الأربعاء، 17 يوليو 2013

انتصار لزمن الفرجة


انتصار لزمن الفرجة

فهمي هويدي
في يوم 30 يونيو كتبت مصر فصلا مثيرا في حوليات زمن الفرجة، وقدمت دليلا ناصعا على ان الصورة لم تعد تشكل الإدراك فحسب، وانما صارت تصنع التاريخ أيضا.
وزمن الفرجة كما قد يتذكر البعض عنوان شغل بعض الباحثين الغربيين في السنوات الأخيرة، التي حققت فيها ثورة الاتصال قفزاتها الكبيرة، بحيث استطاعت ان تحكم سيطرتها على الادراك العام، على نحو جعله يتشكل في ضوء ما يتلقاه السمع والبصر، وليس تبعا لمقتضى العقل.
وكنت قد تعرضت للموضوع في مقالة نشرت في 18 ديسمبر من العام الماضي تحت عنوان: الصراع في زمن الفرجة.
أشرت في ثناياه إلى كتاب «حضارة الفرجة» الذي أصدره أحد المثقفين في بيرو بأمريكا اللاتينية (ماريو فارجاس يوسا)، وشرح فيه فكرته في ان المجتمع الحديث أصبح اسير أدوات ثورة الاتصال، التي باتت قادرة على صنع الرموز وإيداع القيم وإعادة تشكيل حقائق الحياة، الأمر الذي أدى إلى تراجع السمع والبصر وتراجع دور العقل حتى أصبحت قيمة المفكر تقاس بمقدار مسايرته لهذه الموضة، التي تحوله في نهاية المطاف إلى مهرج، على حد تعبيره.
ما حدث في 30 يونيو والتداعيات التي ترتبت عليه قدم دليلا جديدا على قوة حضارة الفرجة وسلطانها.
إذ حين خرجت الحشود في ذلك اليوم ملبية نداء حركة «تمرد» الذي اصطفت حوله المعارضة، وتولت تسويقه القنوات الفضائية طوال الأسابيع التي سبقت ذلك التاريخ، فإن الكاميرات تابعت الحشود وحرصت على تصوير مسيراتها، تحت الاستعانة بطائرات القوات المسلحة لالتقاط الصور من الجو.
وتعددت الروايات التي قدرت أعداد الخارجين بنحو 14 مليونا مرة و20 مليونا مرة ثانية. وأوصل البعض الرقم إلى أكثر من ثلاثين مليونا.
وهذه التقديرات المستندة إلى كثافة الحشود سوغت لكثيرين أن يقولوا إن مصر كلها خرجت مطالبة برحيل الدكتور محمد مرسي.
تحدثت بعض التقارير الصحفية عن ان ما شهدته مصر يومذاك كان الاحتجاجات الأكبر في تاريخ البشرية.
وحين دخلت القوات المسلحة على الخط فإن البيان الذي أصدرته اتكأ على هذه الخلفية وقال ان شعب مصر نادى بصوته الجهوري وملايينه التي خرجت إلى الشوارع، وان كل ما فعلته تلك القوات انها لبت النداء، حيث ما كان للجيش ان يخذل الشعب.
حين تراجع الانفعال وذهبت السكرة ظهرت أصوات دعت إلى إعادة النظر في تلك الانطباعات.
وبث موقع الـ«بي بي سي» في 16/7 تقريرا ناقش الأرقام التي تم تداولها في 30 يونيو والأيام التي أعقبته.
وكان الشيء الوحيد الذي لم تراجعه أن الذي جرى في مصر هو انقلاب عسكري حظي بدعم شعبي، في نفس الوقت، فإنها اعتبرت القول بأن الاحتجاجات هي الأكبر في تاريخ البشرية من قبيل المزاعم التي يتعذر التسليم بها، واستندت إلى آراء عدد من الخبراء الذين قرروا ان ثمة تلاعبا واضحا ومفهوما في الأرقام، لأن من الطبيعي في هذه الحالة أن يؤكد أصحاب المصلحة على أن الجماهير والميادين كلها تدعمهم.
ولذلك فإنه يعمدون إلى المبالغة في تقدير مؤيديهم. من ثم فإن إحصاء الأرقام أصبح مرتبطا بالدعاية وتسجيل النقاط وليس الهدف منه الوصول إلى الحقيقة ــ وفي ثنايا التقرير ذكرت الـ«بي بي سي» ان طاقة استيعاب ميدان التحرير لا تكاد تتجاوز 500 ألف شخص.
بالتزامن مع ذلك تلقيت في بريدي الإلكتروني خلاصة دراسة أجراها في مصر خبير الاتصالات والإلكترونيات في مصر المهندس أمجد المنذر، الذي انزل إسقاطا لميدان التحرير والشوارع المتفرعة عنه، وذلك عن طريق التطبيق المعروف بـ«جوجل إيرث».
ثم قام بقياس مساحة الميدان وجميع الشوارع التي ظهرت مليئة بالبشر في فيلم مخرج السينما وعضو جبهة الإنقاذ، الذي صوره مستعينا في ذلك بإحدى طائرات القوات المسلحة.
وجد صاحبنا ان مساحة الميدان نحو 50 ألف متر مربع، وهي تعادل تقريبا مجموع مساحات الشوارع المتفرعة عنه حتى كوبري قصر النيل، بما يعني ان مجمل المساحة التي تم تصويرها قرابة مائة ألف متر مربع.
وقال في تحليله انه مع افتراض انه لا يمكن ان يجتمع أكثر من أربعة أشخاص في المتر المربع الواحد، ومع افتراض ان الكثافة كانت متحققة في جميع الأماكن، فذلك يعني أن الذين خرجوا في القاهرة يوم 30/6 لا يمكن ان يتجاوز 400 ألف شخص.
ومع افتراض ان الذين تظاهروا في المحافظات الأخرى بنفس العدد أو أكثر قليلا، فمعنى ذلك أن مجموع الذين خرجوا في ذلك اليوم لا يمكن أن يتجاوز عددهم مليون شخص أو أكثر قليلا. ورغم أن تلك هي الحقيقة العلمية إلا أن الصورة جعلتهم 30 مليونا.
وذلك أكبر انتصار لزمن الفرجة الذي كان يمكن أن نخرج من متاهته لو أتيح لنا أن نحسم الأمر عبر الصناديق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق