الثلاثاء، 13 يناير 2015

اعرف نفسك

 صور وخواطر 

من روائع الشيخ الطنطاوي ... رحمه الله 

اعرف نفسك

إنكم تسمعون كل يوم أحاديث في الجد والهزل, وفي الخير وفي الشر, أحاديث تدعوا على الوطنية, وأحاديث تسمو بالخلق, وأحاديث فيها متعة وفيها تسلية, ولكن حديثي الليله من أهم الأحاديث كلها لأنها من أمس الموضوعات بكم, وأقربها إليكم, ولأنه دعوة لكم لتعرفوا أنفسكم.


ومتى تعرف نفسك يا أخي, وأنت من حين تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث أو عمل أو لهو أو كتاب؟
ومتى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم تفكر فيها, لا يشغلك عنها تجارة ولا علم ولا متاع؟ومتى وأنت أبدا تفكر في الناس كلهم إلا نفسك؟
تقول "أنا" فهل خطر على بالك مرة واحدة أن تسأل : " من أنا؟" هل جسمي هو (أنا)؟ هل أنا هذه الجوارح والأعضاء؟
إن الجسم قد ينقص بعاهة أو مرض, فتبتر رجل, أو تقطع يد, ولكن لا يصيبني بذلك نقصان!.
فما (أنا)؟
ولقد كنت في يوما طفلا ثم صرت شابا, وكنت شابا وصرت كهلا, فهل خطر على بالك أن تسأل : هل هذا الشاب هو ذلك الطفل؟ وكيف؟ وما جسمي بجسمه, ولا عقلي بعقله, ولايدي هذه يده الصغيرة, فأين ذهبت تلك اليد؟ ومن أين جاءت هذه؟
وإذا كنا شخصين مختلفين فأيهما أنا؟ هل أنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبق فيّ من جسده ولا فكره بقية؟ أم أنا الكهل الذي يلقي هذا الحديث؟ ما أنا؟
وتقول :" حدثت نفسي...ونفسي حدثتني" فهل فكرت مرة, ما أنت؟ وما نفسك؟ وما الحد بينهما. وكيف تحدثها وتحدثك؟

وتسمع الصباح جرس الساعة تدعوك إلى القيام, فتحس من داخلك داعيا إلى النهوض, فإذا ذهبت تنهض ناداك منك مناد أن تريث قليلا واستمتع بدفء الفراش, ولذة المنام.

ويتجاذبك الداعيان : داعي القيام وداعي المنام. فهل تساءلت ما هذا؟ وما ذاك؟ وما أنت بينهما؟
وما الذي يزين لك المعصية ومن يصور لك لذتها. ويجرك اليها؟ وما الذي ينفرك منها وما الذي يبعدك عنها؟
 يقولون : إنها النفس وإنه العقل؟. فهل فكرت يوما ما النفس الأمارة بالسوء, وما العقل الرادع عنه؟ وما أنت؟

نفسك عالم عجيب, يتبدل كل لحظة ويتغير, ولا يستقر على حال: تحب المرء فتراه ملكا, ثم تكرهه فتبصره شيطانا, وما ملكاً كان قَط ولا شيطاناً, وما تبدل, ولكن تبدلت حالة نفسك. وتكون في مسرة فترى الدنيا ضاحكة, ثم تراها وأنت في كدر, باكية قد فرغت في سواد الحداد. وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت, ولكن كنت أنت الضاحك الباكي.
فما هذا التحول فيك؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق؟

إن النفس يا أخي كالنهر الجاري, لا تثبت قطرة منه في مكانها, ولا تبقى لحظة على حالها, تذهب ويجيء غيرها, تدفعها التي هي وراءها, وتدفع هي التي أمامها.

في كل لحظة يموت واحد ويولد واحد, وأنت الكل, أنت الذي مات وأنت الذي ولد, فابتغ لنفسك الكمال أبدا, واصعد بها إلى أعلى, واستولدها دائما مولودا أصلح وأحسن, ولا تقل لشىء (لاأستطيعه) فإنك لا تزال كالغصن الطري, لأن النفس لا تيبس أبدا, ولا تجمد على حال, ... إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل المنام, فما هي إلا أن تبكر في المنام ليال حتى تتعوده فتعجب كيف كنت تستطيع السهر!!
فلا تقل لحالة أنت فيها, لا أستطيع تركها, فإنك في سفر دائم, وكل حالة لك محطة على الطريق, لا تنزل فيها حتى ترحل عنها.

فيا أخي. اعرف نفسك, واخلُ بها, وغُص على أسرارها. وتساءل أبدا: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ وإلى أين المسير؟
ولا تنس أن من عرف نفسه عرف ربه. وعرف الحياة , عرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة. وأن أكبر عقاب عاقب به الله من نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق