من أدب الرجال
إحسان الفقية
(مش كل من اعتلى الخيل صار خيّال)، رحمكِ الله يا جدّتي، ورحم الله الرجل.
أيّ رجل؟
– الرجل، تلك الكلمة التي انسابت في نهر تُراثنا الإسلامي والعربي، مُحمّلة بأسمى المعاني؛ فإذا بها اليوم يلوكُها الصبيان وأشباه الرجال، كلٌ يتمسّح برسمها، وهو فاقدٌ لكلّ مدلولٍ لها. فعظّم الله أجرنا برحيل الرجل.
عن أي رجل تتحدّثين؟
الرجل الذي تعرّفنا على صفاته عندما ذكرها القرآن في معرض الحديث عن الطهارة، بكامل ما تعنيه الكلمة من طهارة الباطن والظاهر: “فيه رجال يحبون أن يتطهروا”.
وفي معرض الحديث عن التعلّق ببيوت الله وأداء فرائضه وذكره وإيثار مرضاته: “في بيوت أَذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله”.
وفي معرض الحديث عن البذل والعمل للدين: “وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين”.
وفي معرض الحديث عن الحزم وشدة العزم: “قال رجلان من الذين أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون”.
فألف تحيةٍ وتحيةٍ لمن كان من هؤلاء الرجال… ولا عزاء للمُنتسبين زورًا وبُهتانًا للرجولة بالشوارب والوسامة والفحولة، والباحثين عن مغامرة يُثبتون فيها رجولتهم على صفحات تويتر وفيس بوك؛ فيقذفون النساء بحروفهم من وراء حُجُبٍ مفتوحة نوافذُها على الجحيم.
فما أيسر أن يضرب أحدهم مفاتيح لوحته ويقذفُ عرض امرأة، ويتّهمها في أخلاقها ونزاهتها، لا لشيء إلا لأن كلماتها لم توافق هواه.
عجز أن يكون له دور في الحياة العملية كالرجال؛ فلم يجد (المسخ) سوى العنتريات التي يُطلقها عبر مركبة من الحروف الشاذّة للمزيد من التشوّهات التي تملأ حُفر نفسه، ليُحصي جولاته التي ظنّ أنه ربحها في رشق النساء بلا فلاتر تُنقّي منطقه من دناءة الألفاظ وضحالة الفكر، وما ذلك إلا دلالة على إفلاسه وعجزه وعدم امتلاكه من أدوات الخصومة إلا النيل من أعراض النساء.
يا هذا، إن للرجولة أصولًا وقواعد، وللمروءة والشهامة دلالات، لن يغني عنها كون شاربك تقفُ عليه الصقور أو تأكل منه العقبانُ، أو إن كنت جهوريّ الصوت ترتعد من إطلالتك فرائصُ أُنثاك التي ابتُليت بنصفٍ مثلك.
وحين آثرتُ الصمود ككاتبة في زمن القحط وموت الرجال، كنتُ أسعى إلى تحقيق معادلة لن يدركها أولئك الذين لا يحترمون العفيفات ويتقوّلون على ربّات الخدور.
لكَ أن تدّعي الرجولة كما يحلو لك، لكنّك لست برجلٍ ما دمت تخاطبني بما تكرهُ أن يخاطب به أحدهم (نساء بيتك).
ولكَ أن تترنّم برجولتك كيفما شئتَ، لكنك لن تظفر منّي بشهادة (أنّك رجلٌ) وأنت تلمز هذه، وتسخرُ من تلك، بعد أن أعجزك بل وقتلك شموخ الواثقات بسطوتهنّ وقُدرتهنّ على إحراق كبدك.
أبحر في سيَر العظماء والنُبلاء؛ لترى معاني الرجولة، وكيف يتعامل القوم مع النساء.
ألا تُخجلك شهامة كليم الله موسى مع الفتاتين، أكرمهما القوي الأمين، وأبت نفسه الشريفة أن يحبسهما الضعف عن جلب الماء “فسقا لهما ثم تولى إلى الظل”.
إنما أعْنيكَ أنتَ بالمثال يا من تستبيح مخاطبة النساء بسوء الكلِم، مُستغلًا إعراضهن عن مجاراتك في دناءتك، بما يفرضه عليهن كونهن نساء، بكل ما تحمله الكلمة من التزامات.
وهل يستوعب إطارك الأخلاقي، الذي هو أشبه بسَمّ الخياط، كيف سار موسى أمام الفتاة وهي تدلّه على بيت والدها ليجزيه أجر ما سقى لهما؟
يعلم أن الرجل الحر ما كان له أن يخدش حياء امرأة ويُطلق عينيه في تفاصيلها، لا كأشباه الرجال، الذين يعمد الواحد منهم إلى البحث والتنقيب، حتى إذا ما وجد شاردة من القول، أتى بها مُتهللة أساريره؛ ليلْوي عنق الكلمات، أو يبترها من سياقها، ويُغرق في النزع، ويدق عليها الطبول، ويظن أنه قد ظفر بمن كتبتها.
يقولون إن معاملة النساء فنٌ، وأنا أقول إن معاملة النساء شهامة ومروءة ونُبل أخلاق؛ فما كان بالرجل من يجرح امرأة.
وما كان بالرجل من يطأ لها جرحًا.
وما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم.
أعلمُ يقينًا يا كل من أدرك فحوى الكلام وبوصلته ومرماه أن كلامي سيُصيب بعض القوم في مقتل، ويُشعرك (أنت يا من أعنيك) بقلّة قدرك وضآلتك، وأعلمُ كذلك أنك ستمارس هوايتك المُفضلة بشتم النساء، لكن حسبي أني أوجعتُك بما تعلّمته في مدرسة جدتي.
لن تكون فارسًا للعرب ولو سبقتَ ألف جواد.
ولن تكون شاعرًا للعرب لو كتبتَ ألف مُعلّقة.
ولن تكون مُنقذًا للعرب أو سيّدًا للعرب وأنت تُسيء لبنات العرب.
أرثي لحال أشباه الرجال، وأنا أصغي سمعي لنبرة عنترة في زمن الجاهلية:
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي .. حتى يواري جارتي مأواها
فهل لك نصيب من هذا النبل وهذه المروءة في امرئ مات في جاهلية الأزمان الغابرة أيها المُتمديِن المتحضّر، يا من ترفع أنفك ليلامس نظارتك السوداء، وتُغرق جسدك وثيابك بعطور فرنسا وخيبتك؟
(تبًا لمدنيّة رقدت في قعرها القيم، وضلّت في أرضها الشهامة والمروءة، وشطُنت عن موارد الأخلاق الزلال).
أين المعتصم الذي لامست نخوتَه صرخة امرأة في بلاد الروم صَرَخَت “وامُعتصماه” فحرّك جيوشه وغزا المدينة وقال لها: لبيك يا أختاه. ليرى أولئك الذين يحركون جيشًا من التّهم والأباطيل والافتراءات يرشقون بها النساء.
أبكي على زمنٍ كانت تزحف فيه الجموع من أجل قلب امرأة ألَمّ به الحزن، نعم، هاهو الحاجب المنصور قد رجع إلى قرطبة بعد الغزو، ليوافق صلاة عيد الأضحى، والناس يُهلّلون ويكبرون في مصلاهم، وقبل أن ينزل من على صهوة فرسه، اعترضته امرأة عجوز تقول بقلب قد أتى عليه الكمد: يا منصور كل الناس مسرور إلا أنا.
قال المنصور: وما ذاك؟ قالت: ولدي أسير عند الصليبيين في حصن رباح؛ فلم ينزل الرجل من على جواده، ونادى في جيشه ألا تُلامس أقدامهم الغبراء حتى يطلقوا أسرى المسلمين.
كل ذلك من أجل قلب امرأة، يا من تُحسنون كسر قلوب النساء.
كم يُحزنني غفلة “فرس” لا تعلم أن صاحبها لا يملك أيّ فروسية لا بالقول ولا بالفعل ولا بالخصام، وأن ذلك المُختال بصقره ما هو إلا صفر في دفتر الرجال.
لكم يحُزّ في نفسي كلّما تذكّرتُ ذلك الروسي غير المسلم، الذي خلع قميصه ليستر عورة امرأة مسلمة (مع أن الذي انكشف منها ليس بعورة عنده) حين انزلقت في سوق شعبي عربي. كلما سمعتُ إساءة من أبناء دمي وديني وبلادي تذكّرته وأشفقت عليكم.
رحم الله الإمام الشافعي يوم قال: “والله لو كان الماء البارد يُنقص من مروءتي لشربته حارًا”.
فهلا خاصمت بأدب ولو لم يُنعشُك هذا؟!
أوليس الأدب الرفيع هو الذي ينفُذ من ركام الغبش وأيديولوجيا الموت وعقيدة المحارق والدمار نحو سلام الإنسان وأحلامه المبتغاة؟!
أوليس الأدب وحسن الأدب هما قشّة النجاة التي ستقصم ظهر الخيانة والخائنين من تجّار البيوت وبيّاعي الكلام ممن تآمروا على الأوطان والتاريخ والإنسان؟
الأدب…
وما أدراك ما الأدب…