الاثنين، 2 سبتمبر 2013

أساطير زمن الالتباس


أساطير زمن الالتباس

لا أعرف متى ستذهب عنا السكرة، لكي نتبين الحقيقة في العديد من الأساطير التي يروج لها في مصر هذه الأيام. لكنني أرى إرهاصات دالة على أن الإفاقة على الفكرة لن تتأخر كثيرا.

(1)
أتحدث عن بعض الكتابات الاستثنائية التي ظهرت في الصحف المصرية خلال الأسبوعين الماضيين معبرة عن تلك الإفاقة، خصوصا تلك التي أفزعتها عودة شبح الدولة الأمنية، مستصحبة معها ممارسات القمع والتحريض بدعوى الحفاظ على الدولة في مواجهة الإخوان، وأقلقتها مؤشرات عسكرة المجتمع المصري بعد عزل الرئيس محمد مرسي.
إضافة إلى تلك الأصوات التي استهولت حجم القتل الذي تم باسم فض الاعتصام بالقوة، كما استهولت ارتفاع صوت أبواق الثورة المضادة، التي باتت تبشر بفاشية جديدة لا تكتفي بمباركة إجراءات القمع، وخطاب الإقصاء، وإنما عمد ممثلوها إلى اتهام المخالفين بالخيانة، والازدراء بمفجري ثورة 25 يناير/كانون الثاني2011، ووصفهم حينا بأنهم "مرتزقة"، ووصف الثورة ذاتها في حين آخر بأنها نكسة.

نظرا لمحدودية تلك الأصوات، فإنني أفهم أن ظهورها لا يشكل اختراقا لحملة الإعلام، ولأجواء الإرهاب الفكري والاغتيال السياسي والمعنوي، التي تتبناها مختلف الأبواق التي أسهمت في تسميم الفضاء المصري، لكنني أزعم أن حضورها لا يمكن تجاهله، لأنه يعني أن المراهنة على الإفاقة من السكرة ليس ميؤوسا منها، ولا هي من قبيل التمني ووحي الخيال.
لا أرجع ذلك إلى وعي البعض ويقظة ضمائرهم فحسب، ولكن المبالغات الفجة التي يتم اللجوء إليها في الأجواء المحمومة الراهنة كثيرا ما تأتي بثمار عكسية، عملا بالقول الشائع إن ما يزيد على حده ينقلب إلى ضده.

فحين يتهم أحد المحتجزين -واسمه محمد عبد التواب أحمد- بالاعتداء على المتظاهرين وحمل السلاح وإرهاب المواطنين وقتلهم، ثم يتبين أن الرجل فاقد البصر ولا يستطيع أن يتحرك دون دليل يقوده، فإن أي عاقل يكتشف مباشرة التلفيق والكذب في التهمة. 
وحين تتحدث الصحف عن ترسانة للأسلحة في اعتصام رابعة، وعن وجود مدافع ثقيلة وأسلحة كيميائية مع المعتصمين، ثم يتم قتل المئات (في رابعة وحدها) واعتقال الألوف منهم دون أدنى مقاومة، فإن ذلك يهدم الأسطورة دون حاجة إلى تكذيبها.

وحين تنشر إحدى الصحف أن الرئيس الأميركي باراك أوباما -بجلالة قدره- عضو في التنظيم الدولي للإخوان (الوفد 28/8) الأمر الذي يعني خضوعه لقيادة مرشد الإخوان، فإن ذلك يحول الخبر إلى نكتة من ذلك القبيل الذي يتردد في حلقات تعاطي المخدرات.
أخطر ما في تلك الفرقعات الإعلامية هو مضمونها الفج الذي يكشف عن تدني مستوى التلفيق الذي يؤشر جهلا بالأساليب ونقصا فادحا في مستوى الذكاء

(2)
شيء من هذا القبيل حدث في الأسبوع الماضي حين نشرت صحيفة الأهرام على صدر صفحتها الأولى تقريرا مثيرا تحت العناوين التالية: "مؤامرة جديدة لزعزعة الاستقرار بتورط سياسيين وصحفيين ورجال أعمال ـ الأهرام يكشف الحلقة الأخيرة من اتفاق الشاطر والسفيرة الأميركية لتقسيم مصر ـ القبض على 37 إرهابيا بعد إجهاض مخطط عزل الصعيد وإعلان الاستقلال ـ الخطة تضمنت الاستيلاء على مبنى محافظة المنيا وتشكيل حكومة ـ الاعتراف الأميركي كان معدا والأجهزة الأمنية كشفت المخطط البديل".

التقرير كتبه رئيس تحرير الأهرام زميلنا عبد الناصر سلامة، ونسب معلوماته إلى "مصادر أمنية"، وذكر ما يلي: بعد إحباط مخطط عزل الصعيد وإعلان استقلاله كشفت المصادر الأمنية عن أن مخططا بديلا كان جاهزا، استهدف ضرب الاستقرار في الشارع المصري بمشاركة سياسيين وصحفيين ورجال أعمال، سيتم كشفهم وتقديمهم إلى العدالة خلال أيام.

وأكدت المصادر
أن المخطط استهدف إحداث بلبلة في أوساط الرأي العام حول القضايا التي تضمنتها خريطة المستقبل (التي أعلنها الفريق عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/تموز الماضي) من خلال عناصر "الطابور الخامس" السابق ذكرها.

أضافت المصادر الأمنية أن المخططَين (استقلال الصعيد، والتشكيك في خريطة الطريق) كانا ضمن اتفاق رعته السفيرة الأميركية بالقاهرة آن باترسون مع القيادي الإخواني خيرت الشاطر قبل القبض عليه، وتضمن دخول 300 مسلح من غزة إلى مصر عبر الأنفاق لنشر الفوضى في القاهرة، واقتحام عدد من السجون.

تحدث التقرير أيضا
عن أن القوات المسلحة ألقت القبض على 37 إرهابيا في محافظة المنيا، وصادرت كميات كبيرة من الأسلحة كانت مرسلة إليهم عبر الصحراء الغربية لتمكينهم من الاستيلاء على المحافظة وتشكيل حكومة، حيث كان الاعتراف بالموقف الجديد معدا سلفا من جانب الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية أخرى.
في اليوم التالي مباشرة (28/8) تابعت الأهرام الموضوع، ونقلت عن بعض الخبراء الأمنيين أن ضرب مخطط فصل الصعيد أكبر طعنة ضد الغرب والولايات المتحدة، كما أنه يعد من أكبر الانتصارات التي حققتها الأجهزة الأمنية.

ونقلت الجريدة عن أحد أولئك الخبراء قوله إن الفريق عبد الفتاح السيسي "هزم واشنطن وأوروبا"، وهي الدول التي "اهتزت" بعد الدعم العربي القوي لموقفه، ممثلا في المملكة العربية السعودية والدول العربية "الصديقة".

وندد هؤلاء بالطابور الخامس الذي تم اكتشافه، ممثلا في بعض السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال الإسلاميين.

قبل هذه الفرقعة التي تحدثت عن مؤامرة الطابور الخامس في مصر، وعن هزيمة الفريق السيسي للأوروبيين والأميركيين، وإحباط رجاله لمخطط فصل الصعيد بمساعدة حركة حماس، الذي رعته السفيرة الأميركية في حين كان اعتراف واشنطن بالوضع الجديد جاهزا، سربت الأجهزة الأمنية فرقعة أخرى إلى جريدة "الوطن".

ويتعلق الأمر بتقرير مثير آخر نشرته الجريدة في 25/8، تحدث عن اجتماع سري بقاعدة عسكرية في ألمانيا، ضم ممثلين عن الموساد وأميركا وفرنسا وبريطانيا وعن حلف شمال الأطلسي لوضع خطة شل مصر، بعد الخسارة الكبرى التي أصابت تلك الأطراف من جراء عزل مرسي.

وأعطى التقرير انطباعا بأن ذلك الاجتماع -الذي يوحي بأنه يعد لحرب عالمية ثالثة- انعقد لنصرة الإخوان، في تحرك مواز للجبهة الوطنية لدعم الشرعية التي تشكلت في مصر.
الغرب مشغول بثلاثة أشياء: مصالحه بمصر والمنطقة، وسياساته والمبادئ الديمقراطية التي يلتزم بها والتي ترفض الانقلابات العسكرية، والاستقرار في مصر الذي يعتبره من ركائز الاستقرار في المنطقة العربية
السفيرة الأميركية بالقاهرة أخذت على محمل الجد كلام التقرير الأول، الذي تحدث عن تآمرها مع الشاطر وعن اعتراف واشنطن باستقلال الصعيد، فوصفته بأنه "شائن ومضلل وغير مهني".

ودعت رئيس تحرير الأهرام في خطابها الذي وجهته إليه بهذا الصدد إلى التصرف بمسؤولية، والكف عن نشر الأكاذيب والمخاوف التي تهدد مستقبل مصر وأفق التحول الديمقراطي بها.
(3)
أخطر ما في هذا الكلام ثلاثة أمور هي:
مضمونه الفج الذي يكشف عن تدني مستوى التلفيق الذي يكشف عن جهل بأساليبه ونقص فادح في مستوى الذكاء.

ثم إنه صادر عن الأجهزة الأمنية صاحبة اليد الطولى في تشكيل الرأي العام في الوقت الراهن، وهي التي كان يظن أنها أكثر كفاءة وخبرة.

الأمر الثالث أن هذا الكلام ينطلي على كثيرين من العوام وحديثي الانشغال بالسياسة، وهو ما يسهم في شحنهم بالأساطير والأكاذيب، الأمر الذي يضللهم ويفسد رؤيتهم، ويشوه إدراكهم.

إننا بإزاء حزمة من الأساطير والخزعبلات السياسية التي أزعم أنها لا تسمم الأجواء السياسية فحسب، ولكنها تهدد السِّلم الأهلي أيضا، وإذا جاز لي أن أشير إلى أبرز تلك الأساطير فإنني أجد في مقدمتها ما يلي:

- أسطورة التآمر الغربي عامة والأميركي بوجه أخص على النظام القائم في مصر لصالح الإخوان.
والحقيقة أن الغرب مشغول بثلاثة أشياء، أولها مصالحه في مصر والمنطقة، وثانيها سياساته والمبادئ الديمقراطية التي يلتزم بها التي ترفض الانقلابات العسكرية، أما ثالثها فهو الاستقرار في مصر الذي يعتبره من ركائز الاستقرار في المنطقة العربية.
ومن ثم فهو ليس سعيدا بالإخوان، ولكنه مختلف مع طريقة تعامل السلطة معهم. وفي ما يخص واشنطن فإن اختلاف الإدارة الأميركية مع الإدارة المصرية بخصوص الإخوان هو خلاف عارض "تكتيكي" في حين أن التحالف بينهما إستراتيجي.

وينبغي ألا ننسى في هذا الصدد ما قاله رئيس الأركان الأميركي أمام الكونغرس إن الجيش المصري هو أهم حليف للإدارة الأميركية.

- أسطورة الحرب على الإرهاب التي جرى افتعالها والترويج لها إعلاميا، في سياق المشهد الذي بدأ بدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وانتهى بتجريم الإخوان وشيطنتهم، ثم تسويغ قمعهم واستئصالهم، الأمر الذي أسفر حتى الآن عن سقوط خمسة آلاف قتيل وإصابة عشرين ألفا، واعتقال عشرة آلاف شخص، حسب البيان الذي أعلنه التحالف الوطني لدعم الشرعية، وهو ما يهدد بدخول مصر إلى نفق الدولة الأمنية المظلم المحفوف بالشرور والمخاطر، بما يستصحبه من ترويع وتخويف وإجهاض لحلم الدولة الديمقراطية.

في حين أن المظاهرات كانت سلمية في مجملها، لكنها صورت إعلاميا وأمنيا بأنها إرهاب يرد عليه بوسيلة واحدة تمثلت في استخدام السلاح وتلفيق التهم الجاهزة.

- أسطورة الطابور الخامس التي جرى ابتداعها بدورها مؤخرا، حين ظهرت بعض الأصوات الليبرالية والوطنية المستقلة التي اعترضت على الأساليب المتبعة. ولأنه كان متعذرا اتهامها بالانتماء إلى الإخوان، فقد كان تلويث وتخويف أصحابها بضمِّهم إلى الطابور الخامس هو الحل.

- أسطورة تقسيم مصر وبيع قناة السويس
للقطريين والتنازل عن سيناء أو جزء منها لحركة حماس، وهو من الفرقعات والافتراءات الإعلامية التي أطلقت في الفضاء دون دليل، واستهدفت الطعن في وطنية وانتماء من نسبت إليهم هذه الممارسات.
الغربيون ليسوا سعداء بالإخوان ولكنهم مختلفون مع طريقة تعامل السلطة معهم، أما واشنطن فإن اختلافها مع الإدارة المصرية بخصوص الإخوان هو خلاف عارض، في حين أن التحالف بينهما إستراتيجي
- أسطورة التنظيم الدولي للإخوان الذي يصور بحسبانه أخطبوطا هائلا له أذرعه المنتشرة في أكثر من ثمانين دولة حول العالم، في حين أنه مجرد كيان هش لا حول له ولا قوة، نشأ في ستينيات القرن الماضي حين كان إخوان مصر يعيشون خارجها. فشكلوا تلك الرابطة فيما بينهم، لكن لم يثبت يوما أن له دورا يذكر في التوجيه والتنظيم. والتفاوت الكبير بين أداء حركة النهضة في تونس والإخوان في مصر شاهد على ذلك، رغم أن الاثنين من أعضاء التنظيم الدولي.
(4)
في مواجهة هذه الأساطير ثمة حقيقة تتبدى وتظهر ملامحها يوما بعد يوم في الآونة الأخيرة، خلاصتها أن ما جرى في الثالث من شهر يوليو/تموز الماضي لم يكن انقلابا على حكم مرسي لكنه كان انقلابا على ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بدليل ذلك الجهد الكبير الذي يبذل الآن لاستعادة أجواء وأساليب حكم مبارك، فضلا عن رجاله وأبواقه التي عادت إلى الظهور في الساحة الإعلامية بوجه أخص، وهو ما أشك كثيرا في أنه خطر ببال الذين خرجوا في 30 يونيو/حزيران الماضي، أو الذين قدموا التفويض ضمنا للفريق عبد الفتاح السيسي.

الأمر الذي يستدعي بقوة السؤال التالي: من نفوض وعلى من نراهن أو نعول في الدفاع عن ثورة 25 يناير، لكي نبدد الحيرة في زمن الالتباس؟
المصدر:الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق