ليس كل ثرثرة حوارًا
فهمي هويدي
الحوار نوعان، واحد لكي تتعرف على الرأي الآخر والثاني لكي تهرب منه. والأول يتم مع المخالفين، أما الثاني فهو الذي يجري مع الموافقين ويتجنب اللقاء مع المخالفين. الأول يحقق الانفتاح ويستهدف تصويب المسيرة وإثراءها والعين فيه على مصلحة الوطن، أما الثاني فيكرس الانكفاء ويستهدف التجمل السياسي والعين فيه على وسائل الإعلام.
أقول ذلك بمناسبة الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام المصرية عن حوارات انطلقت من رئاسة الجمهورية ويجريها المستشار الصحفي للرئيس مع «القوى» السياسية.
ورغم أن تغريدات عدة انتقدت قيام المستشار الصحفي للرئيس بإجراء حوارات سياسية، في الوقت الذي يعقد فيه المستشار السياسي للرئيس مؤتمرات صحفية، إلا أنني لن أتوقف عند هذه المفارقة، لأنني معنيّ بما هو أهم منها.
ذلك أن توزيع الاختصاصات والصلاحيات يظل شأنا داخليا في الرئاسة، ولكن مباشرة تلك الصلاحيات هي التي تهمنا، لن أتوقف أيضا حتى لا نذهب بعيدا عن مقصود الكلام عند مدلول «القوى» السياسية، لأن بعض المنتسبين إلى تلك القوة من نماذج الضعف والهشاشة السياسية.
حتى الآن التقى المستشار الصحفي للرئيس أحمد المسلماني مع قيادات ثلاثة أحزاب من الموافقين، ولم نسمع أنه فكر في لقاء واحد من المعارضين.
وهذه المعلومة إذا صحت فإنها تكرر مشهد حوارات الرئيس السابق محمد مرسي مع مؤيديه التي قاطعها المعارضون، وكانت النتيجة أنه استمع إلى من زايد على تأييده ولم يتح له أن يستمع إلى معارضيه الذين ربما جنبه حضورهم والاستماع إلى أصواتهم المصير الذي انتهى إليه.
وليس ذلك هو الدليل الوحيد على أن التاريخ يكرر نفسه أحيانا، لأننا نشاهد هذه الأيام قرائن أخرى تؤيد فكرة استنساخ التاريخ، إذ إلى جانب الحوار مع الموافقين فإن فكرة «الأخونة» التي راجت في عهد الدكتور مرسي (لاحظ أنها انتقلت من أخونة الدولة إلى أخونة السجون والمعتقلات) جرى استنساخها في الوضع المستجد.
حيث أصبحت الاختيارات الجديدة تدور كلها في فلك اللون الواحد. وإذا جاز ذلك وأمكن احتماله في بعض التشكيلات الإدارية فإنه لا يجوز ويتعذر القبول به حين يتعلق بعملية تعديل الدستور أو وضع دستور جديد.
لا يغير من هذه الحقيقة أن التشكيلات الجديدة تضم عناصر لها انتماؤها الإسلامي تاريخيا، إلا أنها صارت من خصوم ذلك التيار، ووقوف تلك العناصر إلى جانب الوضع المستجد، يعني أنها لم تعد تعبر في شيء عن الرأي الآخر.
إننا إذا نظرنا في عمق المشهد فسندرك أن ذلك الوضع الذي ننتقده له ما يبرره.
ذلك أن الأجواء الراهنة ليست مهيأة لإجراء حوار حقيقي، بقدر ما أنها ليست مهيأة للمصالحة الوطنية.
ومن يقرأ الصحف أو يتابع برامج وحوارات التلفزيون يقتنع بأن في مصر حربا أهلية ضد الإخوان خصوصا والتيار الإسلامي بوجه عام.
فعملية شيطنة الآخر في ذروتها، وعناوين الصحف لا تتحدث إلا عن الاعتقالات والاشتباكات والإحالات لمحاكم الجنايات إلى جانب المؤامرات والمظاهرات ــ وذلك مناخ لا يوفر أي فرصة لإجراء حوار حقيقي مع الآخر، ويصبح الكلام عن المصالحة في ظله من قبيل الثرثرة وفض المجالس التي تخاطب وسائل الإعلام ولا علاقة لها بمستقبل الوطن.
لن أختلف مع من يقول إن ذلك كان شأن الحوار في عهد الدكتور مرسي، لكنني أنبه إلى فارق جوهري بين الحالتين، ذلك أن الصراع بين القوى السياسية في العهد السابق كان حول الأنصبة والأدوار اتهم فيه الإخوان بإقصاد الآخرين.
الأمر الذي يدعونا إلى وصفه بأنه كان صراع حدود إذا استخدمنا المصطلح الشائع. لكنه في الوقت الحالي صار صراع وجود، انتقلنا بمقتضاه من حالة الإقصاء إلى طور الاقتلاع والإلغاء.
الحاصل الآن في مصر يذكرنا بخبرة الحوارات الفلسطينية.
ذلك أن الساحة الفلسطينية تعج بتلك الفصائل التي بلغ مجموعها 25 فصيلا تقريبا، منها 13 أعضاء في منظمة التحرير أشهرها «فتح»، وعشرة تشكلت خارجها وتقف في صف المعارضة التي ترفع لواءها حركة حماس مع الجهاد الإسلامي.
والحركتان الأخيرتان تمثلان القيادة الحقيقية للمقاومة الفلسطينية التي تشارك فيها مجموعات أخرى أقل شهرة. والعارفون بالشأن الفلسطيني باتوا يعرفون جيدا أن أي حوارات حول المصالحة أو غيرها من الملفات العالقة لن يكتب لها النجاح إلا إذا كانت حماس والجهاد طرفا فيها. وأي جهد يبذل خارج هذا الإطار يعد من قبيل مضيعة الوقت ولا طائل من ورائه.
هذه الخبرة تنبهنا إلى أن الحوارات الجارية ــ التي تتعلق بالمصالحة الوطنية في مصر على الأقل ــ ستظل بلا جدوى طالما أنها لم تخاطب الطرف الآخر الذي بات يمثله التحالف الوطني للدفاع عن الشرعية في مصر.
وأذكّر مرة أخرى بأن المصالحة لا تتحقق فقط بمخاطبة العنوان الصحيح، وإنما هي تتطلب أيضا توفير الأجواء المواتية.
وما لم يحدث ذلك فإن الكلام عن المصالحة سيظل من قبيل الثرثرة السياسية التي تستهلك الوقت والطاقة بلا طائل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق