الخميس، 4 يوليو 2013

مصر بين إسقاط الدولة وإسقاط النظام

مصر بين إسقاط الدولة وإسقاط النظام

 "لن تنتهي مطالبنا عند المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة، بل سنحل الحكومة ونلغي الدستور ونحل مجلس الشورى، ونلغي حركة المحافظين الجديدة".
 شريف عبد العزيز الزهيري
shabdazizabd@hotmail.com
بهذه العبارة الصادمة كشف محمود بدر مؤسس حركة "تمرد" عن طبيعة حركتهم ومطالبهم منها، والتي نستطيع أن نصفها بعبارة واحدة مختصرة وهي إسقاط الدولة المصرية الجديدة، وإهدار كل منجزاتها التي تحققت بعد الثورة، فليس لحل كل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية معنى سوى إسقاط الدولة وليس إسقاط النظام، والسير بالدولة على طريق اللا دولة، والعودة بالدولة إلى صورتها الأولية البدائية.

فمفهوم الدولة تطور عبر التاريخ من صورتها البسيطة الأولية ممثلة في القبيلة والعشيرة التي يحكمها أكبر أفراد القبيلة سنًّا أو مكانة ونفوذًا بطريقة أبوية تتماشى مع طبيعة الدولة وقتها، تطور مفهوم الدولة، حتى وصل إلى مفهوم الدولة القومية المعاصرة والتي قامت على أسس ونظم في إدارة شئون الدولة وأمور الحكم، تعود في مجملها لقاعدة الاتفاق والتراضي بين الحاكمين والمحكومين، والاتفاق على أدوات تنظيم الحكم من التداول السلمي والاحتكام للشعب عند الاختلاف، والرضا باختياراته في عقد اجتماعي جديد ينظم هذه العلاقات الاجتماعية والسياسية في الدولة القومية الحديثة، ويحمي المجتمع والجمهور من تغول الحاكمين.

مصر تعرضت لخطة ممنهجة منذ ثورة 52 من أجل إحداث تعويق  كامل للتفاعلات المجتمعية بمختلف مجالاتها، وإجبار عموم الناس على الانصراف إلى شئونهم الخاصة إيثارًا للسلامة، واقتناعًا بأن مشاركتهم في العمل العام لن تجدي في تغيير مسار البلاد، وأن البلاد قد أضحت أسيرة سلطة بوليسية جبارة لا قبل لهم بمواجهتها، وما صاحب ذلك من شيوع ثقافة وسيكولوجية انهزامية تواكلية، جعلت الشعوب يؤثرون الانكفاء على الذات، والاهتمام بشئونهم، وظل المصريون هكذا طيلة ستين سنة قانعين بأن أفضل وأسلم طريق للعيش الآمن أن تعيش في عالمك الخاص، ولا تتدخل مطلقًا في الشأن العام، فلما قامت الثورة المجيدة في يناير 2011، وجد المصريون أنفسهم فجأة أمام أبواب الحرية مشرعة على آخرها، فلا قيود، ولا حدود، ولا سلطة من قانون أو قوة قاهرة، فكانت الفوضى هي شعار المرحلة، فوضى في عالم الإنشاءات المعمارية والتعدي على أراضي الدولة، وافتراش الباعة الجائلين الطرق والأرصفة في المدن، ولتسير السيارات وتتوقف كما يحلو لسائقيها، ضاربين عرض الحائط بكل ما كانوا مجبرين عليه في السابق من سلوكيات تراعي إلى حد ولو يسير انتظام واحترام قواعد الحركة، وكنا جميعًا ننتقد وقتها تدني درجة الالتزام، ونلقي بالتبعة كعادتنا على تخاذل الدولة عن تحقيق الانضباط في الشارع، هذا بالطبع بخلاف تفشي حالات السطو والبلطجة التي أصبحت مهنة من أكبر المهن الرائجة في مصر بعد الثورة، وليس فقط لإنصاف الوضع الراهن ينبغي أن نقر أننا أمام حالة تسيب تتفاقم، لكنها في أصلها موروثة ومتأصلة منذ السنوات الأخيرة للعهد السابق، بسبب سنوات القهر والطغيان والحرمان، مما يعني أن الفوضى ليست مستجدة أو مستحدثة على الشعب المصري، وبدا للمراقب الخارجي أن المصريين أبعد ما يكونون عن إدراك معنى الحرية والالتزام بقواعدها وسلوكياتها وقيمها.

هذا على المستوى السلوكي الاجتماعي، أما على المستوى السياسي فقد كانت الفوضى أشد وأخطر، فالقوى الليبرالية والعلمانية التي خسرت رهاناتها الانتخابية كلها من أول الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 19 مارس 2011 حتى الاستفتاء على الدستور الجديد في 15 ديسمبر 2012، قررت أن تغير قواعد بناء الدول الحديثة، وتخلت عن المبادئ الديمقراطية التي كانت من قبل تعتبرها دينًا تأبى الطعن فيه، فإذا بها ترفض الاحتكام إلى الشعب، وتهدر أبسط قواعد الحياة النيابية والبرلمانية المتعارف عليها دوليًّا، وتحاول بكل قوة تعويق أي حركة للأمام من النظام الجديد، حتى تدهورت الأوضاع المعيشية في مصر بشدة، وانتقلت من المركز الـ45 في ترتيب الدول الفاشلة إلى المركز الـ34 مسجلة أعلى مستوى من الفشل المجتمعي والسياسي.

 ولما فشلت كل محاولات المعارضة السياسية في الوصول إلى الحكم أو السلطة، ذهبت إلى أبعد مدى في الانحطاط والانتهازية السياسية، وهو تفريغ الدولة من معناها، فأصبح الخيار المفضل لهم هو هدم الدولة كلها، وتفكيك كل مقومات وأركان الدولة بسلطاتها ومؤسساتها المعروفة، ومن ثم كانت الفكرة الشيطانية لحركة "تمرد" التي كانت بمثابة الإطار الحركي الجامع لكل أعداء الثورة والنظام الجديد من ساسة فاشلين، وأنصار الدولة البائدة، وأيديولوجيين حاقدين، وأقليات وطوائف، وموظفين ومسئولين فاسدين، وبلطجية مأجورين، وشريحة كبيرة من المخدوعين والواهمين والمحبطين من الأزمات المتتالية في الشارع المصري.


واليوم مصر على موعد مع حالة ثورية من طراز جديد، تدخل به مصر ومن أوسع الأبواب نادي الدول الأكثر فشلاً في العالم، بجوار الصومال وليبريا وتشاد والسودان وهايتي وغيرهم من الدول الفارغة من السلطة المركزية، حالة ثورية فريدة لم نجد لها نظيرًا في تاريخ الثورات، ينتظم فيها الضحية بجوار قاتله، الفلولي مع الثوري، السارق مع المسروق، الظالم مع المظلوم، ثورة على الطراز الروماني، يستدعى فيها الفلول وأنصار النظام القديم من أجل قيادة ثورة المخدوعين والمحبطين الذين لا يفرقون بين إسقاط الدولة وإسقاط النظام، وذلك من أجل تفكيك الدولة المصرية، والعودة بالدولة من إطارها القومي المعاصر إلى عصر اللا دولة، حيث الفشل الكامل في توصيل الخدمات السياسية الأساسية للجمهور، فهل سيوافق المصريون على العيش في عصر اللا دولة؟ أم أنهم سيدافعون عن الشرعية وبقاء الدولة الجديدة بمؤسساتها؟ أم أن الحنين إلى أيام الماضي سيعود بالقطيع عفوًا الجميع إلى حظيرة مبارك؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق