الأربعاء، 3 يونيو 2015

سيدي يا ابن الظلال… عذرا

سيدي يا ابن الظلال… عذرا
إحسان الفقية


“إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثًا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيْناها بالدماء انتفضتْ حيّة وعاشت بين الأحياء“.


بتلك الكلمات، اختصر سيد قطب -رحمه الله- قصة حياته ومماته؛ فكلماته التي أطلقها من أجل دينه وأمته، مات في سبيلها، وغذَّاها بدمائه، ما زالت تسري بين الأنام حية، تُشكّل وعيًا، وتُصيغ فكرًا، وتلهب حماسة.


ما الذي كان بينك وبين ربك يا صاحب الظلال حتى يفتح الله لك قلوب العباد، حتى من خالفك منهم؟


أي قلبٍ حمله صدرك قد جعلنا نرى الكلمات تخرج منه بهذا النقاء وبذلك التأثير؟


كتبتُ سابقًا “لماذا أحب سيد قطب؟”، وقالوا عني: “إخوانية”، ورغم أنني أوضحت أكثر من مرةٍ أنني لا أنتمي إلى أي جماعة أو حزب؛ إلا أن العادة قد جرت على نسبة الكاتب إلى من يُثني عليه أو يدافع عنه.

وحقيقة، أنا لا أرى هذا الانتساب سُبّة أو عيبًا أتبرأ منه؛ لولا أنها الحقيقة، وهأنذا اليوم أكتب من جديد عن سيد قطب؛ نصرة لذلك الرجل الذي دفع حياته ثمنًا لكلمة “لا إله إلا الله” بكل معانيها ومقتضياتها.


أكتب عن سيد قطب لهواة التجريح والتشهير والتشغيب وأكل لحوم المُصلحين والدعاة أحياءً وأمواتًا.

أكتب عن سيد قطب لمن يحتكرون الحق، ويقدحون في المخالف ولو أصاب.


أكتب عن سيد قطب لمن نصَّبوا أنفسهم حاكمين على النوايا والضمير.


أكتب عن سيد قطب لمحترفي القصّ و”اللصق” والاجتزاء وبتر السياق.


أكتب عن سيد قطب لمن يطعنون في عقائد الناس لزلّة قلم، أو لعبارة حمّالة أوجُه.


لقد دفعتني الشبهات التي أثيرت قديمًا وحديثًا عن سيد قطب إلى البحث والتنقيب؛ لكي أقف على حقيقة ما رؤوا، غير أنني أبصرتُ مدى التعسّف والتعنّت والتنطّع، الذي جعلهم يُحمّلون كلام الرجل ما لا يحتمل.


وتتبعتُ آراء العلماء الكبار من أصحاب الاتجاه السلفي التقليدي حول سيد قطب ومواقفهم منه؛ ما عضّد رؤيتي لكتاباته التي تضلعتُ بها، وأثّرت كثيرًا في تكويني النفسي والفكري.


سيد تحت مطرقة الاتهام:

قالوا عن سيد قطب إنه صاحب عقائد ضالة، وحاولوا استصدار فتاوى من كبار العلماء لتكفيره؛ فرجعوا بخفي حنين.


فقالوا: هو يقول في كتابه “في ظلال القرآن” بوحدة الوجود، التي أعلم، وفق قراءاتي المتواضعة، أنها جعْل الوجود شيئًا واحدًا؛ حيث يقول أصحابها بأن الخالق والمخلوق شيء واحد، وهي العقيدة التي قال بها محيي الدين بن عربي وغيره.


فاتهموا سيدًا بأنه يقول بوحدة الوجود؛ لأنهم توهموا ذلك في تعبيراته الإنشائية الأدبية، وغفلوا أو تغافلوا أنه ينفي هذه الفكرة في مواضع أخرى.


على سبيل المثال، يقول في تفسير سورة البقرة: “ومن هنا تنتفي من التفكير الإسلامي الصحيح فكرة وحدة الوجود“. ولكن، ماذا نقول، والناقد قد تشبّع صدره بحكم مسبق عن سيد قطب، ورغبة في تصيد الأخطاء لصاحب الظلال.


اتهموا سيد قطب بأنه يقول في الظلال بخلق القرآن، لمجرد استخدامه عبارات أدبية موهمة، مع أن الرجل لم يصرح بذلك في أي موضع؛ فهل يحق لأحد أن يحكم على عقيدة مسلم بسبب كلمة ربما تكون زلة قلم، أو سوء تعبير، أو إمعانًا في الأسلوب الأدبي؟ اللهم لا يقول ذلك منصف.


فسيد قطب صاحب أسلوب أدبي راقٍ، قد يُفهم كلامه على غير الوجه المراد منه، وله -رحمه الله- كلامٌ متشابه في بعض المواطن، ومحكم في أخرى؛ أفلا ينبغي رد الأول إلى الثاني؟!


اتهموه بأنه (مكفراتي)؛ لأنه يستخدم لفظ المجتمع الجاهلي في كتاباته، وغفلوا أو تغافلوا عن حقيقة أن الجاهلية أنواع.


ولقد اطّلعتُ على رسالة للدكتور صالح الفوزان فصَّل فيها القول بأن الجاهلية قد تكون عامة وهذه انتفت بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وجاهلية خاصة، تكون في بعض الدول، أو المجتمعات، أو الجماعات، أو حتى بعض الأفراد، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: “إنك امرؤ فيك جاهلية”.


وعابوا على سيد قطب أنه قد اعتبر الحاكمية من أقسام التوحيد وأصل الدين. وإلى هؤلاء أقول: أليس من عطَّل حكم الله والعمل بشريعته كمن عطّل أسماءه وصفاته، وجعل الله سميعًا بلا سمع وبصيرًا بلا بصر؟ مالكم كيف تحكمون؟


وحتمًا أنا لست من أهل العلم، لكنْ هذه قضايا واضحة كالشمس في رابعة النهار، وعلى من يجد كلامي مخالفًا لما عليه أهل العلم بالشريعة أن يعترض عليّ.


وأتساءل: كيف لا يكون إفراد الله بالحاكمية والتشريع من أصول الدين؟


أليس ذلك من مقتضيات لا إله إلا الله؟


*وأحمد الله أنني قد وجدت على ما أعتقده دليلًا من كلام المفسرين؛ فوجدت في تفسير “أضواء البيان” للعلامة الشنقيطي -رحمه الله- ما يعضد كلامي؛ حيث قال في تفسير قوله تعالى من سورة الشورى “وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله”: “فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته”.


لقد ركز سيد قطب على قضية الحاكمية، لما رأى من اضطهاد واستبداد الحكام، ومعاداة الدين، والتكريس للنظم الديكتاتورية، والمذاهب الإلحادية والماركسية والعلمانية، والتجرؤ على إلغاء الشريعة؛ وأوْلى هذه القضية جُل اهتمامه لصلتها بالتوحيد والعقيدة.


قالوا عن سيد قطب إنه كان ماسونيًا، وإنه أساء الأدب مع صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في كتاباته.


جهل هؤلاء أن سيد قطب مرّ بأكثر من طور في حياته؛ فكانت بدايته أديبًا نقّادًا، وفي هذه الفترة كان يعتريه ما يعتري كثيرًا من الكُتاب -الذين يفتقدون إلى منهج إسلامي يضبط كتاباتهم- من الهوس بمنهجية النقد وتعميمه.


وأما بعد عودته من أمريكا وبروز توجهاته الإسلامية، تراجع سيد قطب عن كثير من آرائه واعتذر عنها، والتي كان منها “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، ذلك الكتاب الذي أصدر منه طبعة منقحة.


ومن المضحكات المبكيات، أنهم أشاعوا أن ابنة سيد قطب كانت ترتاد (الخمارات) والأندية، متناسين أن الرجل لم يتزوج طوال حياته ومات وهو على ذلك.


ابن الظلال:


“عشتُ في ظلال القرآن أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه”.


“الحياة في ظِلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه“.


هكذا تحدث سيد عن كتابه “في ظلال القرآن” الذي لم يكتب على غلافه كلمة “تفسير”؛ اعترافًا منه بأنه ليس من العلماء، وإنما يعتمد على كتب التراث في فهم الآيات، والتحليق حولها بأسلوب أدبي، والربط بينها وبين الواقع.


هو كنز حقيقي لا تخلو منه مكتبة إسلامية، حتى لدى مخالفيه ومنتقديه، لا يستطيعون مقاومة هذا الكتاب.


اقرأ ما شئت من كتب التفاسير، لكنك ستشعر بعد رحلتك أن الظلال يُدخلك في عمق الآيات، ويجعلك تحيا في ظلّها.


ولمن لا يعلم، فإن الرجل قد كتب أكثر من نصف هذا الكتاب في السجن، في فترة تضلّع فيها بالثقافة الإسلامية، وفي تلك الحالة الروحية التي تصنعها الخلوة والعزلة، وبعدما فرغ منه، ونظر فيه؛ وجد أنه لم يعطه حقه، وقام بعمل نسخة محققة، لكنه لم يكملها؛ حيث حكم عليه قضاء عبد الناصر بالإعدام.


ومما يدل على أن سيد قطب تراجع عن كثير مما كتب في أول حياته، ما قاله المستشار عبد الله العقيل في مجلة المجتمع العدد 112 عام 1972: “إن سيدًا قد بعث لإخوانه في مصر والعالم العربي أنه لا يعتمد سوى ستة مؤلفات له فقط، وهي: هذا الدين، المستقبل لهذا الدين، الإسلام ومشكلات الحضارة، خصائص التصور الإسلامي، في ظلال القرآن، معالم في الطريق”.


رسالة الشقيق:


وما قاله العقيل يتوافق مع ما ذكره شقيق سيد، المفكر الإسلامي محمد قطب، في رسالة خطية إلى من يسأله عن كتابات سيد قطب.


وهذا نص الرسالة:


“الأخ الفاضل عبد الرحمن بن محمد الهرفي حفظه الله


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


سألتني عن كتاب (العدالة الاجتماعية)، فأخبرك أن هذا أول كتاب ألّفه بعد أن كانت اهتماماته في السابق متجهة إلى الأدب والنقد الأدبي؛ وهذا الكتاب لا يمثل فكره بعد أن نضج تفكيره وصار بحول الله أرسخ قدمًا في الإسلام. وهو لم يوصِ بقراءته، إنما الكتب التي أوصى بقراءتها قبيل وفاته هي: الظلال (وبصفة خاصة الأجزاء الاثنا عشرة الأولى المعادة المنقحة، وهي آخر ما كتب من الظلال على وجه التقريب وحرص على أن يودعها فكره كله)، معالم في الطريق (ومعظمه مأخوذ من الظلال مع إضافة فصول جديدة)، (هذا الدين) و(المستقبل لهذا الدين)، (خصائص التصور الإسلامي)، مقومات التصور الإسلامي (وهو الكتاب الذي نشر بعد وفاته)، (الإسلام ومشكلات الحضارة). أما الكتب التي أوصى بعدم قراءتها فهي كل ما كتبه قبل الظلال، ومن بينها (العدالة الاجتماعية).


أما كتاب (لماذا أعدموني) فهو ليس كتابًا؛ إنما هو محاضر التحقيق التي أجريت معه في السجن الحربي، حذفت منها الأسئلة التي وجهها إليه المحقق وبقيت الأجوبة، وقد استخرجها محمد حسنين هيكل من ملفات السجن وباعها لجريدة الشرق الأوسط فنشرتها في جريدة (المسلمون) مجزأة، ثم نشرتها في صورة كتاب، ولما كنا لم نطلع على أصولها؛ فلا نستطيع أن نحكم على مدى صحتها، ومن المؤكد أنهم حذفوا منها ما يختص بالتعذيب (وقد اعترفت الجريدة بذلك)، أما الباقي فيحتمل صدوره عنه ولكن لا يمكن القطع بذلك، وفضلًا عن ذلك فهذه التحقيقات كلها كانت تجري في ظل التعذيب.


هذا جواب ما سألتني عنه. وبالله التوفيق”.



** ** **


محمد قطب


دفاع العلماء:


لا أدري كيف يتهم سيد قطب في عقيدته، وهو الذي أعدم من أجلها؟


أتراه لو كان شيخًا ذا لحية طويلة، ويجلس يحاضر في المساجد؛ أكانت هذه التهم سوف ترشق في اسمه وسيرته؟ أم ستجد التأويل والتماس الأعذار، وحسن الظن؟!


وأقتبس هنا ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري حينما سُئل عن سبب استشهاده بكلام سيد قطب مع أنه حليق لا لحية له، فقال: “إذا كان الشهيد سيد قطب بلا شعر في لحيته، فهو صاحب إحساس وشعور، وإيمان ويقين، وعزة وكرامة، وغيرة على الإسلام والمسلمين، قدَّم روحه فداءً لدينه، واستشهد في سبيل الله طلبًا لمرضاته، وطمعًا في جنته”.


سلوا أهل الحجاز عن الإمام ابن باز ماذا فعل عند صدور حكم بالإعدام على سيد قطب.


لقد بعث برسالة إلى عبد الناصر يخوفه بعذاب الله وجزاء من يقتل مؤمنًا متعمدًا؛ طالبًا منه التراجع عن حكم الإعدام.


سلوا أهل الشام ماذا قال الإمام الألباني عن سيد.


فمع أنه يخالفه في بعض الأمور؛ إلا أنه قال لسائله عن الرجل، إنه كان أديبًا وغيورًا على دينه، وأثنى خيرًا على فصل له بعنوان “لا إله إلا الله منهج حياة”.


وسلوا مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ماذا قال بحق سيد.


قال إنه أديب صاحب ثقافة إسلامية عامة، وغيور على الدين، وكتاباته راقية إلى حد أن البعض قد يتهمه بأخطاء عقدية، والأمر ليس كذلك.


سيد قطب الشامخ:


سيد قطب علمّ أجيالنا كيف يكون الثبات على الحق والصمود في وجه الطغاة، هو الذي قال أمام القضاء الشامخ الذي اتهمه بمحاولة قتل عبد الناصر: “إن قتل عبد الناصر هدفٌ تافه، إننا نهدف لبناء أمة لا يخرج فيها مثل عبد الناصر”.


هو الذي قال عندما ساوموه بالحياة مقابل التراجع عن مواقفه: “لماذا أسترحم؟ إن سُجِنتُ بحقٍ، فأنا أرضى بحُكم الحق، وإن سُجِنتُ بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل”.


“إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفًا يُقرّ فيه حكم طاغية”.


وضعوا حبل المشنقة على رقبته، وشدّوه، فانقطع وسقط سيد، فقال لهم في تلك اللحظات الحرجة: كل جاهليتكم رديئة، حتى حبالكم رديئة، كل الجاهلية التي أنتم فيها رديئة”.


هو الذي قال للضابط حين سأله عن معنى شهيد: “يعني أنه شَهِدَ أن شريعة الله أغلى عليه من حياته” .


لقد انتشرت كتب سيد قطب وكلماته في الآفاق بعد استشهاده، ولاقت القبول في شتى بقاع الأرض، وصارت عمدة في المنهج الحركي للدعوات الإصلاحية، وإني لأحسب الرجل أنه كان من المخلصين في العمل للدين، وما من أحد يقرأ كلماته، وخاصة الظلال؛ إلا واشتمّ رائحة الإخلاص والصدق في كلماته.


لا أدعي العصمة والقداسة لسيد قطب، ولا أنكر أنه أخطأ في بعض كتاباته، شأنه كسائر أصحاب الأقلام والدعاة والمصلحين، لكنْ أن تناصب الرجلَ العداء، وتُحمِّل كلامه ما لا يحتمل؛ فهذا خلل في منهج النقد والتقويم.


وفي الختام، أرى أني لم أوفّ الرجل حقه في الدفاع عنه؛ فعذرًا سيدي يا ابن الظلال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق