا هدف له إلا اللعب بالعقول , لا تصحبه دعوة , ولا تقوم عليه حركة . فهذا هو السحر لا آيات اللّه التي جاءهم بها حقاً من عند اللّه . . وفي قوله:

(إن اللّه سيبطله). .

تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه , المطمئن إلى أن ربه لا يرضى أن ينجح السحر وهو عمل غير صالح:

(إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين). .

الذين يضللون الناس بالسحر , أو الملأ الذين جاءوا بالسحرة بنية الفساد والإبقاء على الضلال:

(ويحق اللّه الحق بكلماته). .

كلماته التكوينية (كن فيكون). .

وهي تعبير عن توجه المشيئة . أو كلماته التي هي آياته وبيناته:

(ولو كره المجرمون). .

فإن كراهتهم لا تعطل مشيئة اللّه , ولا تقف دون آياته .

وقد كان . . وبطل السحر وعلا الحق . . ولكن السياق يختصر المشاهد هنا ; لأنها ليست مقصودة في هذا المجال .

الدرس الخامس:83 - 87 تعذيب آل فرعون لمن آمنوا بموسى

ويسدل الستار هنا ليرفع على موسى ومن آمن معه وهم قليل من شباب القوم لا من شيوخهم ! . وهذا إحدى عبر القصة المقصودة .

(فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه , على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم . وإن فرعون لعال في الأرض . وإنه لمن المسرفين . وقال موسى:يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين . فقالوا:على اللّه توكلنا , ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين , ونجنا برحمتك من القوم الكافرين . وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً , واجعلوا بيوتكم قبلة , وأقيموا الصلاة , وبشر المؤمنين). .

ويفيد هذا النص أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم لموسى من بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار , لا مجموعة الشعب الإسرائيلي . وأن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم وردهم عن اتباع موسى , خوفاً من فرعون وتأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب , والأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة وبخاصة من إسرائيل . وقد كان فرعون ذا سلطة ضخمة وجبروت , كما كان مسرفاً في الطغيان , لا يقف عند حد , ولا يتحرج من إجراء قاس .

وهنا لا بد من إيمان يرجح المخاوف , ويطمئن القلوب , ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه:

(وقال موسى:يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين). .

فالتوكل على اللّه دلالة الإيمان ومقتضاه . وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت . وقد ذكر لهم موسى الإيمان والإسلام . وجعل التوكل على اللّه مقتضى هذا وذاك . . مقتضى الاعتقاد في اللّه , ومقتضى إسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد . .

واستجاب المؤمنون لهتاف الإيمان على لسان نبيهم:

(فقالوا:على اللّه توكلنا). .

فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84)

ومن ثم توجهوا إلى اللّه بالدعاء:

(ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين). .

والدعاء بألا يجعلهم اللّه فتنة للقوم الظالمين مقصود به ألا يمكن القوم الظالمين منهم , فيظن القوم أن تمكنهم من المؤمنين باللّه دليل على أن عقيدتهم هم أصح ولذلك انتصروا وهزم المؤمنون ! ويكون هذا استدراجاً لهم من اللّه وفتنة ليلجوا في ضلالهم . فالمؤمنون يدعون اللّه أن يعصمهم من تسلط الظالمين عليهم ولو لاستدراج الظالمين . والآية الثانية أصرح في النتيجة المطلوبة:

(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين). .

ودعاؤهم اللّه ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين , وأن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين , لا ينافي الاتكال على اللّه والتقوي به . بل هو أدل على التوجه بالاتكال والاعتماد إلى اللّه . والمؤمن لا يتمنى البلاء , ولكن يثبت عند اللقاء .

وعقب هذا التميز , وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى , وإيمان من آمن بموسى , أوحى اللّه إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم , وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار ; وكلفهم تطهير بيوتهم , وتزكية نفوسهم , والاستبشار بنصر اللّه:

(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً , واجعلوا بيوتكم قبلة , وأقيموا الصلاة , وبشر المؤمنين). .

وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية . وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات , وبخاصة قبيل المعارك والمشقات . ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية , ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة , تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة , وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة .

وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة , ليست خاصة ببني إسرائيل , فهي تجربة إيمانية خالصة . وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي , وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت , وفسد الناس , وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور:

اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها , لتطهرها وتزكيها , وتدربها وتنظمها , حتى يأتي وعد اللّه لها .

اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد . تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي ; وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح ; وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور .

الدرس السادس:88- 89 موسى يدعو على آل فرعون

واتجه موسى - عليه السلام - إلى ربه , وقد يئس من فرعون وملئه أن يكون فيهم خير , وأن تكون قد بقيت فيهم بقية , وأن يرجى لهم صلاح . اتجه إليه يدعو على فرعون وملئه , الذين يملكون المال والزينة , تضعف إزاءهما قلوب الكثيرين , فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال , وإلى الضلال . . اتجه موسى إلى ربه يدعوه أن يدمر هذه الأموال , وأن يشد على قلوب أهلها فلا يؤمنوا إلا حيث لا ينفعهم إيمان . فاستجاب اللّه الدعاء:

فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

(وقال موسى:ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا . ربنا ليضلوا عن سبيلك . ربنا اطمس على أموالهم , واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال:قد أجيبت دعوتكما , فاستقيما , ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). .

(ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا). .

ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك , وإما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين . وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم . ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيراً من القلوب التي لا يبلغ من يقينها باللّه أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار , وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل اللّه في الدنيا والآخرة . وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس ويطلب لوقف هذا الإضلال , ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء , أن يطمس اللّه على هذه الأموال يتدميرها والذهاب بها , بحيث لا ينتفع بها أصحابها .
 أما دعاؤه بأن يشد اللّه على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم , فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب , ومن أن يكون لها توبة أو إنابة . دعاء بأن يزيدها اللّه قسوة واستغلاقاً حتى يأتيهم العذاب , وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان , لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل , ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان .

(قال:قد أجيبت دعوتكما). .

كتبت لها الإجابة وقضي الأمر .

(فاستقيما). .

في طريقكما وعلى هداكما حتى يأتي الأجل:

(ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). .

فيخبطوا على غير علم , ويترددوا في الخطط والتدبيرات , ويقلقوا على المصير , ولا يعرفوا إن كانوا يسيرون في الطريق الهادي أم هم ضلوا السبيل .

الدرس السابع:90 - 92 هلاك فرعون غرقا والآية في إلقاء جثته إلى الشاطىء

والمشهد التالي هو مشهد التنفيذ .

وجاوزنا ببني إسرائيل البحر , فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً , حتى إذا أدركه الغرق قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية , وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون . .

إنه الموقف الحاسم والمشهد الأخير في قصة التحدي والتكذيب . والسياق يعرضه مختصراً مجملاً , لأن الغرض من سياقة هذه الحلقة من القصة في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة . بيان رعاية اللّه وحمايته لأوليائه , وإنزال العذاب والهلاك بأعدائه , الذين يغفلون عن آياته الكونية وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة . وهو مصداق ما سبق في السورة من وعيد للمكذبين في قوله تعالى:(ولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون:متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل:لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء اللّه لكل أمة أجل , إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل:أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً , ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ?!). .

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89)

فهنا يأتي القصص ليصدق ذلك الوعيد:

(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر). .

بقيادتنا وهدايتنا ورعايتنا . ولهذا الإسناد في هذا الموضع دلالته . 

(فأتبعهم فرعون وجنوده). .

لا اهتداء وإيماناً , ولا دفاعاً مشروعاً . ولكن:

(بغياً وعدواً). .

وتجاوزاً للحد وطغياناً . .

ومن مشهد البغي والعدو مباشرة إلى مشهد الغرق في ومضة:

(حتى إذا أدركه الغرق). .

وعاين الموت , ولم يعد يملك نجاة . .

قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . .

لقد سقطت عن فرعون الباغي العادي المتجبر الطاغي . . كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه ولنفسه قوة هائلة مخيفة , ولقد تضاءل وتصاغر واستخذى . فهو لا يكتفي بأن يعلن إيمانه بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل . فيزيد في استسلام . .

(وأنا من المسلمين). .

المسلَمين !

(آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?!). .

آلآن حيث لا اختيار ولا فرار ? آلآن وقد سبق العصيان والاستكبار ? آلآن ?!

(فاليوم ننجيك ببدنك). .

لا تأكله الأسماك , ولا يذهب منكراً مع التيار لا يعرف للناس . ذلك ليدرك من وراءك من الجماهير كيف كان مصيرك:

(لتكون لمن خلفك آية). .

يتعظون بها ويعتبرون , ويرون عاقبة التصدي لقوة اللّه ووعيده بالتكذيب:

(وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون). .

لا يوجهون إليها قلوبهم وعقولهم , ولا يتدبرونها في الآفاق وفي أنفسهم .

ويسدل الستار على المشهد النهائي في المأساة . مأساة البغي والفساد والتحدي والعصيان . . ويعقب السياق بلمحة سريعة عن مآل بني إسرائيل بعدها , تستغرق ما حدث في أجيال:

(ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق , ورزقناهم من الطيبات , فما اختلفوا حتى جاءهم العلم . إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .

والمبوأ:مكان الإقامة الأمين . وإضافته إلى الصدق تزيده أماناً وثباتاً واستقراراً كثبات الصدق الذي


وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)

لا يضطرب ولا يتزعزع اضطراب الكذب وتزعزع الافتراء . ولقد طاب المقام فترة لبني إسرائيل بعد تجارب طويلة , لا يذكرها السياق هنا لأنها ليست من مقاصده , وتمتعوا بطيبات من الرزق حلال , حتى فسقوا عن أمر اللّه فحرمت عليهم . والسياق لا يذكر هنا إلا اختلافهم بعد وفاق . اختلافهم في دينهم ودنياهم , لا على جهل ولكن بعد أن جاءهم العلم , وبسبب هذا العلم , واستخدامه في التأويلات الباطلة .

ولما كان المقام هنا مقام نصرة الإيمان وخذلان الطغيان , فإن السياق لا يطيل في عرض ما وقع بعد ذلك من بني إسرائيل , ولا يفصل خلافهم بعد ما جاءهم العلم . ولكن يطوي هذه الصفحة , ويكلها بما فيها للّه في يوم القيامة:

(إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .

فيبقى للقصة جلالها , ويظل للمشهد الأخير تأثيره . .

وهكذا ندرك لماذا يساق القصص القرآني , وكيف يساق في كل موضع من مواضعه . فليس هو مجرد حكايات تروى , ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديراً .

الدرس التاسع:94 - 103 قصة قوم يونس والمشيئة في الهدى والضلال

بعد ذلك يجيء التعقيب على هذه الخاتمة لقصة موسى وقصة نوح من قبلها , يبدأ خطاباً إلى الرسول - [ ص ] - تثبيتاً بما حدث للرسل قبله , وبياناً لعلة تكذيب قومه له , أن ليس ما ينقصهم هو الآيات والبينات , إنما هي سنة اللّه في المكذبين من قبلهم , وسنة اللّه في خلق الإنسان باستعداداته للخير والشر والهدى والضلال . . وفي الطريق يلم إلمامة سريعة بقصة يونس وإيمان قومه به بعد أن كاد العذاب ينزل بهم , فرد عنهم . لعل فيها حافزاً للمكذبين قبل فوات الأوان . . وينتهي بالخلاصة المستفادة من ذلك القصص كله .
 أن سنة اللّه التي مضت في الأولين ماضية في الآخرين:عذاب وهلاك للمكذبين . ونجاة وخلاص للرسل ومن معهم من المؤمنين . حقاً كتبه اللّه على نفسه . وجعله سنة ماضية لا تتخلف ولا تحيد:

فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك , فلا تكونن من الممترين . ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين . إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون , ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم . فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها , إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ومتعناهم إلى حين . ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً . أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ! وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه , ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون . قل:انظروا ماذا في السموات والأرض , وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون , فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ? قل:فانتظروا إني معكم من المنتظرين . ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا , كذلك حقا علينا ننج المؤمنين . .

لقد كان آخر الحديث عن بني إسرائيل , وهم من أهل الكتاب , وهم يعرفون قصة نوح مع قومه وقصة موسى مع فرعون , يقرأونها في كتابهم . فهنا يتوجه الخطاب إلى الرسول - [ ص ] - إن كان في شك مما أنزل إليه , من هذا القصص أو غيره , فليسأل الذين يقرأون الكتاب من قبله . فلديهم عنه علم , مما يقرأون:

فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

ولكن الرسول - [ ص ] - لم يكن في شك مما أنزل اللّه إليه . أو كما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - " لا أشك ولا أسأل " . ففيم إذن هذا القول له أن يسأل إن كان في شك . والتعقيب عليه: (لقد جاءك الحق من ربك)وفي هذا ما يكفيه لليقين ?

ولكن هذا التوجيه يشي بما كان وراءه من شدة الموقف وتأزمه في مكة بعد حادث الإسراء , وقد ارتد بعض من أسلموا لعدم تصديقه . وبعد موت خديجة وأبي طالب , واشتداد الأذى على رسول اللّه [ ص ] ومن معه ; وبعد تجمد الدعوة تقريباً في مكة بسبب موقف قريش العنيد . . وكل هذه ملابسات تلقي ظلالها على قلب رسول اللّه - [ ص ] - فيسري عنه ربه بهذا التوكيد , بعد ذلك القصص الموحى . .

ثم إنه تعريض بالشاكين الممترين المكذبين:

(ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين).

وهذا التعريض يترك الفرصة لمن يريد منهم أن يرجع ليرجع ; لأنه إذا كان الرسول - [ ص ] - مأذوناً في أن يسأل إن كان في شك , ثم هو لا يسأل ولا يشك , فهو إذن على يقين مما جاء به أنه الحق . وفي هذا إيحاء للآخرين ألا يترددوا , وألا يكونوا (من الممترين). .

ثم إنه المنهج الذي يضعه اللّه لهذه الأمة فيما لا تستوثق منه . . أن تسأل أهل الذكر . . ولو كان من أخص خصائص العقيدة ; لأن المسلم مكلف أن يستيقن من عقيدته وشريعته , وألا يعتمد على التقليد دون تثبت ويقين .

ثم أيكون هنالك تعارض بين إباحة هذا السؤال عند الشك وبين قوله: (فلا تكونن من الممترين)? . . ليس هنالك تعارض لأن المنهي عنه هو الشك والبقاء على الشك بحيث يصبح صفة دائمة . . . . " من الممترين" . . ولا يتحرك صاحبها للوصول إلى يقين . وهي حالة رديئة لا تنتهي إلى معرفة , ولا تحفز إلى استفادة , ولا تئول إلى يقين .

وبعد فإذا كان ما جاء إلى الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه , فما تعليل إصرار قوم على التكذيب ولجاجهم فيه ? تعليله أن كلمة اللّه وسنته قد اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي , ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه , ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها , فتكون نهايته إلى الضلال , مهما تكن الآيات والبينات , لأنه لا يفيد شيئاً من الآيات والبينات . وعندئذ تكون كلمة اللّه وسنته قد حقت عليهم وتحققت فيهم:

(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون , ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم). .

فلا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنه لم يجيء عن اختيار . ولم تعد هنالك فرصة لتحقيق مدلوله في الحياة . ومنذ هنيهة كان أمامنا مشهد يصدق هذا .
مشهد فرعون حين أدركه الغرق يقول: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين . . فيقال له:(آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?!).

وعند هذا الموقف الذي تظهر فيه حتمية سنن اللّه العامة , وانتهاؤها إلى نهايتها المرسومة , متى تعرض الإنسان لها باختياره , تفتح نافذة مضيئة بآخر شعاع من أشعة الأمل في النجاة . ذلك أن يعود المكذبون عن تكذيبهم قبيل وقوع العذاب:

(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانهاً ! إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ومتعناهم إلى حين). .

وهو تحضيض ينسحب على الماضي , فيفيد أن مدلوله لم يقع . . (فلولا كانت قرية آمنت)من هذه القرى
فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)

التي مر ذكرها . ولكن القرى لم تؤمن . إنما آمنت منها قلة , فكانت الصفة الغالبة هي صفة عدم الإيمان . . ذلك فيما عدا قرية واحدة - والقرية:القوم , والتسمية هكذا إيذان بأن الرسالات كانت في قرى الحضر ولم تكن في محلات البدو - ولا يفصل السياق هنا قصة يونس وقومه , إنما يشير إلى خاتمتها هذه الإشارة ; لأن الخاتمة وحدها هي المقصودة هنا . فلا نزيدها نحن تفصيلاً . وحسبنا أن ندرك أن قوم يونس كان عذاب مخز يتهددهم , فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كشف عنهم العذاب , وتركوا يتمتعون بالحياة إلى أجل . ولو لم يؤمنوا لحل العذاب بهم وفاقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه . .
حسبنا هذا لندرك أمرين هامين:

أولهما:الإهابة بالمكذبين أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة , فلعلهم ناجون كما نجا قوم يونس من عذاب الخزي في الحياة الدنيا . وهو الغرض المباشر من سياقة القصة هذا المساق . .

وثانيهما:أن سنة الله لم تتعطل ولم تقف بكشف هذا العذاب , وترك قوم يونس يتمتعون فترة أخرى . بل مضت ونفذت . لأن مقتضى سنة الله كان أن يحل العذاب بهم لو أصروا على تكذيبهم حتى يجيء . فلما عدلوا قبل مجيئه جرت السنة بإنجائهم نتيجة لهذا العدول . فلا جبرية إذن في تصرفات الناس , ولكن الجبرية في ترتيب آثارها عليها .

ومن ثم ترد القاعدة الكلية في الكفر والإيمان:

(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً . أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ? وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله , ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون). .

ولو شاء ربك لخلق هذا الجنس البشري خلقة أخرى , فجعله لا يعرف إلا طريقاً واحداً هو طريق الإيمان كالملائكة مثلاً . أو لجعل له استعداداً واحداً يقود جميع أفراده إلى الإيمان .

ولو شاء كذلك لأجبر الناس جميعاً وقهرهم عليه , حتى لا تكون لهم إرادة في اختياره .

ولكن حكمة الخالق التي قد ندرك بعض مراميها وقد لا ندرك , دون أن ينفي عدم إدراكنا لها وجودها . هذه الحكمة اقتضت خلقة هذا الكائن البشري باستعداد للخير وللشر وللهدى والضلال . ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك . وقدرت أنه إذا أحسن استخدام مواهبه اللدنية من حواس ومشاعر ومدارك , ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس وما يجيء به الرسل من آيات وبينات , فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص . وعلى العكس حين يعطل مواهبه ويغلق مداركه ويسترها عن دلائل الإيمان يقسو قلبه , ويستغلق عقله , وينتهي بذلك إلى التكذيب أو الجحود , فإلى ما قدره الله للمكذبين الجاحدين من جزاء . .

فالإيمان إذن متروك للاختيار . لا يكره الرسول عليه أحداً . لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير:

(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ?). .

وهو سؤال للإنكار , فإن هذا الإكراه لا يكون:

(وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله):

وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99)

وفق سنته الماضية التي بيناها . فلا تصل إلى الإيمان وقد سارت في الطريق الآخر الذي لا يؤدي إليه . لا أنها تريد الإيمان وتسلك طريقه ثم تمنع عنه , فهذا ليس المقصود بالنص . بل المقصود انها لا تصل إلى الإيمان إلا إذا سارت وفق إذن الله وسنته في الوصول إليه من طريقه المرسوم بالسنة العامة . وعندئذ يهديها الله ويقع لها الإيمان بإذنه . فلا شيء يتم وقوعه إلا بقدر خاص به . إنما الناس يسيرون في الطريق . فيقدر الله لهم عاقبة الطريق , ويوقعها بالفعل جزاء ما جاهدوا في الله ليهتدوا . .

ويدل على هذا عقب الآية:

(ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون). .

فالذين عطلوا عقولهم عن التدبر , يجعل الرجس عليهم . والرجس أبشع الدنس الروحي , فهؤلاء ينالهم ذلك الرجس بسبب تعطيلهم لمداركهم عن التعقل والتدبر , وانتهاؤهم بهذا إلى التكذيب والكفران .

ويزيد الأمر إيضاحاً بأن الآيات والنذر لا تغني عن الذين لا يؤمنون ; لأنهم لا يتدبرونها وهي معروضة أمامهم في السماوات والأرض:

(قل:انظروا ماذا في السماوات والأرض . وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون). .

وسواء كان عقب الآية استفهاماً أو تقريراً . فمؤداه واحد . فإن ما في السماوات والأرض حافل بالآيات ; ولكن الآيات والنذر لا تفيد الذين لا يؤمنون , لأنهم من قبل لم يلقوا بالا إليها , ولم يتدبروها . .

وقبل أن نمضي إلى نهاية الشوط نقف لحظة أمام قوله تعالى:

(قل:انظروا ماذا في السماوات والأرض . وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون). .

إن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة , لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل . ولكن الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها مراراً , هي أن بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية ! وأن هذه الفطرة تسمع لهذا الكون - حين تتفتح وتستيقظ - وتسمع منه الكثير !

والمنهج القرآني في تكوين التصور الإسلامي في الإدراك البشري يتكئ على ما في السماوات والأرض , ويستلهم هذا الكون ; ويوجه إليه النظر والسمع والقلب والعقل . . وذلك دون أن يخل بطبيعة التناسق والتوازن فيه ; ودون أن يجعل من هذا الكون إلهاً يؤثر في الإنسان أثر الله ! كما يجدف بذلك الماديون المطموسون , ويسمون ذلك التجديف مذهبا "علميا" يقيمون عليه نظاماً اجتماعياً يسمونه:"الاشتراكية العلمية " والعلم الصحيح من ذلك التجديف كله بريء !

والنظر إلى ما في السماوات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات ; وزاد من الاستجابات والتأثرات ; وزاد من سعة الشعور بالوجود ; وزاد من التعاطف مع هذا الوجود . . وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله , وبجلال الله , وبتدبير الله , وبسلطان الله , وبحكمة الله , وعلم الله . . .

ويمضي الزمن , وتنمو معارف الإنسان العلمية عن هذا الكون , فإن كان هذا الإنسان مهتدياً بنور الله إلى جوار هذه المعارف العلمية , زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية من التأمل في هذا الكون , والأنس به , والتعرف عليه , والتجاوب معه , والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده , ولكن لا تفقهون تسبيحهم). . ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100)

باللّه . . وأما إن كانت هذه المعارف العلمية غير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره , فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة , حين تقودهم إلى مزيد من البعد عن الله ; والحرمان من بشاشة الإيمان ونوره ورفرفته وريّاه !

(وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)!

وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب , وتجمدت العقول , وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة ; واحتجب الكائن الإنساني بجملته عن هذا الوجود , فلم يسمع إيقاعات حمده وتسبيحه ?!

"إن المنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية يجعل الكون والحياة معرضاً رائعاً تتجلى فيه هذه الحقيقة . . تتجلى فيه بآثارها الفاعلة , وتملأ بوجودها وحضورها جوانب الكينونة الإنسانية المدركة . . إن هذا المنهج لا يجعل "وجود الله" سبحانه قضية يجادل عنها . فالوجود الإلهي يفعم القلب البشري - من خلال الرؤية القرآنية والمشاهدة الواقعية على السواء - بحيث لا يبقى هنالك مجال للجدل حوله . إنما يتجه المنهج القرآني مباشرة إلى الحديث عن آثار هذا الوجود في الكون كله ; وإلى الحديث عن مقتضياته كذلك في الضمير البشري والحياة البشرية .

"والمنهج القرآني في اتباعه لهذه الخطة إنما يعتمد على حقيقة أساسية في التكوين البشري . فالله هو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه). . والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين , وإلى الاعتقاد بإله . بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد , وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد . ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي إنشاء هذا الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه , فهذا مركوز في الفطرة . ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه , وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره . تعريفه بحقيقته وصفاته , لا تعريفه بوجوده وإثباته . ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته - وهي الربوبية والقوامة والحاكمية - والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية , وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها . وهذا التعطل لا يعالج - إذن - بالجدل . وليس هذا هو طريق العلاج !

"إن هذا الكون , كون مؤمن مسلم , يعرف بارئه ويخضع له , ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي - عدا بعض الأناسي ! - و "الإنسان" يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته بأصداء الإيمان والإسلام , وأصداء التسبيح والسجود . وذرات كيانه ذاته وخلاياه تشارك في هذه الأصداء ; وتخضع في حركتها الطبيعية الفطرية للنواميس التي قدرها الله . فالكائن الذي لا تستشعر فطرته هذه الأصداء كلها ; ولا تحس إيقاع النواميس الإلهية فيها هي ذاتها , ولا تلتقط أجهزته الفطرية تلك الموجات الكونية , كائن معطلة فيه أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . ومن ثم لا يكون هنالك سبيل إلى قلبه وعقله بالجدل , إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه , واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه , لعلها تتحرك , وتأخذ في العمل من جديد" .

ولفت الحس والقلب والعقل للنظر إلى ما في السماوات والأرض , وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الإنساني ; لعله ينبض ويتحرك , ويتلقى ويستجيب .

ولكن أولئك المكذبين من الجاهليين العرب - وأمثالهم - لا يتدبرون ولا يستجيبون . . فماذا ينتظرون ?

قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101)

إن سنة الله لا تتخلف , وعاقبة المكذبين معروفة , وليس لهم أن يتوقعوا من سنة الله أن تتخلف . وقد يُنظرهم الله فلا يأخذهم بعذاب الاستئصال , ولكن الذين يصرون على التكذيب لا بد لهم من النكال:

(فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ?). . (قل:فانتظروا إني معكم من المنتظرين). .

وهو التهديد الذي ينهي الجدل , ولكنه يخلع القلوب .

ويختم هذا المقطع من السياق بالنتيجة الأخيرة لكل رسالة ولكل تكذيب , وبالعبرة الأخيرة من ذلك القصص وذلك التعقيب:

(ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا . كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين). .

إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه:أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر , وبعد كل تكذيب وكل تعذيب . .

هكذا كان - والقصص المروي في السورة شاهد - وهكذا يكون . . فليطمئن المؤمنون . . .

الوحدة الرابعة:104 - 109 الموضوع:تلخيص حقائق السورة الإعتقادية هذه الخاتمة كلها درس واحد مقدمة الوحدة

هذه خاتمة السورة , وخاتمة المطاف لتلك الجولات في شتى الآفاق , تلك الجولات التي نحس أننا عائدون منها بعد سياحات طويلة في آفاق الكون , وجوانب النفس , وعوالم الفكر والشعور والتأملات . عائدون منها في مثل الإجهاد من طول التطواف , وضخامة الجني , وامتلاء الوطاب !

هذه خاتمة السورة التي تضمنت تلك الجولات حول العقيدة في مسائلها الرئيسية الكبيرة:توحيد الربوبية والقوامة والحاكمية , ونفي الشركاء والشفعاء , ورجعة الأمر كله إلى الله , وسننه المقدرة التي لا يملك أحد

فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

تحوليها ولا تبديلها . والوحي وصدقه , والحق الخالص الذي جاء به . والبعث واليوم الآخر والقسط في الجزاء . . .

هذه القواعد الرئيسية للعقيدة التي دار حولها سياق السورة كله , وسيقت القصص لإيضاحها , وضربت الأمثال لبيانها . .

ها هي ذي كلها تلخص في هذه الخاتمة , ويكلف الرسول [ ص ] أن يعلنها للناس إعلاناً عاماً , وأن يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة الحاسمة:أنه ماض في خطته , مستقيم على طريقته , حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .

(قل:يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله , ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم , وأمرت أن أكون من المؤمنين). .

قل:يا أيها الناس جميعاً , وإن كان الذين يتلقون الخطاب إذ ذاك هم مشركي قريش , إن كنتم في شك من أن ديني الذي أدعوكم إليه هو الحق , فإن هذا لا يحولني عن يقيني , ولا يجعلني أعبد آلهتكم التي تعبدونها من دون الله . .

(ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم). .

أعبد الله الذي يملك آجالكم وأعماركم . وإبراز هذه الصفة لله هنا له قيمته وله دلالته , فهو تذكير لهم بقهر الله فوقهم , وانتهاء آجالهم إليه , فهو أولى بالعبادة من تلك الآلهة التي لا تحيي ولا تميت . .

(وأمرت أن أكون من المؤمنين). .

فأنا عند الأمر لا أتعداه .

(وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين). .

وهنا يتحول السياق من الحكاية إلى الأمر المباشر , كأن الرسول [ ص ] يتلقاه في مشهد حاضر للجميع . وهذا أقوى وأعمق تأثيراً . (أقم وجهك للدين حنيفاً)متوجهاً إليه خالصاً له , موقوفاً عليه (ولا تكونن من المشركين)زيادة في توكيد معنى الاستقامة للدين , ولمعنى أن يكون من المؤمنين , عن طريق النهي المباشر عن الشرك بعد الأمر المباشر بالإيمان .

ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك . فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين . .

لا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك من هؤلاء الشركاء والشفعاء , الذين يدعوهم المشركون لجلب النفع ودفع الضر . فإن فعلت فإنك إذن من هؤلاء المشركين ! فميزان الله لا يحابي وعدله لا يلين . .

وأن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو , وإن يردك بخير فلا راد لفضله , يصيب به من يشاء من عباده , وهو الغفور الرحيم . .

فالضر نتيجة لازمة لسنة الله الجارية حين يتعرض الإنسان لأسبابه , والخير كذلك . .

فإن مسك الله بضر عن طريق جريان سنته فلن يكشفه عنك إنسان , إنما يكشف باتباع سنته , وترك الأسباب المؤدية إلى الضر إن كانت معلومة , أو الالتجاء إلى الله ليهديك إلى تركها إن كانت مجهولة . وإن أراد بك الخير ثمرة لعملك وفق سنته فلن يرد هذا الفضل عنك أحد من خلقه . فهذا الفضل يصيب من عباده من
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)

يتصلون بأسبابه وفق مشيئته العامة وسنته الماضية . (وهو الغفور الرحيم)الذي يغفر ما مضى متى وقعت التوبة , ويرحم عباده فيكفر عنهم سيئاتهم بتوبتهم وعملهم الصالح وعودتهم إلى الصراط المستقيم .

هذه خلاصة العقيدة كلها , مما تضمنته السورة , يكلف الرسول [ ص ] أن يعلنهما للناس , ويوجه إليه الخطاب بها كأنما على مشهد منهم . وهم هم المقصودون بها . إنما هو أسلوب من التوجيه الموحي المؤثر في النفوس . ويقف رسول الله [ ص ] بها في وجه القوة والكثرة ; ووجه الرواسب الجاهلية , ووجه التاريخ الموغل بالمشركين في الشرك . . يعلنها في قوة وفي صراحة وهو في عدد قليل من المؤمنين في مكة , والقوة الظاهرة كلها للمشركين . .

ولكنها الدعوة وتكاليفها , والحق وما ينبغي له من قوة ومن يقين .

ومن ثم يكون الإعلان الأخير للناس:

(قل:يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم , فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها , وما أنا عليكم بوكيل).

فهو الإعلان الأخير , والكلمة الفاصلة , والمفاصلة الكاملة , ولكل أن يختار لنفسه . فهذا هو الحق قد جاءهم من ربهم .

(فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها). .

وليس الرسول موكلا بالناس يسوقهم إلى الهدى سوقاً , إنما هو مبلغ , وهم موكولون إلى إرادتهم وإلى اختيارهم وإلى تبعاتهم , وإلى قدر الله بهم في النهاية .

والختام خطاب إلى الرسول [ ص ] باتباع ما أمر به , والصبر على ما يلقاه حتى يحكم الله بما قدره وقضاه:

(واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين). 

وهو الختام المناسب الذي يلتقي مع مطلع السورة , ويتناسق مع محتوياتها بجملتها على طريقة القرآن في التصوير والتنسيق . .

وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

انتهى الجزء الحادي عشر

ويليه الجزء الثاني عشر مبدوءاً بسورة هود .


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة هود و قسم من سورة يوسف

الجزء الثاني عشر

هود


بسم الله الرحمن الرحيم

تعريف سورة هود

هذه السورة مكية بجملتها . خلافا لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات [ 12 , 17 , 114 ] فيها مدنيه . ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تلهم أنها تجيء في موضعها من السياق , بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء . فضلا على أن موضوعاتها التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة , وموقف مشركي قريش منها , وآثار هذا الموقف في نفس رسول الله [ ص ] والقلة المسلمة معه , والعلاج القرآني الرباني لهذه الآثار . .

فالآية 12 مثلا هذا نصها:(فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا:لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ! إنما أنت نذير , والله على كل شيء وكيل). . وواضح أن هذا التحدي وهذا العناد من قريش إلى الحد الذي يضيق به صدر رسول الله [ ص ] بحيث يحتاج إلى التسرية عنه , والتثبيت على ما يوحى إليه ; إنما كان في مكة ; وبالذات في الفترة التي تلت وفاة أبي طالب وخديجة , وحادث الإسراء , وجرأة المشركين على رسول الله [ ص ] وتوقف حركة الدعوة تقريبا ; وهي من أقسى الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة . .

والآية 17 هذا نصها:(أفمن كان على بينة من ربه , ويتلوه شاهد منه , ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ? أولئك يؤمنون به , ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده , فلا تك في مرية منه , إنه الحق من ربك , ولكن أكثر الناس لا يؤمنون). .
وواضح كذلك أنها من نوع القرآن المكي واتجاهه في مواجهة مشركي قريش بشهادة القرآن للنبي [ ص ] بأنه إنما يوحى إليه من ربه ; وبشهادة الكتب السابقة وبخاصة كتاب موسى ; وبتصديق بعض أهل الكتاب به - وهذا ما كان في مكة من أفراد من أهل الكتاب - واتخاذ هذا قاعدة للتنديد بموقف المشركين .
وتهديد الأحزاب منهم بالنار . مع تثبيت رسول الله [ ص ] على الحق الذي هو معه , في وجه توقف الدعوة , وعناد الأكثرية الغالبة في مكة وما حولها من القبائل . .
وليس ذكر كتاب موسى بشبهة على مدنية الآية . فهي ليست خطابا لبني إسرائيل ولا تحديا لهم - كما هو العهد في القرآن المدني - ولكنها استشهاد بموقف تصديق من بعضهم ; وبتصديق كتاب موسى - عليه السلام - لما جاء به محمد [ ص ] وهذا أشبه بالموقف في مكة في هذه الفترة الحرجة , ومقتضياتها الواضحة .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق