الجمعة، 26 ديسمبر 2025

ساري عرابي: وجه فلسطين وصوتها الأوضح

 ساري عرابي: وجه فلسطين وصوتها الأوضح                                                                                                وائل قنديل

ساري عرابي: الذين يواجهون القصف والموت والفقد ليسوا عناصر في معادلة


على مدار أكثر من عامين، كان الباحث والكاتب الفلسطيني المثقف، ساري عرابي، الأكثر تعبيراً عن فلسطين، وجهها الحقيقي، حزنها المقاوم للانكسار، وصوتها الأصدق في كل مداخلاته الإعلامية منذ اليوم الأول للطوفان، وحتى اعتقاله أمس من قوات الاحتلال الصهيوني في توغّلاتها في مدن الضفة الغربية وبلداتها.

صار الكاتب والباحث السياسي الفلسطيني والأسير المحرّر، ساري عرابي، خبراً يضاف إلى شريط الأخبار التي تمرّ سريعاً على الشاشات، بعد أن اعتقلته قوات الاحتلال فجراً، عقب مداهمة منزله في بلدة رافات شمال القدس المحتلة. 

هو اعتقالٌ يصادف أهله تماماً، ذلك أن هذا الرجل بقي من القلائل الذين يقاومون خيانة المصطلحات والتعريفات، حين يعلق على الوضع الراهن أو يحلّله أو يدلي بدلوه في جدلية الاحتلال والمقاومة المشروعة، فلا يستسلم لغواية تصنيف مجتمع الاحتلال بين أشرار وطيبين، ولا يلهو على شواطئ الثرثرة الفارغة التي كانت تهذي بأن المجتمع الإسرائيلي شيء ونتنياهو شيئ آخر، ثم تطور الهذيان إلى الفصل بين نتنياهو وغلاة الصهاينة الدينيين، أمثال بن غفير وسموترتش، على أسس ساذجة افترضت في البدايات أن نتنياهو وفريقه الحكومي العقبة الوحيدة في طريق وقف العدوان، ثم راحت تسفسط بأن نتنياهو يريد التهدئة لكن الصهيونية الدينية هي العقبة.

لم يهتز ساري عرابي أو يتلعثم أو يخبئ آراءه في أغلفة لامعة من الهراء الذي لا يقول شيئاً، بل يتحدّث بعبارات شديدة الوضوح تسمّي الأشياء بأسمائها، وتعرّف العدو بالعدو، ولا تروّج سلاماً زائفاً كما يفعل الذين يسيرون مع اتجاه الريح. 

ولذلك من الطبيعي أن يكون الهدف المناسب للاحتلال في عمله على حرق رواية أولاد الأرض الحقيقيين، بعد أن أحرق الأرض والشجر والحجر والإنسان.

في دراسة بديعة عن فلسفة المقاومة تحت عنوان "مقالةٌ في نقد التحليل السياسي المغلق والتصوّر الإيماني الرغائبي"، يحفر ساري عرابي عند الجذور، لينطلق من دروس معركة عين جالوت الخالدة، ويصل إلى اللحظة الراهنة، الطوفان وما بعد الطوفان، وتحت عنوان فرعي" المقاومة وظيفة": حفظ الإمكان في عالم قابل للانغلاق" يقول ساري عرابي: "ومن هنا، تتولّد فكرة "المقاومة وظيفة". ليست المقاومة "وسيلةً" لتحقيق غلبةٍ دنيويةٍ في تقويمٍ عاجل فحسب، بل "وظيفة" لحراسة شرطٍ أخلاقيٍّ للوجود؛ لولاها لتمدّد الباطل حتى يطبق على العالم؛ ﴿وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى العالَمينَ﴾.[13] هذه ليست صيغة وعظ، بل توصيف لنظام العالم، فالظلم قابلٌ للرسوخ إن تُرك بلا مدافعة، والحقّ لا يقوم بذاته دون فاعل بشريّ ينهض به، ولو لم تَعِد المدافعةُ بنتيجةٍ محددة. إنّ الامتناع التام عن المدافعة ليس حياداً، بل تسليم للباطل بشرعية الرسوخ. لذلك يصبح القيام بالفعل، حتى حين تُخطئ الحسابات أو تتعقّد النتائج، شرطًا لمنع انغلاق العالم في قبضةٍ واحدة. "ومع ذلك، فإنّ تأطير المقاومة بوصفها وظيفة؛ لا ينبغي أن يُفهم على نحوٍ يُضفي على معاناةِ شعبٍ ما، كأهل غزّة أو غيرهم ممن يقفون في خط المواجهة، معنىً تجريديّاً يجعل آلامهم مجرّد ثمنٍ مقبولٍ لحفظ توازنٍ عالميّ أوسع. فالمقاومة ليست تكليفًا تُحمّله فلسفة التاريخ لضيفٍ دائمٍ في جغرافيا واحدة، ولا تصنيفًا يُجزّئ البشر إلى "من يقوم بالوظيفة" و"من يجني ثمارها". إنما هي توصيفٌ بنيويّ لطبيعة العالم من حيث قابليةُ الظلم للتمدد، وقابليةُ الحقّ للاضمحلال إن لم يجد من يقيمه.

ويخلص إلى أن"الذين يواجهون القصف والموت والفقد ليسوا عناصر في معادلة، بل ذوات كاملة وحقوق كاملة، ولا يملك أحدٌ، لا نظريّاً ولا أخلاقيّاً، أن ينقل تبعة العالم إلى أكتافهم. وظيفة المقاومة، بهذا المعنى، لا تُشرعن دوام الألم، ولا تُحوّل تضحيات الناس إلى مادة في تفسير كونيّ، بل تُذكّر بأن الواجب موزّع على البشر بقدرهم وسعتهم، وأن دور المجتمعات والدول والعالم كلّه تخفيفُ الكلفة عن الذين يُضطرون إلى حمل النصيب الأكبر من المواجهة، لا تبرير تحمّلهم لها. هنا يصبح مفهوم الوظيفة جزءًا من نقد الحتميّات، لا صيغةً تُخفّف من ثقل الدم والدمار، لأن الاعتراف بتركيب العالم لا يلغي حق البشر في الحياة الكريمة ولا يجوز أن يُعطّل الالتزام الأخلاقي والسياسي بمساندة المقهورين وتخفيف المعاناة عنهم. الحرّية لساري عرابي..الحرية لفلسطين.

منهج أهل السنة والجماعة في الدعوة

  منهج أهل السنة والجماعة في الدعوة


رئيس مركز الكُندي للدراسات والبحوث


يقوم منهج أهل السنة والجماعة في الدعوة إلى الله تعالى على الأصول المستمدة من الكتاب والسنة، ويحقق فيها توحيد الله تعالى أساسًا ومنطلقًا يهدف إلى إخراج الناس من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان بالله وحده لا شريك له ولا معبود بحق سواه.
ويعتمد أهل السنة والجماعة على العلم والحكمة والموعظة الحسنة، وعدم التعصب للآراء الاجتهادية ويقرّون مبدأ الاختلاف المعتبر في الفروع

الاعتماد على الكتاب والسنة
المنهج بأكمله مستمد من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، وهما المرجعان الأساسيان في كل شيء، كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم: {تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه}

الدعوة للتوحيد
أول ما يجب على الداعية هو الدعوة إلى توحيد العبادة لله، وهو أساس الدين، وقد أمر الله سبحانه وتعالي به جميع الرسل وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا عند بعثه لليمن.


الدعوة بالعلم والبصيرة
إن الدعوة لا تقوم إلا على العلم والمعرفة بأصول الدين وفروعه، لأن الدعوة بغير علم دعوة فاسدة وباطلة.

‎تقوم الدعوة عند أهل السنة على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.


أولاً: الاعتماد في المنهج على الكتاب والسنة
إن مما يميز منهج أهل السنة والجماعة هو اعتماده على الكتاب والسنة في كل شيء، اتباعا واستدلالاً واجتهادا واستنباطا، ومن أراد أن يعرف صحيح المنهج من سقيمه؛ فلينظر إلى محلها وموقعها من الكتاب والسنة بُعدًا أو قرُبًا، ففي الاعتصام بالكتاب والسنة حصنٌ حصين والركن الواقي من كل انحراف وكل زيغ وزيف.
إن الاستدلال بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وكل دعوة أو منهج قام على غير الكتاب أو السنة فهو منهجٌ منحرف مرفوض من أهل السنة والجماعة، ممن كان ومهما كان جهد أصحابه، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(1)، وقال الحق سبحانه: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(2)، وقال الله تعالى: ﴿ثمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾، وقال ﷺ: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)( 4).

ثانيًا: التركيز على المحكمات لا المتشابهات
من المعلوم أن في القرآن الكريم من الآيات ما هو محكَمٌ وما هو متشابه، (والمحكَم منه ما دل عليه نصٌّ محكم قطعي الثبوت قطعي الدلالة، والمتشابه ما كان ظنيَّ الدلالة أو أشكل معناه، ولم يتبين مغزاه) (5)، ومنهج أهل السنة في الإيمان بالمحكم والمتشابه أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، عملاً بقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(6)، قال ابن كثير في تفسيره: (تَتَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَات مُحْكَمَات، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، أَي: بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتُ الدلالة لا التباس فيها على أحد، وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ، فَمَنْ رد ما اشتبه إِلَى الْوَاضِحِ مِنْهُ وَحَكَّمَ مُحْكَمَهُ عَلَى مُتَشَابِهِهِ عِنْدَهُ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ عَكَسَ انْعَكَسَ) (7).
وإن من مسلك أهل الزيغ ومن تبعهم من أهل الباطل أنهم يبحثون عن المتشابه ابتغاء الفتنة والتشويش على الناس، وهذا المسلك ليس مسلك أهل الحق وليس منهجا ولا طريقة لأهل الإيمان الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، والله المستعان.


ثالثا: التدرج وترتب الأولويات
لقد كانت طريقة الدعوة الإسلامية في صدر الإسلام الأول مغايرة بعض الشيء لما كان العمل عليه في العهد المدني، والناظر لأحكام التشريع يجد الأمر بينًا واضحًا في ذلك، ومن أمثلة ذلك: أحكام الجهاد والتدرج في حرمة الخمر، وفرض الحجاب، وتشريع الصلاة وأحكامها، كصلاة المقيم والمسافر، فضلًا عن الأمر بدعوة الناس كافة، وغير ذلك مما ليس هذا موطن ذكره؛ وكل ذلك يدل بوضوح على أهمية التدرج في الدعوة إلى الله، والنظر في ذلك وهو ما وضعه أهل السنة بعين الاعتبار وجعلوه منهجهم في الدعوة إلى الله تعالى، ولذا فإن منهج أهل السنة في الدعوة راعى ذلك لا لبس فيه، من خلال وضع ضوابط شرعية وقواعد محكمة تضبط طريق العمل في الدعوة وتتقيد بمنهجه، لجلب المصالح ودرء المفاسد.

رابعا: إحسان الظن بالآخرين
من السمات التي تميز منهج أهل السنة عن غيره من مناهج الفرق الأخرى إحسان الظن بالآخرين، وعدم إساءة الظن بهم، فإن الأصل هو إحسان الظن حتى يتبين الخطأ، أو تكون هناك قرينة ظاهرة دالة على العمل السيئ. لأن سو الظن ينبت الشقاق والبغض والضغينة، وهو ما لا يقبله ولا يعمل أهل السنة به لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ (9).

خامسًا: إنزال الناس منازلهم
ومن الخصائص التي يسير عليها منهم أهل السنة في الدعوة المهمة في الدعوة هو معرفة مكانة الناس وإنزالهم منازلهم من حيث المكانة والسمعة وافق ما أمر وعمل به الرسول الكريم. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :(أَمرَنا رسولُ اللهِ ﷺ أنْ نُنزِّلَ الناسَ مَنازلَهُمْ) (10).

سادسًا: التحرر من التعصب للأشخاص

عمل أهل السنة وفق المنهج الذي ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه فلم يحيدوا عن: التحرر من التعصب الأعمى للأفراد أو القبائل أو الأعراق أو غير ذلك، فقد أوصاهم بترك عُبية الجاهلية، قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ) (11).
وأكد ذلك في وصيته الأخيرة في حجة الوداع، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟) قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.(12)

فهذه بعض مقومات ومرتكزات وأسس منهجِ الدعوة عند أهل السنة والجماعة، التي من تمسك بها وعمل إخلاصًا وصدقًا لله تعالى كانت دعوته على بصيرة وعلى نهجٍ قويم، ووجد البركة والتوفيق في عمله والانتشار والذيوع لدعوته.

القاديانية الخليجية.. بين الإباحية والوثنية (5-20)

القاديانية الخليجية.. بين الإباحية والوثنية

(5-20)

عن كل الذين رحلوا ولم يودّعونا!

 خواطر صعلوك

عن كل الذين رحلوا ولم يودّعونا!




أفكر فيهم كثيراً... في كل الذين رحلوا من حياتي دون أن يلتفتوا ليوم أخير، دون أن تُغلق أبواب رحيلهم بلُطف. في جدي الأول الذي بقي وعده بالحلوى معلقاً في الهواء، وجدي الثاني الذي تحولت زيارته «القريبة جداً» إلى أبد من الانتظار... 

في أمي التي خرجت كما لو أنها ستعود بعد قليل، فتركت كل شيء على حاله، حتى رائحة عطرها في الغرفة... في خالي الذي صار أشبه بكتاب نُزعت منه الصفحات الأخيرة من كل قصة.

أفكر في وجوه التقطتها اللحظة ثم طواها النسيان، جيران طفولتي الذين ذابوا مع جدران البيت القديم، وأصدقاء تحوّلوا إلى ظلال صامتة، وأناس مروا في الطريق كلمح البصر وتركوا أثراً لا يُمحى.

كأننا، مع كل فراق بلا كلمة أخيرة، نضيف غرفة جديدة إلى «متحف الفقد» الذي ينمو في صدرنا... متحف لا تُعلق على جدرانه صور، بل لحظات متجمدة... موعدٌ أُلغي، رسالة لم تُفتح، هاتف صامت، باب مفتوح على صمت.

أليس الحنين، في النهاية عزيزي القارئ، هو ذلك المتحف الواسع الذي نسكنه حين نكبر؟ متحف لكل الذين رحلوا دون أن يودعونا، فتركونا نبحث عن الوداع في كل زاوية من زوايا الذاكرة، وفي كل مقعد فارغ لايزال ينتظر.

في غرفتي، ما زالت هناك مقاعد فارغة، لم يسبق أن جلس عليها أحد، في الواقع هي ليست مقاعد مادية، ولكني أراها... أراها تنتظر أن يجلس عليها من رحلوا دون أن يودعوا.

جدي الأول رحل وأنا في الطريق أبحث عن ذاتي... قيل لي «سيأخذك لشراء الحلوى غداً». لكن الغد الذي جاء كان بلا حلوى، بلا يَد خشنة تمسك بيدي، بلا رائحة تبغ قديم تملأ السيارة.

جدي الآخر رحل وهو يعدني بزيارة «قريباً جداً»... ولم أكن أعلم أن «قريباً جداً» كانت بلداً بعيداً لا تصل إليه حافلات الدنيا، ولا تطير إليه طائرات الوعد، فقط ترك لي ساعته التي توقفت عند الساعة التي قرر فيها الرحيل دون استئذان.

أمي رحلت دون أن تغلق الباب... ظننت أنها ذهبت لرؤية الطبيب... انتظرتها وأعدت ترتيب الوسائد على أريكتها، وحضرت كأس الماء الذي كانت تشربه عند عودتها... لكنها لم تعد، فقط ظلت رائحة عطرها تعلق بالهواء كشاهدٍ على اختطاف أعز ما رأت عيني.

خالي، أيضاً رحل وهو يحمل حكايات لم يكملها... كل قصة كانت تنتهي بـ «في المرة القادمة». ولم تكن هناك مرة قادمة... صار خالي مجموعة من الجمل المنقوصة، وفصولاً مبتورة في كتاب لا غلاف له.

جيران الطفولة الذين رحلوا كأنما كانوا ظلاً لبنايتنا القديمة... عندما هُدمت البناية، انهار الظل معها... أسماؤهم الآن مجرد أصداء في بئر اللاوعي، أما وجوههم فأصبحت مثل صور في ألبوم مبلل تحت المطر.

أما الصداقات... تلك التي انتهت بهاتف لا يرد، ورسالة لم تُقرأ، وموعد أُلغي بلا سبب... رحلوا كسحابة مرت فوق رأسي ولم تمطر إيذانا بالرحيل... أحياناً أتساءل، هل كنت أنا من رحل عنهم، أم هم من رحلوا عني؟!

في الطريق، مررت بعابرين... بائع كتب قديمة أخبرني بقصة غيرت مساري، عبدالرحيم، الذي اختفى فجأة... وسيدة قابلتها في الشارع ومعي أبنائي، حيث كنا على وشك الدخول للمنزل عندما ظهرت وأعطتنا قطعة حلوى مع ابتسامة مجانية، فابتسمنا جميعاً؛ كيف لامرأة أن تحمل الحلوى وتوزعها في الشارع بهذه البساطة؟ أردت أن أشكرها لاحقاً، لكن خبراً انتشر في الحي سبقني... لقد قتلها زوجها المجنون في الشهر ذاته! كانت تحمل الحلوى، وكان يحمل الموت، وعن طفل سألني عن الوقت وبكيت لأنه ذكرني بطفلي الداخلي الذي رحل هو الآخر دون وداع.

كل هؤلاء... رحلوا كما تذهب أوراق الخريف... بصمت، بلا ضجيج، وكأنما كانت الأرض تفتح فمها تحت أقدامهم وتغلقُه بعد أن يمرّوا... أحياناً أفتح النافذة في الليل، وأتساءل... أين ذهبوا جميعاً؟ هل هناك مدينة للذين رحلوا دون وداع؟ هل يجتمعون في مقاهي «الرواء» هناك، يتحدثون عن أولئك الذين تركوهم وراءهم، ويقولون: «كنت سأودعه، ولكن...»؟ قرأت في إحدى كتب الصوفية أن «الوداع الحقيقي لا يحتاج إلى كلمات، إنه يحدث كل يوم»... ربما كان هذا الصوفي على حق، فهؤلاء الذين رحلوا دون وداع، هم في الحقيقة لم يغادروا تماماً.

هم هنا، في الساعة المتوقفة.

في الكرسي الفارغ.

في القصة غير المكتملة.

في رائحة العطر التي تظهر فجأة ثم تختفي.

هم في كل «قريباً» أقولها وأنا أعرف أنها قد لا تأتي... وفي كل الذين انتظرتهم ولم يأتوا... وفي كل الذين عرفتهم ولم يعودوا... الذين رحلوا دون وداع تركوا لنا أكثر من ذكريات... تركوا لنا أبواباً مفتوحة... إنني أدعو جميع القراء إلى الاعتناء بمتحف فقدهم بالدعاء والامتنان لكل لحظة قبل الوداع...

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لم يرد به وجه الله... يضمحل.

الخميس، 25 ديسمبر 2025

قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ

 قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ

عبد المنعم إسماعيل

كاتب وباحث في الشئون الإسلامية


من قواعد التفكير الجاهلي عند طغاة الأرض الجاحدين لطبيعة هذا الإسلام العظيم الذي جاء به الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام بصفة عامة وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة فساد تصور الطغاة عن طبيعة قبول الجماهير لمناهج التغيير والتي اعتمدت على: قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.

قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
إنها الهواجس النفسية المنحرفة عند رموز البغي الجاهلي الواهمون أن نفوس الجماهير يجب أن تقبل وترفض من خلال اليات التوافق مع أهواء المفسدين حسب ظنهم ومن ثم قال فرعون لاتباع موسى: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ.


إن الدعوات والمناهج التي تخرج بالتوافق مع رموز الجاهلية المعاصرة لن تثمر تغييرا واقعيا في حياة الشعوب مهما سعى سحرة البيان إلى تلميع حيل التوافق بين الإسلام والجاهلية بعد تلميع صفقات التوافق مع فرعون كل زمان لاستجلاب الرضا عند الطغاة والبغاة وكأن منهج الله أو دين الإسلام رؤية توافقية بين أهل الطغيان والجحود فوق كل ارض وتحت كل سماء.

قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
جاء الإسلام ليقيم بناء القلوب والنفوس وفقا لمنهج الله عزوجل ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم وخير دليل على ذلك ما قاله ربعي بن عامر رضي الله عنه حين قال لكسرى :

 لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

دعاة الإسلام هم بعث الله لهداية الناس:
قال ربعي مظهرا حقيقة المنهج الإسلامي فقال: لقد ابتعثنا اللهُ: وهنا وقفة مهمة لبيان طبيعة المنهج الإصلاحي الذي يفارق كل أدوات الجاهلية وتصورات الطغاة والبغاة مهما حاولوا بناء التصورات البالية عن حقيقة منهجهم فقال ربعي:


لقد ابتعثنا الله فلم نخرج من نتحرك في الأرض بناء على توافق فكري أو عقدي أو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي مع أهل الفساد والضياع المخالف للإسلام ومنهج محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.


لقد ابتعثنا الله
من خصائص هذا الدين أنه يقيم في النفس البشرية المسلمة الحرية مما سوى الله رب العالمين وهذا لا يمنع حسن التعامل مع المخالفين وفقا لتوجيه رب العالمين سبحانه: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا.


فالاستقلالية الفكرية والثقافية والدعوية فرع عن التميز العقدي الذي هو قاعدة بناء الإسلام والسنة والأمة وكل الأفراد والمناهج التي تسعى نحو بناء آليات للتلاقي بعيدا عن ربانية الإسلام كغاية ووسيلة ومنهج فهم وصراط للولاء والبراء تعتبر رؤى استهلاكية للزمان مهما حاول صعاليك الواقع وصفها بأوصاف صنعوها من تيه أوهامهم وبقايا أفكارهم.


ما أجمل أن يتم تقديم الإسلام والسنة والبناء الجامع الأممي وفقا لمراد الله عزوجل ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ومراد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين باعتبارهم نواة الإسلام والأمة التي مدحها رب العالمين سبحانه وتعالى وجعلها الرسول صلى الله عليه وسلم موضع القدوة للأجيال والقرون على ممر الزمان.

وَهْمُ الأَندَلُس: عندما يتمُّ تحويلُ التَّاريخِ إلى فزَّاعة!

نقطة نظام
وَهْمُ الأَندَلُس: عندما يتمُّ تحويلُ التَّاريخِ 
إلى فزَّاعة!
  أدهم شرقاوي


هناك كُتُبٌ تُكتَبُ لِتُضيفَ إلى الوعي، وكُتُبٌ تُكتَبُ لِتُضيِّعَه. وللأسف، يَنتَمِي كتابُ «وهمِ الأندلسِ» إلى الفئةِ الثانية؛ كتابٌ أراد أن يبدو عميقًا فخرج سطحيًّا، وطَمِحَ أن يكونَ تاريخيًّا فجاء دعائيًّا، وتخيّل نفسَه شُجاعًا فإذا به مجرّدُ مادّةِ تعبئةٍ عاطفيّةٍ تبيعُ الخوفَ تحتَ اسمِ القراءةِ التاريخيةِ.

المشكلةُ أنّ هذا الكتابَ لا يقرأُ الأندلسَ كحدثٍ حضاريٍّ مُعقَّدٍ فيه العلمُ والفلسفةُ والسياسةُ والفنُّ، بل يُحوِّلُه إلى فزّاعةٍ تُرفَعُ في وجهِ الغربِ لِتَبريرِ خطابِ التخويفِ. التاريخُ عنده ليس مساحةَ فَهمٍ ومراجعةٍ، بل وسيلةَ ضغطٍ نفسيٍّ وإثارةٍ شعوريةٍ. بدلَ تحليلِ أسبابِ فتحِ المسلمين للأندلس بعمقٍ ومسؤوليّةٍ، وطريقةِ حكمهم لها بموضوعيَّة، لا أريدُ أن تحملَ تبني المسلمين للفكرة، يكفي أن تحملَ إنصاف النصارى لها كما  فعلت “زيغريد هونكه” في كتابها “شمس الإسلام تستطعُ على الغرب”! يتجه الكتابُ إلى أقصرِ الطُّرُقِ وأكثرِها سذاجةً؛ تفسيرٍ مبنيٍّ على هاجسِ الهويةِ والخطرِ الثقافيِّ، لا على التحليلِ الموضوعيِّ.

في الحقيقةِ، ما يَغفَلُهُ هذا الخطابُ أنَّ الأندلسَ لم تكن لحظةَ تهديدٍ للحضارةِ، بل كانت إحدى قِمَمِها المُضيئةِ. كانت الأندلسُ يومئذٍ فضاءً للعلمِ والفلسفةِ والطِّبِّ والفلكِ والرّياضياتِ، فيها جامعاتٌ سبقت عصرَها، ومكتباتٌ تضاهي خزائنَ العالمِ، ومدنٌ مزدهرةٌ بالإنسانِ والفكرِ والفنِّ، بينما كانت أوروبا في مُعظمِها غارقةً في عصورٍ قاسيةٍ من الجهلِ والصراعِ الدينيِّ والقمعِ الكنسيِّ وضيقِ الأفقِ العلميِّ. في ذلك الزمنِ، كان الأندلسُ يُؤسِّسُ لِمدنيّةٍ إنسانيّةٍ رحبةٍ، ويمنحُ أوروبا ذاتَها —بعدَ قرونٍ قليلةٍ— مفاتيحَ النهضةِ عبرَ الترجمةِ والاحتكاكِ العلميِّ، لكنَّ كتابَ «وهمِ الأندلسِ» يتجاهلُ كلَّ هذا الإرثِ الحضاريِّ العظيمِ، ويستبدلُه بصورةٍ مُتخيَّلةٍ للأندلسِ كخطرٍ داهمٍ، مع أنَّ التاريخَ يشهدُ أنَّها كانت نافذةَ تقدُّمٍ لا مصدرًا للخرابِ.

الأخطرُ من ضعفِ المنهجِ أنَّ الخطابَ يحملُ شُحنةً أخلاقيّةً سلبيّةً واضحةً. فالكتابُ يُقدِّمُ صورةَ المسلمِ في الغربِ كخطرٍ مُحتملٍ، ويُسهِمُ في تغذيةِ مشاعرِ الشكِّ والعداءِ بدلَ المساهمةِ في نقاشٍ حضاريٍّ هادئٍ ومسؤولٍ. إنَّه لا يدعمُ فكرةَ التعايشِ، ولا يُضيفُ شيئًا لصورةِ الإسلامِ والإنسانِ المسلمِ، بل يضعُ لَبِنةً جديدةً في جدارِ سوءِ الفَهمِ، وكأنَّ العالمَ يَنقُصُه مزيدٌ من الأصواتِ التي تُكرِّسُ الانقسامَ.

ثمّ يأتي التبسيطُ المُخِلُّ ليزيدَ الصورةَ هشاشةً. حكم المسلمين للأندلس ظاهرةٌ تاريخيّةٌ مُركّبةٌ شاركت فيها عواملُ داخليةٌ وخارجيةٌ، سياسيةٌ واقتصاديةٌ وعسكريةٌ ودينيّةٌ، ومع ذلك يُختزَلُ كلُّ ذلكَ في خطابٍ مباشرٍ شديدِ الابتذالِ يقومُ على ثنائيّةِ التهديدِ والخوفِ. هذا النوعُ من الكتابةِ ليس تفكيرًا نقديًّا، بل كَسَلًا فكريًّا يختصرُ التاريخَ في شِعاراتٍ.

من الناحيةِ الثقافيةِ، لا يُضيفُ الكتابُ قيمةً حقيقيّةً للمكتبةِ الجادّةِ. لا يُثري النقاشَ، ولا يفتحُ أفقًا فكريًّا، ولا يحترمُ حساسيّةَ الموضوعِ الذي يتعاملُ معه. إنَّه ورقٌ كثيرٌ وضجيجٌ مرتفعٌ، لكن بلا محتوى معرفيٍّ راسخٍ ولا رؤيةٍ فكريّةٍ مسؤولةٍ.

وفي النهايةِ، ربما كان الاسمُ الأكثرَ دقّةً لهذا العملِ أنَّه هو نفسُهُ وَهْمٌ؛ وَهْمٌ أنَّه قراءةٌ للتاريخِ، ووهمٌ أنَّه دفاعٌ عن الهويةِ، ووهمٌ أنَّه يحمي المستقبلَ. أمّا الحقيقةُ فهي أنَّه نصٌّ يُكتَبُ بالخوفِ لا بالعقلِ، وبروحِ الصِّدامِ لا بروحِ الفَهمِ، ويقفُ على الضفّةِ التي تزيدُ النارَ اشتعالًا بدلَ أن تبحثَ عن ضوءٍ يُساعِدُ الإنسانَ على الرؤيةِ!

{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} شريعتنا هي كل ديننا

{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 

شريعتنا هي كل ديننا

 د. عبدالعزيز كامل


الشريعة هي عنوانُ المرحلة الراهنة والمقبلة، فتحكيمها وإقامتها سيظل موضوع حراك الإسلاميين، وموضع خصومة الكارهين من العَلمانيين، والمواقف منها سلباً أو إيجاباً، قبولاً أو رفضاً؛ هي التي ستقرر معالم الفرز الاعتقادي القسري الذي فرضته تداعيات الثورات العربية، وعندها لن يكون التقسيم الواقعي بين الشعوب قائماً على الأسس القومية ولا الوطنية، ولا معتمداً على الفروق الاجتماعية أو الثقافية؛ إنما سيكون مبنياً - قبل هذا أو ذاك - على المعايير الاعتقادية والفروق الفكرية والمذهبية، لتعود القسمة بين الناس ثلاثية كما قررها الوحي المنزل عندما قسمت سورة البقرة في بدايتها الناس إلى ثلاثة أقسام: (مؤمنون... كافرون... منافقون)، فبينما ينحاز المؤمنون إلى خيار العيش في ظلال الشريعة، سيقف الكفار الصرحاء داخل بلدان المسلمين وخارجها بصلابة في وجه الشريعة وحَمَلتها وحُماتها، وستفيء إلى الكافرين الظاهرين فئام المنافقين المتسمّين بأسماء المسلمين، والذين أصبحوا يصرحون علانية بمعارضتهم للاحتكام لها وكراهيتهم للنزول على أحكامها.


نزاع مفاهيم:


جزء كبير من الخصومة في قضية الشريعة يعود إلى خلط المفاهيم حولها، فمع أن مفهوم الشريعة والمعاني المحيطة بالحكم بها بعد التحاكم إليها، من الأمور التي حسمها الوحي كتاباً وسنة؛ فقد ظلت «النخب» الفكرية في لغط وجدال - ولا تزال - حول مرجعيتها وحاكميتها وتنفيذها وإقامتها، ومن يقوم بذلك ومن يُقام عليه ذلك.


بعض المفاهيم الخاطئة حول الشريعة أصبحت - بفعل التراكم - كأنها هي الأصل الواجب الرجوع إليه، ومن ذلك: الظن بأن الشريعة أمر مختص ومختصر في تنفيذ أحكام العقوبات وإقامة الحدود، والظن بأن ذلك التنفيذ واجب على الفور دونما تمهيد أو تأهيل للشعوب. وأيضاً يسود مفهوم خاطئ عن أن القيام بأمر الشريعة أمر خاص بالخاصة من الحكام والقضاة، مع أن ذلك ينصرف إلى جزء قليل منها وهو أحكام الحدود. ومن أخطر صور التلاعب بالمفاهيم في هذا الصدد الادعاء بأن الحكم بالشريعة غير مُلزِم، وأن المسلم يسعه أن يظل في دائرة الإيمان رغم عدم رضاه بحكم الله، أو أن الإيمان بوحدانية الله يكفي عن الخضوع لحاكميته.


ومن صور العبث بالمفاهيم كذلك، تقسيم الشريعة إلى (مبادئ) و(أحكام)، فالمبادئ يسوغ قبولها والتنصيص عليها في الدساتير، مثل: المناداة بالعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان؛ وأما الأحكام فعلى طريقة العَلمانيين لا يُعدُّ أكثرُها مناسباً للعصر أو قابلاً للتطبيق.


ومن ضمن الأسباب التي تساعد على اتساع دائرة الخلط في المفاهيم، استحداث مصطلحات غير مدققة ولا موثقة كي تحل محل المصطلحات الشرعية التي جاء بها الوحي في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك تعبير (تطبيق الشريعة) الذي أعطى ورسخ إيحاءات كثيرة عائمة مائعة توصل أو تؤصل لبعض المفاهيم الخاطئة السابق ذكرها، حيث يتبادر إلى أذهان الناس عند استعمال هذا التعبير أن المقصود من الشريعة هو فقط «تطبيق» الحدود وتنفيذ العقوبات وبعض المعاملات، وفي هذا تقزيم للمعنى العظيم الكامن وراء الدعوة لـ (إقامة) الشريعة بالمعنى الشامل، المتضمن قضايا اعتقادية وأحكاماً فقهية وأموراً تتعلق بأعمال القلوب وآثار السلوك، ونحو ذلك مما يصدق عليه بمجموعه وصف (العبودية لله)، وهو ما لا يكفي للوفاء به أيضاً الحديث عما يُسمى: «تقنين الشريعة».. فالعبودية لا تقنن في قوالب، ولا تنقط في فقرات.


لا شك أن المفاهيم السليمة فيما يتعلق بقضايا الشريعة إنما تُستمد من خطاب الوحي، فالقرآن والسنة الصحيحة بفهم السلف هما الأولى بالتصدير قبل غيرهما في تحديد تلك المفاهيم ووضع مصطلحاتها، وتعيين المراد بها.


في هذا الإطار يأتي الاستهداء بهدي القرآن في ذلك الشأن الشاغل، ولعل الآية المعنون بها لهذا المقال، وأقوال المفسرين فيها، تحسم الجدال في كثير من الأمور، وتؤصل للمفاهيم الصحيحة حول موقع الحكم بالشريعة من الدين.


يقول الله - عز وجل -: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْـمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13].


فالآية خطاب لهذه الأمة بأن تقيم وتستقيم على ما شرعه الله لها وللأمم قبلها على ألسنة الرسل العظام أصحاب الشرائع، ولا يتفرقوا في الطريق الموصل إليه، بل يجتمعوا عليه؛ وأن يعلموا أن رضى أعداء الرسل عنهم محال ما داموا داعين لشرع الله وعاملين به، فليكونوا هم أهل اصطفاء الله ورضاه بالاستمرار في الاهتداء بهداه، والعودة إليه.


ومن خلال ذلك المعنى العام للآية، تظهر لنا حقائق ومفاهيم مستمدة منها، ومما يماثلها من الآيات، وهذه أبرزها:


أولاً: الإقرار بالوحدانية يستلزم إقامة الشريعة:


ذلك أن الله الذي شرع لنا من الدين ما وصى به أولي العزم من الرسل، هو الإله الواحد الذي له مقاليد السماوات والأرض - كما بيَّنت الآية قبلها - والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وهو بكل شيء عليم، فهذا الإله العظيم أودع آثار صفاته العُلا في شرعه، فقد أنزله بعلمه وحكمته ولطفه وغناه عن خلقه، وقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. فالذي شرع هو الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى. قال القرطبي «{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} أي: الذي له مقاليد السماوات والأرض شرع لكم ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى». أما ما شرعه وأمرنا بإقامته، فهو - كما قال رحمه الله - «توحيده والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل به مسلماً».


ثانياً: نكون خير أمة بإقامة خير شريعة:


فالله - تعالى - وصانا بمثل ما وصى به أمم الأنبياء السابقين، قال ابن عاشور «والمماثلة: في أصول الدين مما يجب لله - تعالى - من صفات، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع، وأعظمها توحيد الله، ثم ما بعده من الكليات الخمس: الضروريات، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر دونها، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أودع مثله في الإسلام».


فإذا كان أولو العزم هم أفضل الرسل الذين أُرسلوا بأكبر الشرائع، فإن أفضلهم جميعاً محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن شريعته هي أكمل الشرائع، ولهذا كان ما شُرع للأنبياء السابقين (وصية) من الله لهم، أما ما شُرع لنبينا صلى الله عليه وسلم فهـو (وحي) من الله، والفرق أن الوحي يشير إلى الإعجاز التشريعي الذي اختص به القرآن عن سائر الكتب المنزلة، وعندما تقيم الأمة شريعة الإسلام الكاملـة فإنها تقيـم بها شـرائع كل الأنبياء، وتكون بذلك خير أمة، وأولى بكل نبي من قومه؛ عندما تحيي من شرعه ما أماته قومه.


ثالثاً: حقيقة إقامة الشريعة هي إقامة الدين كله:


فـ «إقامة الدين» ومن ثم: إقامة الشريعة؛ مصطلح قرآني لا يحل محله غيره كـ (التطبيق) أو (التنفيذ)، وهو أشمل أيضاً من (التحكيم)، فقد يكون التطبيق جزئياً فلا يسمى إقامة، وقد يحصل بعض التنفيذ دون تحكيم اعتقادي، وقد يحصل التحاكم الاعتقادي للشريعة دون إقامتها في الواقع. وقد تكرر في القرآن الأمر بإقامة الدين المستلزم لإقامة الشريعة، قال ابن العربي في تفسير {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} «أي اجعلوه قائماً، يعني دائماً مستمراً، محفوظاً مستقراً، من غير خلاف فيه واضطراب عليه»، وهو يشمل - كما قال - «الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والتزلف إليه بما يردُّ القلب والجارحة إليه والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكفر والقتل والزنا والإذاية للخلق، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات».


رابعاً: الشريعة بمعناها العام ترادف الدين كله:


قال - تعالى -: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18]، قال الشوكاني في تفسيرها: «المراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين»، فإذا أمرنا بإقامة الدين، فقد أمرنا بإقامة الشريعة. نقل الطبري عن قتادة في تفسير {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} أنه قال: «بُعث نوح حين بُعث بالشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام، وهو نفسه ما بُعث به إبراهيم وموسى وعيسى»، ولذلك قال الطبري في تفسير تلك الآية: «وعنى بقوله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} أي اعملوا به على ما شُرع لكم وفُرض». وإذا كان الدين يشمل المعتقدات والتشريعات والسلوكيات، فإن الشريعة بمعناها العام تشمل ذلك، وقال ابن عطية: «{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ}.. إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه، وذلك في المعتقدات أو في جملة أمرها، حيث إن كل نبوة مضمونها معتقدات وأحكام، فيجيء المعنى على هذا: شرع لكم شِرعة هي كشرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، في أنها ذات المعتقدات المشهورة التي هي في كل نبوة».


نخلص من هذا إلى معنى ينبغي تحديده، ومفهوم يجب إحياؤه، وهو أن الشريعة معنى أعظم بكثير مما يردده الإعلام، وما يفهمه الرأي العام، فهي كل الدين الواجب إقامته على كل الأمة، يقول ابن تيمية - رحمه الله - في فتاويه عند شرحه هذه الآية تحت عنوان (قاعدة في الفرقة والجماعة): «فالمشروع لنا هو الموصى والموحى، وهو {أَقِيمُوا الدِّينَ}، فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا الموصى به الرسل، والموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم».


خامساً: إقامة الشريعة.. لا تطبيق الشريعة:


المعنى المتبادر من التعبير المستحدث (تطبيق الشريعة) يكاد ينصرف عند عموم الناس - كما سبقت الإشارة - إلى تنفيذ باب من أبواب الفقه الإسلامي، وهو باب أحكام العقوبات والحدود وبعض المعاملات، ولذلك فالتعبير يوهم تجزئةً غير جائزة تؤدي إلى تبعيض الشريعة المنهي عنه في قول الله تعالى: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْـمُقْتَسِمِـــينَ 90 الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 90 - 91]، أي أعضاء وأجزاء يؤخذ ببعضها ويترك بعضها.. لا شك أن الذين وضعوا مصطلح (تطبيق الشريعة) لم يكونوا يقصدون هذا، لكن هذا ما آل إليه الأمر عندما تُرك التعبير القرآني (إقامة الدين) الذي يعني (إقامة الشريعة)، ولو رحنا نبحث عن المعنى اللغوي في مادة (ط. ب. ق) لكلمة (طبَّق) لوجدنا هذه المادة تدور حول معاني: التغطية والتسوية والتراتب الفوقي والموافقة والاتفاق.


فهل يكون (تطبيق الشريعة) مثلاً: هو تغطيتها، أو تسويتها بسواها، أو موافقتها لغيرها، أو وضعها في ترتيب بعضه فوق بعض؟!


إن معنى (إقامة) الدين ومن ثم (إقامة) الشريعة، أبلغ في الإيضاح والتحديد، ولهذا؛ فهو تعبير بليغ سديد، فالإقامة في اللغة تعني الإتمام والإدامة، ولذلك جاء التكليف بأعظم فروض الإسلام - وهي الصلاة - بلفظ الإقامة أيضاً بمعنى إتمامها وإدامتها، فقال الله تعالى في كثير من الآيات: (وأقيموا الصلاة)، وإقامتها تعني إتمامها - كما قال الزجاج في تفسيره -، فالصلاة تحتاج إلى أمور كثيرة وعظيمة الشأن حتى يصدق على فاعلها أنه (مقيم للصلاة)، قال الطبري في تفسير {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 3] «إقامتها: أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها على ما فرضت عليه، كما يقال: أقام القوم سوقهم، إذا لم يعطلوها من البيع والشراء»، ونقل - رحمه الله - عن ابن عباس قوله: «إقامة الصلاة: تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها». وقد جاء في الحديث: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)[1].


فإذا كان كل هذا مطلوباً في الصلاة كي يُعدَّ المرءُ مقيماً لها وهي واجب واحد، فما بال الواجب الشامل لكل الواجبات وهو (إقامة الشريعة).. ما المطلوب منا كي نكون مقيمين لها؟


 إن إقامة الشريعة تشمل أموراً أرحب وأعظم من الأمور التي يشير إليها تعبير (تطبيق الشريعة)؛ إنها أمور تتوزع على العقائد والعبادات والمعاملات والسلوكيات لتشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح، إلى جانب الأخلاقيات التي تدعو الشريعة إلى التزامها وعدم الخروج عنها، إضافة إلى الضوابط العامة في الأقوال والأعمال، والمعايير الخاصة في الحكم على الأشخاص والأفكار. وهذه كلها - كما ترى - مهمة الأمة بمجموعها، حيث إنها كلها مخاطبة بإقامة الشريعة وإقامة الدين.


 لذلك نقول إن من إقامة الشريعة: 

إجلال الموحِي بها - سبحانه - وتعظيم الموحَى إليه بها صلى الله عليه وسلم، وتعظيم نصوصها، والتحاكم القلبي إليها، والتحكيم الفعلي لها، والولاء والبراء لأجلها، والحب والبغض على أساسها، والجهاد لرفعة شأنها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقتضاها، وتحمّل الأذى في سبيلها، وتوقير علمائها، وطاعة الحاكمين بها، ونصرة الداعين إليها، والتزام منهج السلف في فهمها ونصرها ونشرها، وعدم التفرق والاختلاف في الطريق الموصل إليها كما أمر الله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.


وما أحسن تفسير الشيخ السعدي لمعنى هذه الآية حيث قال رحمه الله «{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}.. أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين، أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاوِنون على البر والتقوى ولا تعاوِنون على الإثم والعدوان.. {ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أي ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه واحرصوا على ألا تفرّقكم المسائل وتحزّبكم أحزاباً، وتكونوا شيعاً يعادي بعضكم بعضاً مع اتفاقكم على أصل دينكم».


الهوامش

[١] أخرجه البخاري في صحيحه برقم (٧٢٣).

المصدر

د. عبدالعزيز كامل

:: مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.


اليوم الأغبر في تاريخ سورية بعد منعرج التحرير!

 اليوم الأغبر في تاريخ سورية بعد منعرج التحرير!

مخاطر وتحديات في شام الرسول




 مضر ابو الهيجاء


لم تشهد سورية بعد تحريرها النسبي قبل عام يوما أغبر من هذا اليوم، فحراك الساحل والفلول، وتواطؤ الهجري والدروز مع اليهود المحتلين، ومكر قسد المجرمة والملحدة، جميعه لا يوازي حجم مخاطر ومآلات حلول مجلس الأمن الدولي برعاية أمريكية في دمشق عقر دار الإسلام.

والسؤال يقول:

لماذا نصف حلول الكاهن الأمريكي ومجلس الأمن الدولي في دمشق يوم أغبرا؟ وما هو الممكن والمطلوب؟

من نافلة القول أنه لا مناص من التعامل مع القوى الدولية والإقليمية المؤثرة، سواء أكان التعامل حربا أم سلما أم هدنة، فهذا ليس موطن الاعتراض ولا التخوف رغم كل محاذير وضوابط التعامل اللازمة لتحقيق معنى التمكين وتحقيق مصالح العباد وحفظ البلاد!

ابتلاع سورية في بطن الثعبان الدولي!

لم تجد أمريكا مخلصا وفيا لها كما وجدت حافظ الأسد ونطفته القذرة، حيث استكمل الخبيثان تدمير شام الرسول أرضا وشعبا ومقدرات، وبعد أن استنفدت العصبة الأسدية الطائفية كل طاقاتها وقدراتها في قتل خيار أهل الأرض في الشام، كان لابد من حلول الكاهن الأمريكي الأصيل بعد رحيل الأسد القاتل والوكيل.

إن غياب حافظ الأسد لم يستدع أكثر من حضور مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية اليهودية لأربع ساعات، حيث جلست مع بشار الأسد في قصره وثبتت دوام حكم الطائفة النصيرية والعائلة الأسدية وفاء لما صاغه وبلوره كيسنجر من اتفاق مع المجرم الأكبر حافظ الأسد عام 1970.

معضلة الثوار وحقيقة شعب الأحرار!

بعد أن من الله على أهل الشام الكرام بسقوط الطاغوت وتفكيك منظومته الأمنية وامتلاك الثوار للقرار، تقدم أحرار شام الرسول في سورية، فاضطلع كل منهم بواجبه في البناء، وعاد دور العلماء فاعلا في بناء الفرد والمجتمع خامة النصر وسر النهضة الإسلامية القادمة، كما التف الشعب السوري العظيم خلف دولته، كمكتسب حقيقي يستحقه أهل الأرض المباركة بعد أنهار الدماء الزكية لأحفاد الصحابة والتابعين الذين قتلهم الأسد برعاية أمريكية، وقتلهم الروس بإرادة أمريكية، وقتلهم ملالي إيران بدفع من الأمريكان، وخدعهم النظام العربي بتواطؤ مدروس مع الاستخبارات الأمريكية، التي مدت أذرعها الداعشية في أحشاء الحركات الثورية فأضعفتها وشقت صفها.

مؤمرة دولية إقليمية انكسرت أمام عزيمة الثوار واستقامة شعب سورية بفضل دور العلماء.

لقد وجدت أمريكا نفسها أمام معضلة كبرى في أرض الشام حيث تجلت بركاتها في علمائها ودعاتها وشعبها وثوارها الأحرار، فقررت أمريكا تغيير الخطة التي فشلت، وبعد أن فرضت بشار القاتل -حليف إسرائيل وإيران- على العرب واستحضرته في الجامعة العربية، قررت التعامل مع حقيقة الثورة السورية ولم تعوق وصول الثوار إلى دمشق وأهلها القابضين على جمر النظام الهالك.

حقيقة أهل الشام كابوس يقض مضاجع الصليبية!

كما حضرت مادلين أولبرايت لدمشق بعد موت الأسد الأب لتتفاهم مع الإبن، تحضر اليوم كل المنظومة الدولية المقررة في مجلس الأمن لتبلور تفاهما يرقى لمواجهة حقيقة صعود الشعب السوري بعد انعتاقه من منظومة الحكم التي بلورها كيسنجر مع حافظ الأسد في 1970، وقامت بتحديثها مادلين أولبرايت مع بشار الأسد في 2000.

تحضر اليوم الإدارة الأمريكية وكل مجلس الأمن لدمشق ليبلور اتفاقا وتفاهما يضع سورية الجديدة في القفص الأمريكي ويعرقل نهضتها، ليضمن الثعبان الدولي ألا يخرج أهل الشام الكرام عما يريده الغرب الصليبي المعادي سياسياً والمتناقض ثقافياً مع شعوب المنطقة.

أحمد الشرع والحكومة السورية!

لن يستطيع أحمد الشرع وحكومته ولا الحكومة القادمة أن يكاسر الوحش الدولي والثعبان الأمريكي، ولكن هذا لا يعني أن ينبطح أمامه، فالقوة والضعف المادي معيار الزحف نحو الحرب أو التوقف والانسحاب، وأما المعيار الحقيقي للمواقف فهو الحق أولا ومصالح العباد والبلاد ثانيا، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أرسل الله طالوت ولا أحدا من الأنبياء والمرسلين للأقوام المستضعفين.

لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحطم الأصنام في مكة لعلة غياب القوة والقدرة، ولكنه -حاشاه- لم يتحالف مع أبي جهل ولم يقبل عرضه بل نزلت قل يا أيها الكافرون، ولم يقل هبل هبل، بل قال قل هو الله أحد.

وجاء دور العلماء وبات المسرح متاحا للأوفياء!

من الطبيعي جدا ألا يغادر الأمريكي أرض الشام، فمنها ستبدأ النهضة التي ستراكم عليها مصر خزان الأمة، فالغرب يدرك سر النهضة عندما يلتقي المسلمون الأوفياء في إقليمي مصر والشام ثم يصطف معهم العراق.

واجب الأوفياء المنتمين في الشام اليوم هو:

1/ تقديم وتعظيم دور العلماء المصلحين والنخب المنتمين في بناء الفرد والمجتمع وتعزيز وعيه.

2/ نصرة حاكم سورية ظالما بالأخذ على يديه، وضعيفا بالوقوف خلفه في كل قرار مصيب.

3/ إطلاق مؤتمر شعبي سوري يجتمع ليحدد كلمة سواء مضمونها اللاءات السورية الواعية بالتحديات.

مضر أبو الهيجاء فلسطين-جنين الشام 4/12/2025