لماذا لم تتحمل الدولة العميقة وجود مرسي رئيسا؟
| |||||
لم يكن فوز محمد مرسي برئاسة مصر صدفة كاملة على نحو ما يصوره البعض، ذلك أن هذا الفوز تم على خطوات متتالية من الترشيح والانتخابات وإعادة الانتخابات. وقبل هذا جاء الترشيح بعد أن كان الرجل نفسه قد اختير رئيسا لأكبر حزب سياسي في البلاد هو حزب الحرية والعدالة، وقد أثبت هذا الحزب قبل هذا أنه أكبر الأحزاب الموجودة على الساحة بفضل الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية التي جرت بعد ثورة 2011. وقبل هذا وذاك فقد كان الرجل نفسه هو أول رئيس للكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين في البرلمان المنتخب الذي استمر طوال خمس سنوات (2000- 2005).
مع هاتين المجموعتين الواضحتين من الحقائق، فإن طبيعة الحياة السياسية الراكدة في النصف الثاني من عصر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك لم تكن لتتقبل أو لتمرر فكرة أن يصل سياسي كائنا من كان إلى منصب كبير بمثل هذا المعدل من التسارع المعقول دعك من السرعة المشروعة.
وعلى سبيل المثال، فقد ظل كثيرون ينتظرون المنصب الوزاري أكثر من عقد من الزمن حتى جاءهم في نهاية الأمر بصورة أو بأخرى، والأمثلة المباركية على هذا كثيرة حتى إنها من باب الطرافة تشمل عددا من أعضاء وزارة شفيق التي تشكلت في أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بل لقد كان اسم رئيسها شفيق يتردد في محيط العاملين من أجل وصوله إلى منصب أعلى منذ منتصف التسعينيات. وقد بلغت أقصى أمانيهم أن يعين نائبا للرئيس مبارك بحكم ما كان بينهما من اشتراك في الصفة فهذا طيار وذاك طيار! وكأن مصر ستكتفي من الطيران بالرؤساء. وربما كان من المناسب في هذا المقام أن ننتهز الفرصة ونأخذ أحمد شفيق نفسه كنموذج جيد (ومتاح) للمقارنة مع مرسي، وللتأمل في آليات وديناميات الصعود في السياسة النخبوية فيما قبل ثورة 2011 وبعدها، وذلك من خلال قراءة الملابسة التي انتهت بوصول أحمد شفيق إلى صدارة السياسة المصرية في أعقاب ثورة 2011، وهو وصول لم يكن برضا الثورة بقدر ما كان بتخطيط -ولا نقول بقبول فحسب- الثورة المضادة التي وجدت في شخصه ضالتها بنسبة تقترب من خمسين في المائة. وجاء هذا التلاقح المصلحي بعد سلاسل من البحث والمفاجأة التي صادفتها الثورة المضادة في بحثها عن رمز يعود بها وتعود به، ومع هذا فقد كانت التحفظات التي واجهت شفيق كاشفة من ناحية أخرى عن حجم التحفظات التي يمكن أن تواجه مرسي، وأن تجعل قبول الدولة العميقة لمرسي أمرا مشكوكا فيه، وربما تبدو الإضاءات التي نقدمها أكثر اتساعا من الحركة الضيقة للسياسة المصرية في ذلك الحين، لكن الحقيقية أن هذه الحركة تقتضي هذه الإضاءة الواسعة: 1- لم يكن شفيق نفسه منجزا حقيقيا في مجال عمله التنفيذي أو السياسي في وزارة الطيران، وإنما كان بإجماع الآراء منجزا دعائيا إعلاميا، وكان أقرب إلى نماذج الوزراء الذين يغطون ويظللون بالضجيج ما أنجزوه من فشل أو إجرام أو فساد أو جهل أو إرباك، وكان أقرب إلى نموذج حاتم الجبلي، أو أحمد زكي بدر، أو محمد إبراهيم سليمان، أو أحمد المغربي، أو محمد لطفي منصور، أو خليطا منهم جميعا. ويمثل هؤلاء عينة من الوزراء حلت محل مجموعة بارزة من الوزراء الذين بدأ بهم عهد مبارك، وأضافوا إلى هذا العهد نجاحات ودعامات، وكان منهم حسب الله الكفراوي وماهر أباظة وسلمان متولي ويوسف والي.
وللأسف الشديد فقد كان هذا السلوك فيما تلا بعد ثورة يناير هو جوهر دور الإعلام كأداة للثورة المضادة، أداة لا تقف عند أي حد في تسلطها على الحق والعدل والمنطق تسلطا ظالما يؤذي قيمة العقل وقيم النجاح والحق والإنجاز والموضوعية في النهاية. 2- لم يكن أفراد الدولة العميقة وأقطابها سعداء بتجربة أحمد نظيف في رئاسة الوزارة، مع أنهم حققوا استفادات قصوى في هذه الفترة، وذلك أن رئاسة الوزارة ظلت في مفهوم أفراد هذه الدولة العميقة عملا أو مجدا يفوق انتقال وزير ناجح من وزارته أو تخصصه إلى نطاق ضبط إيقاع التخصصات الأخرى جميعا. ومع افتقار أحمد نظيف بوضوح إلى مقومات رئاسة الوزارة، ظهر بوضوح ما لم يكن الجمهور يعرفه عن مدى حاجة رئيس الوزراء إلى وعي كاف بالماضي الحكومي نفسه، بما يحمله من توازنات عميقة لمصالح مقدرة لا يمكن له هو نفسه أن يلم بها على نحو واضح وصريح. وهكذا كان على أصحاب المصالح أن يلجؤوا في تعاملهم مع نظيف إلى كثير من الهوامش والحواشي حتى يمكنهم أن يقنعوا صاحب القرار بمدى مشروعية الماضي بكل ما يحمله من تجاوزات. وليس من شك في أن وعي عاطف عبيد والجنزوري وأسلافهما بسير العمل اليومي في الحكومة المصرية كان يتفوق بمراحل على وعي نظيف، وكانت مثل هذه المقارنة تقود بوضوح إلى التحذير والحذر من تكرارها بوصول أي وزير إلى رئاسة الوزارة على النحو الذي وصل به نظيف، واعتبار مثل هذه الخطوة نوعا من الاقتراب من العشوائية في صناعة القرار السياسي. وهكذا كان التحسب واضحا حتى بدا بوضوح في قبول نسبي (وأحيانا مطلقا) للجنزوري بكل جموده إذا ما قورن بعصام شرف وشفيق من قبله. 3- وإذا كان الأمر في تقييم وصول شفيق إلى رئاسة الوزارة قد وصل إلى هذا النحو من تغليب النظرة العلوية المستندة إلى المعرفة السابقة، والحكم على شفيق بأنه لا يعرف إلا بعض الشؤون المتعلقة بالطيران، فقد كان الأمر نفسه مضخما ومكبرا إلى حدود كبيرة في حالة مرسي الذي وصل من أستاذية الجامعة إلى كرسي الرئاسة دون أن يشغل مناصب بيروقراطية. ولم يكن أفراد الدولة العميقة وأقطابها على استعداد لأن يقدروا معنى رأي الشعب ولا صوت الشعب، ولا معنى الانتخابات ولا معنى أصوات الانتخابات في ظل ما استعذبوه من الحديث عن أن مرسي لم يشغل مناصب بيروقراطية، ولم يشارك في اللجان والمجالس التي تحكم عمل الوزارات وتحيط بأسلوبها وماضيها.
4- وفي نهاية الأمر فإن مفردات نشاط مرسي اليومي، بما فيها من صلوات خمس (أو أكثر)، ومن صلاة الجمعة في أحد المساجد بين العامة، والحرص على المال العام وتقليل النفقات عموما، وتقليل التكاليف المظهرية والسياسية والسلطوية، والترفع عن رسم صورة إلهية للرئيس، والحرص على التسامح والتودد الصادق إلى البسطاء والإعراض عن الأذى، والحرص على احترام الكبير والمرأة، والعطف على الصغير والفقير، وممارسة العمل الجاد في كل يوم، والعودة من السفر إلى العمل مباشرة، والانتشار في أرجاء العالم الخارجي، وتقبل تجاوزات النقد والإهانة والتجريح، وتجنب اللجوء إلى كل ما هو استثنائي، كل هذا وغيره كان كفيلا بأن ينفر أفراد الدولة العميقة التقليديين من مرسي، وهم الذين تعودوا في ثقافتهم وذاكرتهم على صورة نمطية للرئيس تعتمد على ثلاثة محاور: فهي أولا تشترك مع الألوهية في بعض الصفات، بل تصل إلى تصوير استحواذها على قدر كبير من هذه الصفات. وهي ثانيا تنتمي إلى البشرية الطبيعية في صفات كثيرة لا تليق بالحاكم الذي لا بد من أن يكون ظالما ومرهوبا. وهي ثالثا تنتقي وتصطفي من الصفات الشيطانية بعض الصفات التي تكفل لها نفي واستبعاد الصفات الملائكية إلى الأبد.
المصدر:الجزيرة
|
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الاثنين، 4 نوفمبر 2013
لماذا لم تتحمل الدولة العميقة وجود مرسي رئيسا؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق