روائع الرسائل ..
روائع رسائل الدولة الإخشيدية
رسالة محمد بن طغج الإخشيد إلى أرمانوس
رسالة محمد بن طغج الإخشيد إلى أرمانوس عظيم النصرانيَّة، يَرُدُّ عليه افتخاره بمَنِّه على الإخشيد بالكتابة إليه، وكانت عادة أرمانوس ألاَّ يكتب إلاَّ لخليفة:
"من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين إلى أرمانوس عظيم الروم ومَن يليه، سلامٌ بقدر ما أنتم له مستحقُّون، فإنَّا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يُصَلِّيَ على محمد عبده ورسوله .
أَمَّا بَعْدُ؛ فقد تُرْجِمَ لنا كتابُك الوارد مع نقولا وإسحاق رسوليك، فوجدناه مفتتحًا بذكر فضيلة الرحمة، وما نُمِيَ[1] عَنَّا إليك، وصحَّ من شيمنا فيها إليك، وبما نحن عليه من المَعْدَلَةِ[2] وحُسْنِ السيرة في رعايانا، وما وَصَلْتَ به هذا القول من ذكر الفداء والتوصُّل إلى تخليص الأسرى، إلى غير ذلك ممَّا اشتمل عليه، وفهمناه.
فأمَّا ما أطنبتَ فيه من فضيلة الرحمة فمن سديد القول الذي يليق بذوي الفضل والنبل، ونحن - بحمد الله ونعمه علينا - بذلك عارفون، وإليه راغبون، وعليه باعثون، وفيه بتوفيق الله إيَّانا مجتهدون، وبه متواصلون وعالمون، وإيَّاه نسأل التوفيق لمَرَاشد الأمور وجوامع المصالح بمَنِّه وقدرته.
وأمَّا ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمَعْدَلَةِ فإنَّا نرغب إلى الله جلَّ وعلا، الذي تفرَّد بكمال هذه الفضيلة ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها، أن يوفِّقنا لها، ويجعلنا من أهلها، ويُيَسِّرَنا للاجتهاد فيها والاعتصام من زيغ الهوى عنها وعزَّة القسوة بها، ويجعل ما أودع قلوبنا من ذلك موقوفًا على طاعته، وموجبات مرضاته، حتى نكونَ أهلاً لما وصفتنا به، وأحقَّ حقًّا بما دعوتنا إليه، وممَّن يستحقُّ الزُّلفى من الله تعالى، فإنَّا فقراء إلى رحمته، وحُقَّ لمن أنزله الله بحيث أنزلنا -وحمَّله من جسيم الأمر ما حمَّلنا، وجمع له من سَعَة الممالك ما جمع لنا، بمولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه- أن يبتهل إلى الله تعالى في معونته لذلك وتوفيقه وارتياده، فإن ذلك إليه وبِيَدِهِ، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
وأمَّا ما وصفته من ارتفاع محلك عن مرتبة مَن هو دون الخليفة في المكاتبة، لما يقتضيه عظم ملككم، وأنَّه الملك القديم الموهوب من الله الباقي على الدهر، وأنك إنَّما خصصتنا بالمكاتبة لما تحقَّقْتَه من حالنا عندك، فإنَّ ذلك لو كان حقًّا، وكانت منزلتنا كما ذكرتَه تقصر عن منزلة مَن تُكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غُنْمٌ ورُشْد، لكان من الأمر البيِّن أنَّ أَحْظَى وَأَرْشَدَ وَأَوْلَى بمَن حلَّ محلك أن يَعْمل بما فيه صلاح رعيَّته، ولا يرى وصمة ولا نقيصة ولا عيبًا، ولا يقع في معاناة صغيرة من الأمور تعقبها كبيرة، فإنَّ السائس الفاضل قد يركب الأخطار، ويخوض الغمار، ويعرض مهجته فيما ينفع رعيته.
والذي تجشَّمته[3] من مكاتبتنا، إن كان كما وصفتَه، فهو أمر سهل يسير لأمر عظيم خطير، وجُلَّ نفعه وصلاحه وعائدته تخصُّكم؛ لأنَّ مذهبنا انتظارُ إحدى الحُسْنَيَيْنِ، فمَن كان منَّا في أيديكم فهو على بيِّنَة من ربِّه، وعزيمة صادقة من أمره، وبصيرة فيما هو بسبيله، وإنَّ في الأساري مَن يُؤْثِرُ من ضَنْكِ[4] الأَسْرِ وشدَّة البأساء على نعيم الدنيا وخيرها؛ لحُسْنِ منقلَبِه وحميد عاقبته، ويعلم أنَّ الله تعالى قد أعاذه من أن يفتنه، ولم يُعِذْه من أن يبتلِيَه، هذا إلى أوامر الإنجيل الذي هو إمامكم، وما تُوجِبُه عليكم عزائم سياستكم، والتوصُّل إلى استنقاذ أسرائكم، ولولا أن إيضاح القول في الصواب أولى بنا من المسامحة في الجواب، لأضربنا عن ذلك صفحًا، إذ رأينا أن نفس السبب الذي من أجله سما إلى مكاتبة الخلفاء عليهم السلام مَنْ كاتبهم، أو عدا عنهم إلى مَن حَلَّ محلَّنا في دولتهم، بل إلى مَن نزل عن مرتبتنا، هو أنه لم يَثِقْ مِن مَنعه، وردِّ ملتمسِه ممَّن جاوره، فرأى أن يقصد به الخلفاء الذين الشرفُ كلُّه في إجابتهم، ولا عار على أحدٍ وإن جلَّ قدره في ردِّهم، ومَن وَثِقَ في نفسه ممن جاوره وَجَدَ قصده أسهل السبيلين عليه، وأدناهما إلى إرادته، حسبما تقدَّم لها مَن تقدَّم.
وكذلك كاتب مَن حلَّ محلَّك مَن قَصُر عن محلِّنا، ولم يقرب من منزلتنا، فمَمَالِكُنَا عدَّة كان يتقلَّد في سالف الدهر كلَّ مملكة منها ملكٌ عظيم الشأن؛ فمنها ملك مصر الذي أطغى فرعون على خطر أمره حتى ادَّعى الإلهية، وافتخر على نبي الله موسى بذلك، ومنها ممالك اليمن التي كانت للتبابعة، والأقيال العَبَاهِلَة ملوك حمير، على عظيم شأنهم وكثرة عددهم، ومنها أجناد الشام التي فيها جند حِمْصَ، وكانت دارهم ودار هرقل عظيم الروم ومَنْ قَبْلَه من عظمائها، ومنها جند دِمَشْقَ على جلالته في القديم والحديث، واختيار الملوك المتقدِّمين له، ومنها جند الأُرْدُنِّ على جلالة قدره وأنه دار المسيح وغيره من الأنبياء والحواريين، ومنها جند فلسطين، وهي الأرض المقدسة، وبها المسجد الأقصى وكرسيُّ النصرانيَّة، ومعتقد غيرها، ومَحَجُّ النصارى واليهود طُرًّا، ومَقَرُّ داودَ وسليمانَ ومسجدهما، وبها مسجد إبراهيم وقبره، وقبر إسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وأزواجهم عليهم السلام، وبها مولد المسيح وأُمِّه وقبرها.
هذا إلى ما نتقلَّده من أمر مكة المحفوفة بالآيات الباهرة والدلالة الظاهرة، فإنَّا لو لم نتقلَّد غيرها لكانت بشرفها، وعِظَمِ قدرها، وَمَا حَوَتْ من الفضل تُوفِي[5] على كل مملكة، لأنها مَحَجُّ آدم ومَحَجُّ إبراهيم وإرثه ومُهَاجَره، ومَحَجُّ سائر الأنبياء، وقِبْلَتُنَا وقبلتهم عليهم السلام، ودارُه وقبره ومَنْبِت ولده، ومَحَجُّ العرب على مرِّ الحِقَبِ، ومحلُّ أشرافها وذوي أخطارها على عظم شأنهم وفخامة أمرهم، وهو البيت العتيق المحرَّم المحجوج إليه من كل فجٍّ عميق، الذي يعترف بفضله وقِدَمِه أهل الشرف؛ مَنْ مَضَى ومَنْ خَلَفَ، وهو البيت المعمور وله الفضل المشهور.
ومنها مدينة الرسول المقدَّسة بتُرْبَتُه، وأنها مَهْبِطُ الوحي، وبيضةُ[6] هذا الدين المستقيم الذي امتدَّ ظلُّه على البرِّ والبحر، والسهل والوَعْر، والشرق والغرب، وصحارى العرب على بُعْدِ أطرافها وتنزاح أقطارها، وكثرة سكانها في حاضرتها وباديتها، وعظمها في وفودها وشدَّتها، وصدق بأسها ونجدتها، وكبر أحلامها، وبُعْد مراميها، وانعقاد النصر من عند الله براياتها، وإن الله تعالى أباد خضراء كسرى، وشرَّد قيصر عن داره ومحلِّ عِزِّه ومجده بطائفة منها. هذا إلى ما تَعْلَمُه من أعمالنا، وتحت أمرنا ونهينا ثلاثة كراسيَّ من أعظم كراسيِّكم: بيت المقدس، وأنطاكية، والإسكندرية، مع ما إلينا من البحر وجزائره، واستظهارنا بأتمِّ العَتَاد.
وإذا وفَّيْتَ النظر حقَّه علمتَ أنَّ الله تعالى قد أصفانا بِجُلِّ الممالك التي ينتفع الأنام بها، وبِشَرَف الأرض المخصوصة بالشرف كلِّه دُنْيَا وآخرة، وتحقَّقْتَ أنَّ منزلتنا بما وهبه الله لنا من ذلك فوق كل منزلة، والحمد لله وليِّ كلِّ نعمة.
وسياستنا لهذه الممالك، قريبها وبعيدها، على عِظَمها وسَعَتِها، بفضل الله علينا وإحسانه إلينا ومعونته لنا وتوفيقه إيَّانا، كما كتبتَ إلينا وصحَّ عندك من حُسْنِ السيرة، وبما يؤلِّف بين قلوب سائر الطبقات، من الأولياء والرعيَّة، على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدَّعَة في المعيشة، ويُكسبها المودَّة والمحبَّة، والحمد لله رب العالمين أوَّلاً وآخرًا على نِعَمِه التي تَفُوت عندنا عَدَّ العادِّينَ، وإحصاء المجتهدين، ونَشْرَ الناشرين، وقول القائلين، وشُكْرَ الشاكرين، ونسأله أن يجعلنا ممن تحدَّث بنعمته عليه شُكْرًا لها، ونَشْرًا لما منحه الله منها وممن رضي اجتهاده في شكرها، وممن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وكان سعيه مشكورًا، إنه حميد مجيد.
وما كنت أحبُّ أن أباهِيَك بشيء من أمر الدنيا، ولا أتجاوز الاستيفاء لما وهبه الله لنا من شرف الدين الذي كَرَّمه وأظهره، ووعدنا في عواقبه الغلبة الظاهرة، والقدرة القاهرة، ثم الفوز الأكبر يوم الدين، لكنك سلكت مسلكًا لم يَجُزْ لي أن أَعْدِل عنه، وقلتَ قولاً لم يَسَعْنَا التقصير في جوابه، ومع هذا فإنا لم نقصد بما وصفناه من أمرنا مكاثرتك، ولا اعتمدنا تعيين فضل لنا نَعُوذ به، إذ نحن نُكْرَم عن ذلك، ونرى أن نُكْرِمَك عند محلك ومنزلتك، وما يتَّصل بها من حُسن سياستك ومذهبك في الخير ومحبَّتك لأهله، وإحسانك لمن في يدك من أسرى المسلمين وعطفك عليهم، وتجاوُزك في الإحسان إليهم جميعَ مَن تقدَّمك من سلفك، ومَن كان محمودًا في أمره رُغِبَ في محبَّته؛ لأنَّ الخير أهلٌ أن يُحَبَّ حيث كان.
فإن كنت إنما تؤهّل لمكاتبتك ومماثلتك من اتَّسَعَتْ مملكتُه وعَظُمت دولته وحَسُنت سيرته، فهذه ممالكُ عظيمةٌ واسعة جمَّة، وهي أجل الممالك التي ينتفع بها الأنام، وسرُّ الأرض المخصوصة بالشرف، فإنَّ الله قد جمع لنا الشرف كلَّه بالولاء الذي جُعل لنا من مولانا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، مخصوصين بذلك إلى ما لنا بقديمنا وحديثنا وموقعنا. والحمد لله رب العالمين الذي جمع لنا ذلك بمَنِّه وإحسانه، ومنه نرجو حُسْنَ السعي في ما يُرْضِيه بلطفه.
ولم ينطو عنك أمرنا فيما اعتمدناه، وإن كنتَ تجري في المكاتبة على رسم مَن تقدَّمك، فإنَّك لو رجعت إلى ديوان بلدك وجدتَ مَن كان تقدَّمك قد كاتب مَن قَبْلَنا مَن لم يَحُلُّ محلَّنَا ولا أغنى غناءَنا، ولا ساس في الأمور سياستَنَا، ولا قلَّده مولانا أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - ما قلَّدنا، ولا فوَّض إليه ما فوَّض إلينا، وقد كُوتِبَ أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وآخِرُ مَنْ كُوتب تِكِين مولى أمير المؤمنين، ولم يكن تقلَّد سوى مصر وأعمالها.
ونحن نحمد الله كثيرًا أوَّلاً وآخرًا على نِعَمِه التي يَفُوت عندنا عدَدُها عَدَّ العادِّين ونَشْرَ الناشرين، ولم نُرِدْ بما ذكرناه المفاخرة، ولكنَّا قصدنا بما عددناه من ذلك حالاتٍ: أوَّلها الحديث بنعمة الله علينا، ثم الجواب عمَّا تضمنه كتابك من ذكر المحَلِّ والمنزلة في المكاتبة، ولتعلم قدر ما بسطه الله لنا في هذه الممالك، وعندنا قوَّةٌ تامَّةٌ على المكافأة عن جميل فعلك بالأَسْرَى، وشكرٌ وافٍ لما تُولِيهم وتتوخَّاه من مسرَّتهم، إن شاء الله تعالى وبه الثقة، وفَّقك الله لمواهب خيرات الدنيا والآخرة، والتوفيقِ للسداد في الأمور كلِّها، والتيسيرِ لصلاح القول والعمل الذي يحبُّه ويرضاه ويُثِيبُ عليه، ويرفع في الدنيا والآخرة أهلَه، بمَنِّه ورحمته.
وأمَّا المُلْكُ الذي ذكرتَ أنَّه باقٍ على الدهر لأنَّه موهوب لكم من الله خاصة، فإنَّ الأرض لله يُورِثُها من يشاء من عباده والعاقِبَةُ للمتَّقين، وإنَّ المُلك كلَّه لله يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وإنَّ الله نسخ مُلك الملوك وجَبَرِيَّة[7] الجبَّارين بنبوَّة محمد وعلى آله أجمعين، وشفع نبوَّته بالإمامة، وحازها إلى العِتْرَة[8] الطاهرة من العُنصر الذي مِنْهُ أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والشجرة التي منها غصنه، وجعلها خالدة فيهم يتوارَثُها منهم كابرٌ عن كابر، ويُلْقِيهَا ماضٍ إلى غابرٍ، حتى نَجَزَ[9] أمرُ الله ووعدُه، وبهر نوره وكلمته، وأظهر حُجَّته، وأضاء عمود الدين بالأئمة المهتدين، وقَطَعَ دابر الكافرين؛لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ولو كَرِه المشركون، حتى يَرِثَ الله الأرض ومَنْ عليها وإليه يُرْجَعون.
وإن أحقَّ مُلْكٍ أن يكون من عند الله، وأَوْلاَهُ وأَخْلَقَه أن يَكْنُفَه اللهُ بحراسته وحياطته، ويُحِفُّه بعزِّه وأَيْدِه، ويُجَلِّله بَهَاءَ السكينة في بهجة الكرامة، ويجمِّله بالبقاء والنجاة ما لاحَ فجرٌ، وكرَّ دَهْرٌ – مُلْكُ إمامةٍ عادلةٍ خَلَفَتْ نبوَّةً، فَجَرَتْ على رسمها وسَنَنِهَا، وارتسمتْ أمرها، وأقامتْ شرائعها، ودَعَتْ إلى سُبُلها، مستنصرة بأَيْدِها، منجزة لوعدها، وإنَّ يومًا واحدًا من إمامةٍ عادلةٍ خيرٌ عند الله من عمر الدُّنْيَا تملُّكًا وجَبَرِيَّة.
ونحن نسأل الله تعالى أن يُديم نِعَمَه علينا، وإحسانه إلينا بشرف الولاية، ثُمَّ بِحُسْنِ العاقبة بما وفَّر علينا فَخْرَه وعُلاهُ، ومجدَه وإحسانه إن شاء الله، وبه الثقة، وهو حسبنا ونعم الوكيل..."[10].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق