رسائل التاريخ(4)
ثلاث ثورات خلال 14 شهرا
فى الرسائل السابقة تحدثنا عن ثورة مارس 1804 ضد البرديسى, واليوم نتحدث عن ثورة حدثت بعدها بشهرين ضد خورشيد باشا الوالى العثمانى، فقد ألف الشعب المصرى الثورات ولم يعد يألف الظلم، وعرف مكامن قوته وعلى رأسها القيادة الرشيدة.
وتكررت نفس المشاهد تقريبا. فعندما فرض خورشيد باشا فى شهر مايو 1804 ضريبة على أرباب الحرف والصنائع ضجوا منها وأقفلوا حوانيتهم وحضروا إلى الجامع الأزهر يشكون أمرهم للعلماء، ومر المحافظ ورئيس الشرطة فى الأسواق ينادون بالأمان وفتح الحوانيت، فلم يفتح منها إلا القليل.
وفى اليوم الثالث اشتد الهياج، وأقفلت جميع الدكاكين والأسواق، واحتشدت جموع الصناع وأرباب الحرف وجماهير الناس بالجامع الأزهر ومعهم الطبول (فى عام 2008 اصدر النظام قانون ضد حزب العمل بمنع التجمهر فى المساجد مع أن حزب العمل لم يستخدم الطبول فى الأزهر ولا غيره!!)
وصعد كثير منهم إلى المنارات يصرخون ويدقون الطبول، فوصل دوى ندائهم إلى نواح بعيدة فى المدينة، وسمعه الوالى وهو بالقلعة، ووصله خبر التجمهر، فأرسل إلى السيد عمر نقيب الأشراف رسولا ينبئه بأنه رفع الإتاوة عن الفقراء منهم ويطلب إليه فض الجماهير، فقال السيد عمر مكرم "إن هؤلاء الناس وأرباب الحرف والصنائع كلهم فقراء وما كفاهم ما هم فيه من الكساد وسوء الحال حتى تطلبوا منهم مغارم لرواتب العسكر" أى أنه طلب رفع الإتاوة عن الجميع، وهذا هو دور القيادة الرشيدة التى لا تكتفى بمناصرة فئة دون أخرى من المظلومين.
فرجع الرسول بذلك إلى الوالى الذى عاد وأرسل محافظ المدينة ومعه عدة من الجنود وجلس بالغورية يأمر الناس بفتح الدكاكين، ويتوعد من يتخلف، فلم يحضر أحد ولم يسمعوا لقوله، فاضطر الوالى أمام هذه الحركة إلى رفع الإتاوة فى ذلك اليوم وأعلن إبطالها، ونادى المنادى بذلك فاطمأن الناس وتفرقوا.
ويعلق عبد الرحمن الرافعى على هذه الأحداث بقوله: "كان الشعب إذا مستعدا للهياج متحفزا للانتفاض والثورة، وقد كان لهذه الحركة أثرها فى نفوس الناس لأنهم أيقنوا أن فى استطاعتهم، رفع المظالم باجتماعهم وتقرير الإضراب العام وامتناعهم عن دفع الضرائب" (العصيان المدنى).
ولكن خورشيد لم يرتدع فهو حاكم لنظام فاسد، وأخذ جنوده المعروفون باسم (جيش الدلاة) يعيثون فى الأرض فسادا ويرتكبون الجرائم ويعتدون على الأرواح والأرزاق.
ويعلق عبد الرحمن الرافعى على هذه الأحداث بقوله: "كان الشعب إذا مستعدا للهياج متحفزا للانتفاض والثورة، وقد كان لهذه الحركة أثرها فى نفوس الناس لأنهم أيقنوا أن فى استطاعتهم، رفع المظالم باجتماعهم وتقرير الإضراب العام وامتناعهم عن دفع الضرائب" (العصيان المدنى).
ولكن خورشيد لم يرتدع فهو حاكم لنظام فاسد، وأخذ جنوده المعروفون باسم (جيش الدلاة) يعيثون فى الأرض فسادا ويرتكبون الجرائم ويعتدون على الأرواح والأرزاق.
وبعد عام أى فى مايو 1805 اعتدى الجنود الدلاة على أهالى مصر القديمة وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وأمتعتهم وقتلوا بعض الأهالى الآمنين، فتعاظم الهياج فى مصر القديمة وحضر جميع سكانها رجالا ونساء (لاحظ دور المرأة) إلى جهة الجامع الأزهر، الذى تحول إلى مقر للشعب، وانتشر خبر الاعتداء والهياج بسرعة البرق فى أنحاء المدينة، واجتمع العلماء (لاحظ دور القيادة) وذهبوا إلى الوالى وخاطبوه فى وضع حد لفظائع الجنود الدلاة، فاصدر الوالى أمرا للجنود بالخروج من بيوت الناس وتركها لأصحابها، ولكن الجنود لم يخضعوا ولم ينفذوا، فخوطب الوالى ثانيا فى الأمر فطلب مهلة ثلاثة أيام، ورفضت الجماهير هذا التسويف واشتد ضجيجهم وتضاعف سخطهم وتألبت جموعهم, وفى اليوم التالى (2 مايو) عمت الثورة أنحاء العاصمة، فاجتمع العلماء بالأزهر واضربوا عن إلقاء الدروس، وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير فى الشوارع والميادين يهتفون ضد الظلم (لم يتقدموا بإذن لرئيس الشرطة للتظاهر!) فأدرك الوالى خطر الحالة وأرسل وكيله إلى الأزهر لمقابلة العلماء ومفاوضتهم لوقف الهياج، فلم يجدهم بالأزهر.
فذهب إلى بيت الشرقاوى (لاحظ أن السلطة هى التى تذهب للعلماء!) وهناك حضر السيد عمر مكرم وزملاؤه. فأغلظوا له القول، فغادرهم بلا جدوى عائدا للقلعة، لكن الجماهير لم تكد تبصره حتى انهالوا عليه رجما بالحجارة (استخدام الحجارة تقليد قديم!) ورفض العلماء أن يتدخلوا لإيقاف الهياج, بل صعدوا من طلباتهم بطلب إجلاء قوات الأمن المركزى (الجنود الدلاة) عن المدينة.
وظل العلماء مضربين عن إلقاء الدروس، وبقيت الدكاكين والأسواق مقفلة أكثر من أسبوع. وامتنع العلماء عن مقابلة الوالى طوال هذه المدة. ولم يكن لمحمد على وقواته الألبانية أى دور فى هذه الثورة إلا أنه وقف على الحياد.
وحدد العلماء مدة ثلاثة أيام لجلاء القوات عن القاهرة، ومع انتهاء المهلة لم ينسحب إلا نصف هذه القوات. فاجتمع زعماء الشعب واتبعوا تكتيكا جديدا إذ قرروا الذهاب إلى المحكمة الكبرى (بيت القاضى) لاختصام الوالى, وأصدروا قراراتهم فى مجلس الشرع. وكان اختيار المحكمة قرارا ذا مغزى، لأنه يشير إلى التحاكم حول مشروعية الحاكم! ولم تكد الجماهير تعلم بذلك حتى احتشدت جموعهم وتوجهت إلى دار المحكمة حتى وصل عدد المحتشدين فى فناء دار العدل وحولها أربعين ألف نسمة وهو رقم ضخم بالنسبة لعدد السكان.
وكانت هتافاتهم لا تطالب بتعديل قرار أو قانون أو دستور بل تطالب بإسقاط النظام (يا رب يا متجلى، اهلك العثمللى).
ونتابع تطورات هذه الثورة الثالثة خلال 14 شهرا, والتى أفضت فى النهاية إلى إسقاط النظام، وإقامة نظام محمد على، فى الرسالة القادمة إن شاء الله.
مجدى أحمد حسين
ونتابع تطورات هذه الثورة الثالثة خلال 14 شهرا, والتى أفضت فى النهاية إلى إسقاط النظام، وإقامة نظام محمد على، فى الرسالة القادمة إن شاء الله.
مجدى أحمد حسين
رسائل التاريخ (1)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق