بين فلسطين وسوريا.. والسلطان
عبدالحميد وسلاطين اليوم
د. أحمد موفق زيدان
الذكر الثاني للإنسان بعد وفاته هو أفعاله ومواقفه المشرفة، فكيف إن كان ذلك الإنسان سلطانا وزعيما يعول الملايين وربما عشرات الملايين، حين تذكر فلسطين يقترن بها اسم السلطان المظلوم والمفترى عليه السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله الذي بادلها بعرشه وضحى به من أجل أن تظل فلسطين عربية إسلامية، رفض إغراءات مؤسس الحركة الصهيونية تيودر هرتزل بمنحه ذهبا ودعما بالإبقاء على سلطانه مقابل بيع فلسطين، فقال قولته المشهورة: «إن فلسطين أرض وقف للمسلمين لا تباع وليست ملكا لي لأتصرف بها» فكان أن دفع الثمن المعروف..
اليوم يتكرر المشهد في سوريا بعد السياسات العملية للتوطين الصفوي الفارسي في أرض الشام، وتتكشف معه شهادات مسؤولين في السجلات المدنية السورية الذين أكدوا عملية ممنهجة لتغيير ديمغرافي بدأه طاغية الشام المؤسس حافظ أسد، لكن دون أن يحدث ذلك ركزا أو همسا وسط العرب والمسلمين، أما الصفويون اليوم فيبدو أنهم في عجلة من أمرهم فقد سارعوا إلى تولي مهمة تسجيل نظام البصمة السورية للعبث في ملف السجلات المدنية لتوطين عائلات شيعية إيرانية ولبنانية وأفغانية وباكستانية وغيرها في المناطق الحيوية السورية، تماما كما يفعلون اليوم بشراء أراض بالمناطق الحساسة الأفغانية وتحديدا الأراضي حول المطارات أو الثكنات العسكرية أو المؤسسات الحيوية أو الطرق السريعة وسط غيبوبة أفغانية سيدفعون ثمنها يوما ما، لكن أبطال الشام المخلصين الصادقين في ذاك الثغر السجلاتي المدني كانوا لهم بالمرصاد فنقلوا الأرشيف كله إلى مكان آمن .
الصورة الأكبر هي صمت الزعماء العرب والمسلمين على ما يجري، والسعي إلى التنصل من مسؤولياتهم بالحفاظ على سوريا قلب العروبة النابض المهددة اليوم من الغارة الصفوية الفارسية، إذ لم يحصل أن التزمت ما توصف بجامعة الدول العربية بصمت مطبق ورهيب على مدى تاريخها كما هو حالها اليوم إزاء المجازر الرهيبة التي تتعرض لها الشام، وإزاء التغيير الديمغرافي الذي تتعرض له لتحولها -لا سمح الله- إن استمر الوضع كذلك إلى إسرائيل ثانية في قلب العالم العربي، لعل الفارق بين إسرائيل الأمس وإسرائيل اليوم أن ما جرى في الأولى جرى على مدى عقود وضحاياها ومعاناتها لا تقارن بما يجري اليوم على أرض الشام ومعها أرض العراق بالطبع..
نجح النظام الطائفي السوري وداعموه في حرف البوصلة، فغدت وكأن قضية السوري على مدى سنوات هي قضية لجوء، والمسؤولية هي مسؤولية أوروبية باستقبالهم أو رفضهم، فتنادت الأخيرة لعقد قمم للتعاطي مع أزمة اللاجئين، فالطفل إيلان الكردي الذي اختطف أضواء الإعلام الغربي والعالمي واختطف معه أضواء الاهتمام بمأساة الملايين من السوريين على يد جزارهم وداعميه، هو ما أراده النظام السوري وداعموه القتلة من الروس والإيرانيين، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتن لا يتورع عن الكذب المفضوح والمكشوف لصالح طاغية مثل الأسد حين يقول إن السوريين يلجؤون للخارج هربا من داعش!
للأسف الإعلام ليس لديه خاصية الصبر -بخلاف طغاة أدمنوا القتل والإجرام- على الحدث مهما كان مؤلما ووحشيا لأصحابه، ولذا فتراه يتقلب ويتنقل إلى ساحات جديدة حتى لو كانت في واقعها وحقيقتها حرف له عن الكارثة الأكبر، أملا في تحقيق نسبة مشاهدين أو قراء أكثر، وتفاديا للملل والسأم الذي قد يصيب المشاهد أو القارئ من التركيز على قضية واحدة لفترة طويلة، فديكتاتورية الصورة مؤقتة وليست دائمة، بعدها يكون غيابها أقوى بكثير من حضورها، كون ذلك الغياب يسمح للإنسان أن يسرح بعيدا في المعاناة وظروفها.
نجحت المملكة العربية السعودية في حشد تحالف عربي وإسلامي عاجل لوقف الغارة الحوثية الصفوية على حدودها في اليمن، وأثبتت السياسة مرة جديدة أنه لا يمكن أن تكون إلا مغامرة محسوبة إلى حد معين، وعليه فإن على تركيا مسؤولية تاريخية كبرى بعد أن تخلت لإيران عن العراق فكانت الكارثة التي تهدده وتهدد سوريا معه والمنطقة، وتتكرر اليوم كارثة الشام بتخلي تركيا العسكري عن الوقوف الصريح ضد الطاغية كما تفعل إيران، والمطلوب من تركيا هو تحرك عاجل على غرار التحرك الإيراني، وكل ما يتردد ويقال عن خطر ماحق ساحق يتهدد تركيا من إيران وروسيا ووو.. في حال تحركها، كان يقال ذلك في الحالة السعودية، ومن المفترض أن العلاقات التركية التاريخية والتقليدية والخدمات المتبادلة بينها وبين الغرب أضعاف العلاقات السعودية الغربية، ولذا كان من المفترض أن يكون تحركها أسهل .
لا تحرك سياسيا دون مغامرة، ولا تحرك سياسيا دون تبعات وخسائر، وأكاد أجزم اليوم بأن التحرك التركي العسكري قبل سنوات ضد النظام الطائفي المجرم بالشام سيكون أقل خسائر مما ستدفعه اليوم، وتحركها اليوم سيكون أقل مما ستدفعه بالغد، فهذا العالم والنظام الخارج عنه لن يفهم إلا لغة القوة، فإن لم يكن لإسقاطه وترحيله فعلى الأقل لردعه عن تعديه على تركيا والعبث بأمنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق