أبو لُبابة بن عبد المنذر الأنصاري هو بشير بن عبد المنذر من قبيلة الأوس، من الصحابة المشهورين في المدينة، ومن أوائل من أسلم من الأنصار، وشهد البيعة مع النبي ﷺ، وكان له دور معروف في غزوة بني قريظة.
بينما كان ضوء الفجر الأول ينساب كالندى على جدران المدينة، كان رجلٌ يربط نفسه بعمود المسجد.
ليست هذه قصة أسرٍ تقليدي، بل قصة روحٍ أسرَتْ نفسها بيدها. أبو لبابة الأنصاري، ذاك الصحابي الذي شهد بدراً وأحداً،يتحول فجأة إلى سجين طوعي، مقيدٌ لا بحبال القيد، بل بخيوط الندم المتشابكة في أعماق وجدانه.تلك أحاسيس أرواح ارتقت وتعلقت بحب ربها لتستشعر ان مجرد الإيماءة او الإشارة في موضع ربما تكون خيانة.
الصدمة التي حرَّكت الضمير
كان الموقف أشبه بلقطة سينمائية مثقلة بالدراما الإنسانية: بنو قريظة محاصرون، النساء تبكي، و الأطفال يتعلقون بأهداب الخوف. ثم تأتي تلك الاستشارة المصيرية: “يا أبا لبابة، أننزل على حكم محمد؟
في تلك اللحظة الحرجة، حيث تختلط العواطف بالمسؤوليات، تأتي الإشارة الصامتة، يده تلمس حلقه.
إيماءة بسيطة، لكنها كانت قنبلة معنوية انفجرت في عالمه الداخلي.
ما إن ابتعد عن الموقع حتى أصابه ما يشبه الصعقة الوجودية : فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله.تلك الشفافية والمصداقية العالية التي تتحسس موضع قلب مؤمن بالله الواحد تبعث إشارات لتوقظ صاحبها
رغم اختفاء كل الشواهد على الذنب او الخطأ
إنها اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان فجأة الهوة بين ما هو عليه وما ينبغي أن يكون.
إنها المساحة العلوية التي ترتقي إليها النفوس الطاهرة، وكل نفس ترتقي بقدر إرادتها ورغبتها.
السجن الاختياري
لم يذهب أبو لبابة إلى بيته ليختفي في زوايا النسيان، ولم يبحث عن مبررات تلطف من حدة الخطأ. ذهب مباشرة إلى المسجد ذلك المكان الذي تتعالى فيه الأرواح، وربط نفسه بسارية من سواري بيت الله.وحيث رحاب المسجد النبوي الشريف كان شرف الإعذار ورغبة الإعتذار جامحة بكل حرية واختيار.
كان حبله المادي رمزياً لحبل الندم الذي لفَّ قلبه. جلس هناك ست ليالٍ أو يزيد لا يذوق طعاماً ولا شراباً، كأنما يريد أن يطهر جسده كما يطهر روحه. الناس يمرون به في صلواتهم، وهو يقبع في سجنه الطوعي، كل نظرة منهم تزيده إحساساً بالذنب، وكل صلاة تذكره بعظمة الذي أخطأ في حقه.
فلسفة العقاب الذاتي:
هنا تكمن العبقرية التربوية في الموقف: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو من فرض العقاب، بل كان أبو لبابة هو من اخترعه لنفسه.
في هذا درس بليغ: حين يكون الضمير حياً، فإنه يبتكر وسائل تأديب تفوق في قسوتها أي عقاب خارجي.
كم من إشارة أو إيماءة فعلناها دون إدراك مغزاها أو عواقب فعلها، وكم تحركت ضمائرنا استغفارا وتوبة او اعتذارا او مسامحة، بل كم من تهمة وزعناها على أقراننا من نعرفه او لا نعرفه من دون دليل عليها او أصل لها؟
كيف تعاملنا معها و تجاوزناها،وكم من نفس توجعت وتألمت ولم نشعر بها او نستشعر المها وحزنها؟
كان أبو لبابة يقول بعمق وجودي:لا أفك نفسي حتى يكون الله هو الذي يفكني”. إنها علاقة مباشرة مع الخالق، تتجاوز كل الوساطات البشرية. كأنه يعلن:خطيئتي كانت مع الله، وتوبتي ستكون مباشرة معه.
استشعار ذنوب الخلوات واستدرار الرحمات هي من المنجيات، وإن الحسنات يذهبن السيئات.
الرحمة التي تأتي مع الفجر
وبعد ليالٍ من العذاب النفسي الذي يكاد يفتت الروح، يأتي الفرج مع أول خيوط الفجر. الوحي ينزل:قد تاب الله على أبي لبابة.
لكن الملاحظة العميقة هنا: لم يأتِ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، بل أرسل الناس. كأنما السماء تقول: التوبة ليست منحة تُمنح، بل هي استجابة لصرخة صادقة خرجت من أعماق الوجدان.
وعندما أصر أبو لبابة أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، جاء النبي الكريم وفك وثاقه بيده الشريفة. في هذه اللحظة، كان الفعل رمزياً: تحرير الإنسان من سجن ذنبه لا يتم إلا برحمة القيادة الحكيمة.
التوبة كعملية متكاملة
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
(التوبة: 102)
ما إن تحرر أبو لبابة من وثاقه المادي، حتى بدأ يفكر في وثاقه المعنوي. قال:إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي وأن أتصدق بمالي كله”.
هنا يتجلى فهم عميق للتوبة: ليست مجرد كلمات تقال، بل عملية وجودية تشمل المكان والملكية والذات كلها.
ورد النبي صلى الله عليه وسلم بحكمة بالغة: يجزئك الثلث. إنها الموازنة الدقيقة بين شدة التائب ورحمة المرشد. التطهير لا يعني التدمير الذاتي، بل يعني إعادة البناء على أسس جديدة.
الدروس الخالدة:
سلم التوبة الرباعي
١- الاعتراف: علمت أني قد خنت، البداية تكون بالاعتراف الجريء دون مواربة.
٢- الانكفاء الذاتي: الربط في المسجد العزلة المؤقتة للتأمل والتطهير.
٣- الصبر على العقاب الذاتي: الست ليالٍ، التوبة تحتاج زمناً واصطباراً.
٤- إعادة البناء: التصدق بالثلث، تحويل الطاقة السلبية للندم إلى عمل إيجابي.
ومن بين ما سبق فالحال تقدر بقدرها ولكل حادث حديث.
نحو ثقافة توبة حية
قصة أبي لبابة ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي منهج حياة. إنها تذكرنا أن الخطأ، حتى الكبير منه، ليس نهاية المطاف، بل قد يكون بداية لارتقاء روحي لم يكن ممكناً دون السقوط أولاً.
في عصرنا هذا، حيث يتحول الخطأ أحياناً إلى عارٍ لا يُغتفر، ويثار الجدال حول الأخطاء أكثر من البحث عن سبل التصحيح، تأتي قصة أبي لبابة لترسم لنا خارطة طريق: طريق يبدأ بالاعتراف، ويمر بالمحاسبة الذاتية، وينتهي بالعودة المقبولة.
فليتعلم العاملون في حقل الدعوة أن أعظم قوة هي قوة الاعتراف بالخطأ، وأجمل عودة هي عودة التائب الخاشع، وأصدق توبة هي التي تتحول من دموع العين إلى عمل في الأرض.
فكما تحرر أبو لبابة من وثاق السارية، فليتحرر كل مخطئ من وثاق الكبرياء، وليتعلم أن رباط الضمير الحي خير من حرية الضمير الميت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق