الأربعاء، 3 يونيو 2015

حينما يغيب أهل الأنبار عن معركة الأنبار

حينما يغيب أهل الأنبار عن معركة الأنبار
د. محمد عياش الكبيسي

المنطقة الممتدة من بغداد إلى الحدود العراقية مع السعودية والأردن وسوريا وبمساحة تقدّر بثلث مساحة العراق تلك هي محافظة الأنبار، وهي محافظة عربيّة سنّية خالصة، محكومة بمنظومة قيمية متماسكة تجمع بين القيم الدينية والقيم العشائرية.
بعد الغزو الأميركي للعراق أخذت الأنبار موقعها المتقدم في خنادق المقاومة، واحتلت الفلوجة والرمادي وهيت وحديثة والقائم قائمة المدن العراقية التي تصدّت للاحتلال حتى أجبرته على الانسحاب.
خرج الأميركان مخلّفين وراءهم بلدا محطّما وحكومة طائفية مشوّهة تولّت مهمة الفتنة والتخريب والعبث بهويّة البلاد وإرثها التاريخي والحضاري فانتفض أهل الأنبار مع إخوانهم في المحافظات الست بحراك سلمي استمر لسنة كاملة، وبمطالب محدّدة وغير مكلفة، وقد كانت فرصة أمام الحكومة لحل الأزمة ولتأسيس شراكة فعلية تعيد شيئا من روح المواطنة والتعايش السلمي، لكن إرادة الشرّ كانت أقوى، ونية السوء كانت مبيّتة لكي يقع العراق في مستنقع الدم الذي وقع فيه.
مع اقتحام ميليشيات المالكي لساحات الاعتصام واصطدامها بقبائل الأنبار، كان أهل الأنبار يسطرون الانتصارات السريعة في ميدان المعركة وفي ميدان الأخلاق أيضا، ويذكر العالَم قصة (الدشاديش) حيث قامت القبائل بتوفير الملابس المدنية للمستسلمين من أفراد الجيش وتأمين وصولهم إلى محافظاتهم الجنوبية.
اليوم وربما لأول مرة في التاريخ يغيب أهل الأنبار عن معركة حامية الوطيس تدور على أرضهم، ويفضلون النزوح إلى بغداد وأربيل وإلى دول الجوار، في مشهد لا يتناسب أبداً مع طبيعتهم وما عرفه الناس عنهم.
الحقيقة أن أهل الأنبار ليسوا مقتنعين بهذه الحرب، فهي ليست حربهم وإن كانت تدور على أرضهم، وأن المتقاتلين ما هم إلا ضحايا للعبة قذرة يتحكم بها الآخرون.
لقد كان بوسع الأميركان أن يستهدفوا معسكرات داعش المكشوفة في الصحراء وأرتالهم التي تتبختر في الطرق الخارجية، أما السماح لهم بدخول المدن ثم استهدافهم فيها، لتتحوّل بعد ذلك إلى أطلال وخرائب بحجّة تحريرها من داعش، فهذه لم تعد تنطلي على أحد، حيث أصبحت النتائج معروفة ومكررة في كل معركة؛ تدمير المدينة بالكامل وسقوط عشرة إلى عشرين داعشي!
وقد كان بوسع الأميركان أيضا أن يسمحوا بتزويد العشائر العربية بالسلاح لضبط الأمن في مناطقهم ولملء الفراغ بعد الانهيارات المتعاقبة لوحدات الجيش الحكومي، لكنهم فضّلوا تزويد الميليشيات الشيعية وإدخالهم في المناطق السنّية، ثم يطلبون من أهل السنّة أن يقدّموا الخدمات المناسبة لهذه الميليشيات!!
قيادات الجيش ليست بريئة أبدا، فهناك تساؤلات كثيرة تلاحقهم دون جواب منهم، ولا تحقيق جاد ومحايد من غيرهم!
فترك المعسكرات بما فيها من معدّات ثقيلة ومخازن كبيرة وأموال طائلة حتى قبل وصول مقاتلي داعش لا يمكن أن يكون طبيعيا.
لقد كان انهيار الجيش سببا مباشرا لتقوية داعش وفرض هيمنتها على المحافظات السنّية، وفي الوقت ذاته كان مبررا لتشكيل ميليشيا الحشد، لتصبح المعركة بين الطرفين الأشدّ تخلّفا وتطرّفا ودمويّة، وبهذا السياق يأتي السماح بالظهور المعلن والاستعراض الرسمي لميليشيات طائفية معروفة كانت قد تشكلت قبل فتوى الحشد بسنوات مثل العصائب وحزب الله، وكل هذا على مرأى ومسمع من البيت الأبيض والبيت الأسود والمجتمع الدولي كله!
أما العرب فربما قيل لهم (كفوّا أيديكم)، لأن تدخلّهم سيكون بالتأكيد لدعم هذه القبائل العربية، لا لداعش ولا لماعش، وهذا معناه إيجاد مساحة للاعتدال ولصوت العقل في وسط هذه المعركة المجنونة، وهذا أمر يبدو أنه غير محبذ في هذه المرحلة على الأقل!
في الطرف المقابل كان بإمكان البغدادي أن يغيّر المعادلة كلها لصالحه ليعلن عن حصر المعركة مع هذه الميليشيات، إذن لوجد كثيرا من المتعاطفين معه في الداخل والخارج، لكنه يصرّ أن يفتح جبهة مع الكرد، وأخرى مع العرب (الأردن والسعودية ومصر وليبيا) وثالثة مع الأقباط ورابعة مع المرتدين وخامسة مع المشركين، فأي عاقل يرضى أن يشاركه في هذا مهما كانت استفزازات الطرف الآخر؟
ولقد كان بإمكان البغدادي أيضا أن يستوعب الكثير من شيوخ القبائل وعلماء الدين ووجهاء القوم تحت لافتات مقبولة وبمشاركة ولو محدودة في إدارة المجتمع والمناطق التي تخضع لنفوذه، بدل أن يسلّط عليهم المجاهيل ممن لا يعرف له أصل ولا رأي، بل كثير منهم لا يعرف الناس أسماءهم! والأسوأ من هذا أن يعلن الحرب على هذه القبائل أيضا بتهمة الردّة والعمالة للأجنبي مقابل (الدولارات) والإغراءات المادّية، وحين رآهم بعشرات الألوف يتركون بيوتهم و (دولاراتهم) وينزحون لاجئين إلى بغداد وأربيل بعيدا عنه وعن دولته أسقط في يده، وراح في تسجيله الأخير يتهم علماء السنّة بأنهم هم من شوّه صورة (الدولة الإسلامية) وجعلوا الناس يخافون منها ويهربون من أمنها وعدلها وسماحتها! ولكنه لم يقل لنا لماذا هذا الإجماع من كل علماء السنة في العراق وفي سوريا أيضا على رفضه ورفض دولته وخلافته؟ فهل يُعقل أن كل هؤلاء قد باعوا دينهم وعلمهم وضمائرهم بتلك (الدولارات)؟
إن أهل السنّة قد تشكلت عندهم قناعة راسخة أن هذه الحرب ليست حربهم، ولا يوجد فيها من يمثلهم، وأن المنطقة تتعرّض لعملية حرق وتدمير منظم بأداتين مختلفتين، وأن هذا له ما بعده، وربما سيفاجأ الجوار العربي يوما ما بجيوش تهدد حدودهم بالرايات السوداء أو العمائم السوداء، وعليه فقد قرّروا ألا يكونوا وقودا لهذه المعركة ولا طرفا فيها إلا إذا تحركت الأمة لبناء مشروعها القادر على تغيير هذه المعادلة، وعندها سيكون أهل الأنبار وكل سنّة العراق في الجبهات الأمامية، فهذا هو شأنهم وذلك هو تاريخهم.

• drmaiash@facebook.com
@maiash10

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق